الترجمة بين الطرح الفلسفي والتأويل الثيولوجي


فئة :  مقالات

الترجمة بين الطرح الفلسفي والتأويل الثيولوجي

الترجمة بين الطرح الفلسفي والتأويل الثيولوجي

قراءة في مشروعي عبد السلام بنعبد العالي وطه عبد الرحمان

مراد الخطيبي

ملخص:

تتناول الدراسة موضوع الترجمة من خلال زاويتين نقديتين ومعرفيتين ومختلفتين؛ الزاوية الأولى هي زاوية فلسفية، ويتم تناولها من خلال الطرح الذي تقدم به الباحث والفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي الذي يعدّ من أهم المساهمين حاليا في مجال الترجميات. وتتمثل الزاوية الثانية، في الطرح الثيولوجي من خلال المفكر طه عبد الرحمن الذي يقيم حاجزا قويا بين الفلسفة والترجمة، ويفرق بالتالي بين ثلاثة أنماط من الترجمة كلها تتفق مجتمعة وبدرجات متفاوتة بإقامة الاختلاف بين الفلسفة والترجمة.

مقدمة:

يعدّ الباحث والفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي من أهم المساهمين في مجال الترجمة؛ فقد ترجم مجموعة من الأعمال الفكرية والفلسفية والنقدية المهمة، ترجم بعض أعمال جاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي ورولان بارث وعبد الفتاح كيليطو وغيرهم. وللباحث بنعبد العالي أيضا إسهامات كثيرة في مجال نظرية الترجمة. ومن مؤلفاته المهمة في هذا المجال كتابه الموسوم بـ: "في التــــرجمة"[1] الصادر عن دار توبقال للنشر سنة 2006. وقد ضم الكتاب ترجمة فرنسية أنجزها كمال تومي وقام بمراجعة الترجمة وتقديم المؤلف الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو.

يلامس الكتاب الذي يقع في 100 صفحة من الحجم المتوسط مجموعة من المواضيع من بينها المحاور التالية: الترجمة والميتافيزيقا والترجمة والمثاقفة وامتداح الخيانة وهجرة النص الفلسفي والترجمة أداة للتحديث؛ غير أن ما يهمنا في إشارتنا إلى هذا المؤلف، هو أن الكاتب يركز فيه على فرضية أساسية مفادها أن الترجمة هي قضية فلسفية بالدرجة الأولى. وينطلق الباحث في هذا الطرح العلمي، من كون الترجمة تتمدد نحو مجالات معرفية ولسانية وفكرية متعددة؛ ولذلك كانت موضوعا للبحث من قبل الأدباء واللسانيين والفلاسفة واللغويين وغيرهم، انطلاقا من زوايا انشغالهم واهتمامهم.

الترجمة باعتبارها قضية فلسفية:

يؤكد عبد السلام بنعبد العالي من خلال مشروعه الفكري حول الترجمة أن الترجمة هي قضية فلسفية عكس ما يطرحه بعض الدارسين والمفكرين على غرار المفكر طه عبد الرحمن الذي يقيم حاجزا قويا بين الفلسفة والترجمة، حيث يقول:

"السبب في ظهور الفلسفة هو إرادة إنسانية تمثلت في كون الإنسان قرر أن يستخدم العقل في تحصيل المعرفة بأسباب الوجود، بينما يبدو أن السبب في ظهور الترجمة هو إرادة إليه تجلت في كون الإله شاء أن تختلف الألسنة بين بني الإنسان، وأن تنزل الصحف المقدسة ببعض منها".[2]

ولتوضيح هذا الانفصال بين الفلسفة والترجمة، فإن طه عبد الرحمن يفرق بين ثلاثة أنماط من الترجمة كلها تتفق مجتمعة وبدرجات متفاوتة بإقامة الاختلاف بين الفلسفة والترجمة. وهذه الأنماط هي: الترجمة التحصيلية والترجمة التوصيلية والترجمة التأصيلية:

