الفقيه الحركي و المفكر الكوني


فئة :  مقالات

الفقيه الحركي و المفكر الكوني

مناسبة "توظيف" هذا العنوان مرتبطة بتبعات استنكار أحد الأصدقاء إصدار فقيه يعتبر "مرجع" إحدى الحركات الإسلامية في الساحة، بخصوص إصداره أحكام قيمة ضد اجتهادات الراحل محمد عابد الجابري وعبد المجيد الصغير. تساءل الصديق في صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "الفايسبوك": كيف يقبل المعني وهو فقيه المقاصد ـ عند أتباع الحركة المعنية، والحزب الإسلامي المحالف معها ـ بـ"الحكم على مشاريع فكرية عملاقة، من قبل مشروع الجابري وعبد المجيد الصغير، بأن قولها في المقاصد يصدر عن "عدم تخصص" و"عدم اطلاع". من جهة لأن التخصص "وهم علمي" كبير، كما أن الإنتاج العلمي للرجلين يكشف اطلاعا واسعا على التراث الفكري العربي الإسلامي"، مضيفا أن الرجل "طرح "أحكام القيمة" تلك، في خضم الردود (الإجابة على أسئلة الحاضرين)، وفي دقائق محدودة قرّر ما قرّر، وهو ما لا يستقيم مع البنية الاستدلالية المطلوبة للحكم على مشاريع فكرية عملاقة تطرح أسئلة طولى بتعبير طه عبد الرحمن، من قبيل تلك التي تعرض إليها الريسوني في أحكامه. لو قال ذلك طه عبد الرحمن (فيما يخص مشروع الجابري) لقبلته منه (ولكان أرضية للنقاش والتفكير النقدي)، لأن الرجل ألف موسوعة في (المنهج في تقويم التراث) يناقش فيها أفكار الجابري و منهجيته العلمية!". في إطار تلبية دعوة الصديق في إبداء وجهة نظر حول الموضوع، لم نجد أفضل من هذه الشذرات التي تهم مشاريع إسلامية حركية، لا زالت تصر على ما قد نصطلح عليه "اختطاف الإسلام" من أهله :

1 ـ ما صدر عن الفقيه المعني، وتقزيمه مثلا، من مكانة هرم معرفي من طينة الفقيد محمد عابد الجابري، أمر متوقع في نهاية المطاف، وما هو غير متوقع، صدمة ومفاجأة العديد من الباحثين، لأن تواضع الجاهزية المعرفية للحركات الإسلامية (دعوية كانت أم سياسية أم "جهادية")، يُخول لنا توقع مثل هذه الرؤى الاختزالية؛

2 ـ على الفقيه المعني، أن يستحضر بأن مواقفه تخص بالدرجة الأولى والأخيرة، قيادات وقواعد الحركة الإسلامية التي ينتمي إليها، وبالتالي، تبقى اجتهادات الفقيه تهم الأتباع في التنظيمات الإسلامية المحسوبة عليه أولا وأخيرا؛

3 ـ في غضون نهاية العام 2002، حررنا مقالا في يومية "القدس العربي" اللندنية، تحت عنوان: "استحالة التأسلم الفكري"، وأشرنا في مضامينه، إلى أنه لا يمكن للراحل عبد الوهاب المسيري مثلا أن يكون مجرد عضو في حركة إسلامية أو تيار سلفي، و نفس الأمر مع باقي الأعلام الفكرية، وعلى هامش صدور المقال، صدر رد/ نقاش عن الباحث عبد الوهاب الأفندي، نعتقد أن أغلب مضامينه تنطبق بشكل كبير على ما صدر عن الفقيه المعني، وفي ما يلي نص مقال الأفندي مع بعض التصرف، لعل الذكرى تنفع من ألقى السمع وهو شهيد..

"عندما كنت أعد رسالة الدكتوراه عن الحركة الإسلامية في السودان قبل سنوات، أجريت مقابلات عديدة مع الشخصيات التاريخية في الحركة. و كان من ضمن من استجوبتهم أحد مفكري الحركة الذي استوقفتني إحدى ملاحظاته عن سلوك الأعضاء الجدد في الحركة، حيث روي أن الشخص بمجرد أن ينضم إلى الحركة، كان يقلع عن لعب كرة القدم و عن سماع الموسيقى والغناء. وبحسب هذا العضو فإنه لم تكن هناك أية توجيهات أو تعليمات من القيادة بهذا الشأن، كما لم تكن هناك أية مناقشة حول هذه الأمور، بل كان هناك شعور شبه غريزي بأن مثلها لا يليق بالعضو النشط في الحركة الإسلامية. تذكرت هذه الملاحظة وأنا أقرأ باهتمام بالغ مداخلة الكاتب المغربي منتصر حمادة في هذه الصحيفة (استحالة التأسلم الفكري) القدس العربي 16/11/2002 ـ والتي أثبت فيها رأيه حول ما وصفه باستحالة المصالحة بين الفكر الإسلامي مع الفكر والثقافة والابداع. (هناك تناقض منطقي و لغوي في هذه المقولة، ينتج عن إثبات الفكر ونفيه عن الإسلاميين في نفس الجملة، ولكننا نتغاضى عن هذا الآن).. وتعتبر الملاحظات التي أوردها حمادة على قدر كبير من الأهمية، بحيث يجب أن تستحوذ على اهتمام الإسلاميين قبل غيرهم.