"وضعنا نموذجًا نظريًّا في ترجمة الفلسفة يتألف من مراتب ثلاث متفاوتة فيما بينها؛ أولاها: الترجمة التحصيلية، وتقع في التعارض الكلي بين الفلسفة والترجمة، وتتولى نقل كل ما في النصوص الأصلية من غير تمييز ولا تقويم، وتعمل جاهدة على محاكاة الصور التعبيرية لهذه النصوص، ألفاظًا وتراكيب، فيكون مآلها تطويل العبارة بما يرهق الفكر ويزهق الوقت. والثانية: الترجمة التوصيلية، وتبقي على تعارض جزئي بين الفلسفة والترجمة، قد تشتد قوته أو تضعف، وذلك بحسب درجة التمسك بالصفات التقليدية للفلسفة، كما أنها تنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال ظاهر بالقواعد المقررة للغة وبالأركان الأساسية للعقيدة، وتبذل غاية الجهد في نقل كل ما يحتمل الانتساب إلى حقل المعرفة من غير كبير تفريق ولا دقيق تقدير. والثالثة: الترجمة التأصيلية، وترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه "اللغوية والعقدية والمعرفية" متوسلة في ذلك بأنجع أدوات التمييز والتقويم؛ لأن العبرة هنا ليست بالحكاية عن الغير، وإنما بتمكين الذات من الممارسة الفكرية".[3]

بيد أن الباحث عبد السلام بنعبد العالي يؤكد القول أن الترجمة هي بالأساس قضية فلسفية، وقبل مقارعته لها التصور العلمي، فإنه يتحدث عن البدايات المؤسسة للترجمة مشيرا إلى أن قصة الترجمة المركزية تتمثل في قصة بابل:

"وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاما واحدا، وكان أنهم لما رحلوا نحو المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا وننضجه طبخا، فكان لهم اللبن بدل الحجارة والحمر كان لهم بدل الطين. وقالو تعالوا نبنِ لنا مدينة وبرجاً رأسه إلى السماء، ونقم لنا اسماً كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها. فنزل الرب كي ينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه الآن. والآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط ونبلبل هنالك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، وكفوا عن بناء المدينة ولذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها، ومن هناك شتتهم الرب على كل وجهها ...".[4]

من هذا المنطلق، فإذا كانت قصة بابل تحيل إلى البناء، فإن الفلسفة كما يؤكد ذلك عبد السلام بنعبد العالي تسعى إلى تفكيك هذا البناء عن طريق الترجمة والاختلاف والتعددية، وتصبح الترجمة التي هي في الأصل عمل داخل اللغة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفلسفة:

"مقابل البناء تحاول الفلسفة اليوم فك البناء، مقابل بناء البرج وبناء اللغة الواجدة والمعنى الواحد والهوية الواحدة، تضع الفلسفة اليوم التفكيك وفك البناء والبلبلة والترجمة والاختلاف والتعدد.. فليس من الغرابة، إذن، أن تتحدد استراتيجية التفكيك باستراتيجية الترجمة، وأن تصبح الترجمة قضية الفلسفة، ويغدو الفكر تحويلا للميتافيزيقا وترجمة لها."[5]

ويبرر الباحث عبد السلام بنعبد العالي علاقة الترجمة بالميتافيزيقا بكون الترجمات الأولى بدأت مع ترجمة فلسفات أفلاطون وهيغل ولايبينتز؛ لأن المهم في أي كتاب هو المعنى. يقول بنعبد العالي:

"فمادام المهم في الكتابة هو المعنى، المعنى السابق على الكتابة واللغة، فبإمكان هذا أن ينتقل من لغة إلى أخرى، من دال إلى آخر. والترجمة كنقل لمحتوى دلالي، من شكل في الدلالة إلى آخر، عملية ممكنة. صحيح أنها تطرح بعض الصعوبات، مادامت تريد أن تضع نصا يقول "الشيء نفسه"، ويرمي إلى "الغاية نفسها"، ولكنها غاية ممكنة."[6]

طبعا، يبقى المعنى هو ما يهم بالدرجة الأولى في عملية الترجمة. ولنقل هذا المعنى، يؤكد عبد السلام بعبد العالي على دور المترجم الأساسي في عملية الترجمة؛ فالمترجم في نظره ينبغي أن يكون قادرا على تجاوز الصعوبات التي يخلقها تعدد اللغات والثقافات التي تحملها؛ فالمترجم يجب أن يكون قادرا على الإتيان بنص مشابه للنص الأصلي وإذابة المسافة الموجودة بين النص الأصلي والترجمة.

يقول عبد السلام بنعبد العالي:

"هذه الإمكانية، إمكانية إدراك المعنى الأصلي للنص، إمكانية بلوغ النص في حقيقته، ثم نقله واستنساخه، ليست مجرد عملية من بين عمليات أخرى. إنها تشكل بنية الميتافيزيقا كميتافيزيقا، إنها البنية الأفلاطونية للميتافيزيقا: فليست الأفلاطونية، أساسا، هي التمييز بين عالم المثل أو المعاني، وعالم المحسوسات، بين النماذج والنسخ، وإنما هي، كما بين دولوز، وقوف عند النسخ ذاتها وفحصها لإظهار ما ينتسب إلى الأصل وما لا علاقة له به."[7]

لطالما ارتبطت الترجمة بمسألة الخيانة. وبدوره يورد عبد السلام بنعبد العالي موضوع الخيانة، ولكن بعيدا عن السمة الأخلاقية لكلمة "خيانة"، حيث يقوم بدحض فكرة ربط الترجمة بالخيانة، انطلاقا من طرح نقدي وعقلاني ومنطقي. ويرتكز مبرره النقدي على طرح جوهري وعميق يتمثل في أن إلصاق الخيانة بالترجمة التي هي كتابة في نهاية الأمر يفترض أن كل كتابة تمتلك معنى وحيدا في حين أن كل كتابة لها معاني متعددة. فقط ربما وجبت الإشارة إلى أن هذا الطرح النقدي المنطقي قد لا ينسحب على النصوص القانونية التي ينبغي أن تحيل إلى معنى واحد، رغم الغموض الذي يكتنفها في بعض الأحيان، والذي قد يؤدي إلى تعدد المعاني وتعدد الترجمات بطبيعة الحال.

وبالتالي، فقضية اللغة هي قضية مهمة في مجال الترجمة؛ لأن اللغة هي في الأساس لغات متعددة تعيش وتحيا داخل اللغة الواحدة:

"فالميتافيزيقا تريد أن تقهر تعدد الألسن وتقرب في ما بين اللغات. ولكن هل هناك وحدة حتى في لغة بينها؟ وما القول إن كانت كل منظومة لغوية تنطوي على تعدد؟ فكلنا يعيش لغات في اللغة، أو على الأقل يعيش التعرض بين لغة الأب والقانون، لغة الآخر الأكبر، ثم لغة الأم والجسم: فهل يمكن للترجمة أن توحد هذا التعدد؟ وما القول في النصوص، وما أكثرها اليوم، التي تكتب بعدة لغات، والتي تورد عدة ألفاظ، بل تقتبس نصوصا متنوعة تنقلها من لغات متباينة. هناك دوما نصوص أخرى تكون في أغلب الأحيان من اللغة نفسها ليست حاضرة في النص ولكنها مرتبطة به."[8]

الترجمة بين الخيانة وبعث الحياة في النصوص:

وإذا كانت الترجمة دائما ما يتم ربطها بالخيانة تلك السمة ذات النفحة الثيولوجية، فإن عبد السلام بنعبد العالي يؤكد أن اللغة في حقيقة الأمر هي الخائنة:

"هناك ترجمات تكتسب أهميتها التاريخية من خيانتها للنص، إن صح التعبير، بل إن من الأدباء من يهتم بالترجمة فقط بقصد الاغتراب والخروج من المألوف والابتعاد عن اللغة المكرورة. إنهم يجيئون إلى الترجمة بالضبط لما تنطوي عليه عمليتها من "خيانة" وغرابة".[9]

إذن، فالترجمة رغم ما قد يمسها من انتقاد أو انتقاص، إلا أن أهميتها كبيرة ثقافيا ولغويا وفكريا وفلسفيا وقيمتها المعرفية مهمة جدا، وهي تساهم في إحياء نصوص قديمة طالها النسيان منذ أمد طويل:

"فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة في الوقت ذاته. فإذا كان في الإمكان ترجمة ما ترجمة نهائية، فإنه يموت، يموت كنص وكتابة."[10]

لهذا، فإن الحياة تعود لبعض النصوص من خلال الترجمة ومن خلال اللغة الهدف، وهذا ينطبق على الفكر اليوناني والفرنسي والعربي والأدب الأفريقي، وأيضا الفكر الألماني كما يؤكد على ذلك عبد السلام بتعبد العالي، حيث يقول:

""إن الفكر الألماني لم يعد يحيا إلا في الترجمات الفرنسية". بهذا المعنى تنقلب مهمة الترجمة ويعلو شأنها، فتصبح هي ما ينفخ الحياة في النصوص وينقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغة إلى أخرى، وهنا يصح أن نقول إن نيتشه (أو هايدغر أو فرويد) لا يحيا اليوم إلا عند فوكو أو دريدا أو لاكان، لا يحيا اليوم إلا لأنه يتكلم الفرنسية، شأن أرسطو الذي لم يكن له أن يدوم ويستمر في البقاء لو لم يتكلم السريانية، فالعربية، فاللاتينية، فالألمانية. والأهم من ذلك أنه لن يحيا استقبالا، لن يبعث إلا إذا تكلم لغة أخرى."[11]

و لأن الترجمة تسعى إلى بعث الحياة في النصوص، فإنها لا تكون نهائية، ولا سيما أن النص الواحد يتوفر على ترجمات متعددة ومختلفة. ويبقى المترجم هو القادر على جعل النصوص حية لا تموت:

"فالمترجم مبدع في لغة أخرى، أو على الأصح مبدع في اللغة. ومن أجل ذلك، فلا يكون عليه أن ينقل النص وينسخه، ولا أن يهتم بتبليغ معناه الأصلي ]....[إن مهمة المترجم، كما قلنا، هي أن يسمح للنص بأن يبقى ويدوم].. [؛ أي أن ينمو ويتكاثر. فترجمات نص هي ما يشكل "تاريخه"، ولكنه تاريخ ينطوي على صراع واختلاف. وما ترمي إليه الميتافيزيقا هو اختزال هذا الاختلاف (اللغوي والثقافي والإيديولوجي) ورده إلى وحدة. حل المسائل التي تطرح عادة بصدد الترجمة تطرح بغية الاختلاف."[12]

في باب الخيانة في الترجمة دائما، يؤكد عبد السلام بنعبد العالي أن الخيانة تبقى سمة أساسية من سمات الكتابة في حد ذاتها، والكتابة هي في الأصل ترجمة كما يقول عبد الكبير الخطيبي:

"فإن لم تكن هناك حقيقة نخونها، فهناك بالرغم من ذلك لعبة الحقيقة التي هي لعبة الخيانات التي لا تنقطع. في الترجمة، كما في كل كتابة، ليس هناك تملك فعلي للحقيقة، ليس هناك إلا "الفانتاسم"، إلا الاستيهام، إلا الرغبة في تملك الحقيقة من دون أن يكون هناك معنى حقيقي. ليس هناك ما نخونه ولا من نخونه في النص، ولكن الخيانة هي سمة الكتابة ذاتها."[13]

تساهم الترجمة في إنتاج نصوص جديدة وترجمات متعددة بلغات كثيرة، لكنها مختلفة بأنساقها وعوالمها الثقافية والتركيبية والمعرفية. وهذه الإيجابيات على مستوى الترجمة، باعتبارها إنتاجا للنصوص تستدعي تناسخا بين اللغات كما يقول عبد السلام بنعبد العالي:

"النسخة المترجمة تسمح للنص بأن يتناسخ من لغة للأخرى، بل تسمح للغة ذاتها بالتناسخ؛ غير أن التناسخ هنا ليس مجرد تناسخ لأرواح لا ينال من جسم الكتابة.