حمادة استند في مداخلته على حقائق يصعب الجدال فيها، و منها غياب الإسلاميين عن حقول الفكر الجاد، وعن الإنتاج الثقافي الإبداعي، وخلو منابر الإسلاميين من صحف وغيرها من أي مضمون فكري متعمق، أو إنتاج ثقافي ذي وزن، ما عدا مداخلات هامشية يقصد بها رفع العتب. ويضيف حمادة أن الصف الإسلامي المنظم يخلو من أي مفكرين أو مثقفين ذوي وزن، و أن هؤلاء إذا بروزا من داخل الصف الإسلامي فإنهم سرعان ما يتمردون عليه ويغادرونه، وإذا جاءوا إليه من الخارج، فإنهم يحافظون على استقلالية تنآى بهم عن الإسلام المنظم والمؤدلج. ويخلص من هذا إلى أن هناك تناقضا أساسيا بين التأسلم والفكر، هو فرع من التناقض بينالأيديولوجية والفكر والثقافة عموما، ومن التناقض بين الالتزام الديني والفكر الحر خصوصا، وهذه بحسب حمادة سنة طبيعية، لأن الفكر لا يقبل القيود الفكرانية والطوطمات المقدسة التي تفرزها هذه الجماعات وهذا بدوره يعني أن الأيديولوجيات الإسلامية لا مستقبل لها، تحديدا بسبب عدائها المستحكم للفكر والثقافة واستحالة التصالح بين الاثنين. يجب أولا أن نسلم بصحة جزء كبير مما ورد في مداخلة حمادة حول التنافر القائم بين الإنتاج الثقافي والإسلام الحركي. ولعل أصدق آية تؤيد مقولته نجدها في سيرة المفكر الكبير سيد قطب، الذي كان أحد أبرز نقاد مصر الأدبيين في زمانه، وكان أيضا أديباً له إنتاج قصصي وإبداعات أخرى في السيرة الذاتية وغيرها. ولكنه ما إن انخرط في حركة الإخوان المسلمين حتى ضرب صفحا عن كل نشاط ثقافي وفكري بخلاف التنظير للحركة الإسلامية، بل إنه أوصى حسب بعض الروايات بعدم نشر وتداول سابق لإنتاجه الأدبي.

ولعلنا نضيف إلى حجج حمادة حججا توسع مجال مقولته، بحيث نتحدث عن تنافر ظاهر بين الالتزام الإسلامي التطهري والأدب والثقافة عموما، حيث نجد مثلا فترات الازدهار الأدبي والفني في العهد الإسلامي تتطابق مع فترات تصنف في التاريخ الإسلامي باعتبارها فترات انحراف عن صحيح الإسلام، كما حدث في الفترة الأموية والعصر العباسي الأول. وقد كانت الفورات الأدبية موضع استنكار من أنصار الالتزام، كما تشير الروايات إلى إنكار بعض رواد حلقة عبد الله بن عباس من طلاب العلم الديني عليه انصرافه للاستماع إلى رائعة عمر بن أبي ربيعة " أمن آل نعم أنت غاد فمبكر"، وقد رأوا في مثل هذا الانصراف إلى لغو الحديث أمرا لا يليق بمقام أهل العلم. وفي نفس الفترة نجد أن الأدب شهد انحسارا داخل دويلة عبد الله بن الزبير في العراق الحجاز، في مقابل ازدهاره في أقاليم الدولة الأموية المتاخمة، وبالمثل شهد عهد عمر بن عبد العزيز ضمورا في الإنتاج الأدبي، وكان السبب في الحالين هو امتناع الحكام في تلك المناطق والفترات عن إجزال العطاء للشعراء وللأدباء، بحسبان أن المال العام لا مجال فيه لمثل هذا الإنفاق غير المبرر. وكلنا يعرف إضافة إلى ذلك أن التيارات الإسلامية الملتزمة لم تنكر فقط على الفلاسفة وأسلافهم المعتزلة ما انغمسوا فيه من ممارسات فكرية، بل قادوا الحملات المتتالية ضدهم حتى نجحوا في إخماد هذه التيارات واستئصالها. فهل هذه حجة دامغة بأن التناقض ليس بين مطالب الازدهار الفكري والثقافي وبين تيارات الأسلمة الأيديولوجية، بل هو بين الإسلام من حيث هو عقيدة وبين الثقافة و الفكر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل نبوءة حمادة بانقراض التيارات الإسلامية هي نبوءة بانقراض الإسلام كدين؟

من الواضح أن هذا سؤال كبير وعميق ومما لا تتاح الإجابة عليه في مجلة كهذه. ولكن هناك ملاحظات أولية قد تساعد في الإجابة. أولا، لا بد من تعريف واضح للفكر و الثقافة كمفاهيم قبل المضي في مناقشة هذه المسألة. فمن الواضح أن هناك إنتاجا فكريا ذا طابع إسلامي، من نوع كتابات سيد قطب الإسلامية وأعمال مفكرين كثر غيره. فما هي المعايير التي تخرج مثل هذا الإنتاج من دائرة الفكر وتحكم بالتالي بالجذب الفكري الإسلامي؟ نتيجة لهذا فإن الفهم الغالب يتجه للتضييق على الإنتاج الفكري والثقافي من ثلاثة أبواب على الأقل: أولا بعزوف المتدينين عن حقول الفكر والثقافة، على سنة سيد قطب وغيره، وثانيا الإنكار على من يتجه ذلك الاتجاه والسعي إلى تضييق مساحة حرية الحركة المتاحة له، وأخيرا باستخدام مواقع المسؤولية في الدولة أو النفوذ المالي لحجب التمويل عن النشاط الفكري والثقافي الحر". انتهى قول الأفندي الصادر في غضون نهاية 2002، و نحسبُ أنه صالح اليوم (ربيع 2013)، في معرض الرد على ملاحظة "نقدية" صادرة عن فقيه حركة إسلامية وحزب إسلامي ضد أحد أعلام الفكر العربي المعاصر.

والله أعلم.