وبعد، فهل الترجمة ممكنةّ؟

إنها ممكنة، وغير ممكنة في الوقت ذاته؛ ولأنها كذلك، فهناك نصوص وهناك لغات."[14]

يستفيض عبد السلام بنعبد العالي في تناوله لمسألة الخيانة في الترجمة ليعمد إلى تفكيك العبارة المشهورة: "كل ترجمة هي بمثابة خيانة"، فيؤكد أن لهذه العبارة أسسا فلسفية وشعرية تؤسسها؛ لأن المهم في الكتابة وكما سلف الذكر هو المعنى وليس غير المعنى، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تعدد الترجمات الناتج بطبيعة الحال عن تعدد المعاني والقراءات والتأويلات أيضا:

"مادام المهم في الكتابة هو المعنى، المعنى السابق على الكتابة واللغة. فبإمكان هذا المعنى أن ينتقل من لغة إلى أخرى، من دال إلى آخر. وهذه عملية وممكنة ومشروعة؛ صحيح أنها تطرح بعض الصعوبات، مادامت تريد أن تضع نصا يقول الشيء نفسه، ويرمي إلى الغاية نفسها، لكنها عملية ممكنة. مهمة المترجم وقيمته تتجليان في مدى قهره للصعوبات التي يطرحها تعدد اللغات وتباين الثقافات، مهمته أن يقهر الاختلاف الثقافي واللغوي، وأن يمحو اسمه ليسمح لكاتب النص الأصلي أن يتكلم بلغة أخرى من دون أن يفقد هويته."[15]

في تناوله لإشكالية الترجمة، ربط حاك دريدا قضية الترجمة بمفهوم التحويل Transformation وقد استعار عبد السلام بنعبد العالي هذا المفهوم وأحاطه بجملة من المحددات المعرفية والعلمية مؤكدا أن القصد من التحويل في الترجمة تحويل النص واللغة معا؛ فالنصوص المترجمة تملك روائح اللغات الأصلية:

"لا ينبغي أن نفهم التحويل هنا في اتجاه واحد. الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله تحول في ذاته اللغة المترجمة. ويمكن أن نتذكر هنا ما حدث للكتابة باللغة الفرنسية، عندما تفتحت على الأدب الأمريكي وأخذت تترجمه، بل إن هذا ما نلاحظه اليوم في اللغة العربية، حيث أصبحنا نشتم في نصوصها رائحة اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. فليست الترجمة إذن، هي ما يضمن حياة النص المترجم ونموه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن أيضا حياة اللغة والفكر ونموهما وتكاثرهما."[16]

وبالتالي، وكما يرى عبد السلام بنعبد العالي، فمسألة الخيانة في الترجمة ومن خلال ما تطرحه من بعد أخلاقي، فإنها تقتضي وجود نص معين بمعنى واحد لا ينبغي للمترجم أن يزيغ عنه في سبيل الوفاء للنص الأصلي. لكن كيف يمكن الحديث عن الخيانة في الترجمة والكتابة التي هي في حد ذاتها "خيانة للغة" كما يقول رولان بارت.؟ ينتقل بنعبد العالي في تعميق مناقشته لمسألة الخيانة في الترجمة، حيث يوضح أن لفظا واحدا يمكن أن تجد له معاني عدة تتنافر وتتناقض أحيانا:

"فماذا لو تبنينا النظرية السيميولوجية المعاصرة التي ترى أن في اللفظ فائضا في المعنى، وأن النص ما أن يكتب حتى يدخل في دوامة التأويل اللامتناهية. وحينئذ هل يبقى للترجمة، كنسخة تطابق الأصل وتنقله وتستنسخه، هل يبقى لها معنى؟ فأي أصل هذا الذي ستأخذ به عملية الترجمة؟ إنها لابد وأن تنتفي نسخة ما عن الأصل لتترجمه. وحينئذ ستغدو الترجمة نسخة عن نسخة، وتأويلا لتأويل، تأويلا من الدرجة الثانية إن صح التعبير."[17]

بنعبد العالي يؤكد إذن أن مسألة الخيانة في الترجمة مسألة متجاوزة، باعتبار أن النص المترجم لا يعتبر أصليا بالمعنى الظاهر للكلمة، بل نسخة فقط لأن النص الأصلي لا يحتمل معنى واحدا، بل تأويلات كثيرة وبالتالي نصوصا كثيرة مادامت مفردة واحدة تحتمل عدة معاني كما سلف الذكر.

ويخلص بنعبد العالي في تصوره النقدي والفلسفي لمسألة الخيانة في تجريدها من ذلك الثوب الأخلاقي الذي كثيرا ما ألصق بها ليجيب بمبررات منطقية لا تخلو من سمة السخرية التي تطبع عادة الفلاسفة ومفندا بذلك كل النظريات والطروحات النقدية التي بقيت حبيسة تلك العبارة المشهورة "كل ترجمة خيانة":

"إن المفهوم الثيولوجي عن الترجمة يقول بالخيانة؛ لأنه يفترض أن وراء عملية الترجمة شخصا أخلاقيا. وقد سبق أن بينا أن الترجمة مرتبطة بفاعل يتجاوز الأشخاص الأخلاقيين، وقلنا إن الذات المترجمة هي اللغة نفسها. من هنا تتهاوى كل أخلاقيات الترجمة. لكن تتهاوى كذلك ميتافيزيقا الترجمة وثيولوجيا الاستنساخ. وتنفجر الدائرة وتتفكك، لا لتتحول إلى خط مستقيم هذه المرة، وإنما لتولد دوائر لا تنفك عن التوالد."[18]

خاتمة:

هكذا إذن، فإن مشروع عبد السلام بنعبد العالي حول الترجمة يقيم حدا فاصلا بين عالم الفلسفة الذي تقيم فيه باعتبارها قضية فلسفية أساسا، وبين عالم الثيولوجيا الذي يحمل كل التصورات والأفكار التي تحوم حول الترجمة بكونها طرحا أخلاقيا. مشروع عبد السلام بنعبد العالي حول الترجمة ينزاح بمنطق واضح نحو الفلسفة وفي الآن نفسه ينتقد وبسخرية لاذعة الطرح الأخلاقي للترجمة بإلصاقها لمسألة الخيانة، والذي ظلت بعض الدراسات الترجمية متشبثة به إلى الآن. ويمكن إجمال موقف عبد السلام بنعبد العالي النقدي والفكري من هذا الطرح الأخلاقي في قولته التالية التي تؤكد وبسخرية بديعة أن المتدخل الأساسي في عملية الترجمة هو "اللغة المترجمة (بكسر الجيم)":

"إن هذا الطرح الأخلاقي لعملية الترجمة، والذي يربط الترجمة بالوفاء والخيانة، يفترض، وراء عملية الترجمة، شخصا أخلاقيا une personne morale له حقوق وأن عليه واجبات، شخصا هو المسؤول عن عملية الترجمة. إنه يفترض أن الذي يترجم شخص. ولكن من يترجم بالفعل؟ أو على الأصح ما هو الذي يترجم؟ ربما كانت الترجمة مرتبطة بفاعل يتجاوز الأفراد والأشخاص الأخلاقيين؛ ذلك أن الذات المترجمة (بكسر الجيم) le sujet de la traduction هي اللغة نفسها. من هنا تتهاوى كل أخلاقيات الترجمة. الفاعل المسؤول عن عملية الترجمة هو اللغة المترجمة (بكسر الجيم)."[19]

 

[1] بنعبد العالي عبد السلام، "في الترجمة"، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2006

[2] طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص..103

[3] طه عبدالرحمن، فقه الفلسفة، 1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص..404

[4] سفر التكوين، 10 /1، دار المشرق، 1983

[5] بنعبد العالي عبد السلام، "في الترجمة"، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2006، ص.14

[6] المرجع نفسه، ص.17

[7] المرجع نفسه، ص.17

[8] المرجع نفسه، ص.19

[9] المرجع نفسه، ص.21

[10] المرجع نفسه، ص.21

[11] المرجع نفسه، ص.31

[12] المرجع نفسه، ص.22

[13] المرجع نفسه، ص.25

[14] المرجع نفسه، ص.27

[15] المرجع نفسه، ص.36

[16] المرجع نفسه، ص.32

[17] المرجع نفسه، ص.38

[18] المرجع نفسه، ص.57

[19] المرجع نفسه، ص.38