الله و الإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم رؤية من الخارج للداخل


فئة :  مقالات

الله و الإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم رؤية من الخارج للداخل

تنطبق ملاحظة "إمام عبد الفتاح إمام" في تقديمه لترجمة كتاب (التصوّف والفلسفة) لـِ "ولتر ستيس": "من المفارقات الغريبة أن نقول عن الغربيين أنهم غير متدينين مع أنهم يكتبون عن الدين بعمق نافذ. ونقول عن الشرقيين أنهم متدينون مع أنهم يكتبون عن الدين والتدين بسطحية بالغة". ** على الياباني – وإن كان شرقياً في جذوره التكوينية- "توشيهيكو إيزوتسو "في أطروحته (الله والإنسان: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم)، ففي هذا الكتاب يُبدي "توشيهيكو إيزوتسو" قدرة كبيرة في التعامل مع النص القرآني ضمن شرطه الثقافي الداخلي من خلال دلالات أجزائه وعلاقتها بالكل، وشرطه الثقافي الخارجي، مُتمثّلاً بالسياق الحضاري الذي انوجدَ فيه هذا النص، لا سيما السياق الثقافي الجاهلي، إذ لم يكن هذا الحقل بعيداً –بما يُشكَّل قطيعة معرفية- عن السياق الثقافي للقرآن الكريم، فثمة إرهاص انبنائي في العقلية الجاهلية –تلك التي تخلّقت وبلغ ذروتها في الشِعر الجاهلي- للسياق القرآني، فنزوله من السماء لم يكن حدثاً طارئاً على المستوى العقلي. صحيح، أنَّه شكَّل صدمة حضارية بطريقة أو بأخرى، لكن شكل كذلك مدًّا ثقافيًا داخل الحقل الدلالي الجاهلي، كان قادراً على استيعاب هذا المُنْجَز الجديد.

و لربما التقت هذه الدعوة مع سياقات مشابهة تنظر إلى الحقبة الجاهلية كحقبةٍ مُزدوجة الدلالة في الذهنية الإسلامية، فمن ناحية هي فترة ظلمات أُنِيرَت بالإسلام؛ وثانيهما تنظر بعين التقدير والاحترام إلى تلك الحقبة، إذ ليس من المعقول أن ينزل القرآن الكريم على أمّة جاهلة، فالمحمول المعرفي والثقافي الذي يتضمنه النص القرآني بحاجةٍ إلى حضور عقلي قوي لكي يُتعامَل مع منظومته الثقافية الداخلية.

والكاتب إذ يتناول القرآن الكريم دراسةً وتحليلاً في كتابه المذكور أعلاه، فإنه يُعاين الحقل الدلالي القرآني ضمن منظومتين ثقافيتين، إحداهما داخلية مُتعلقة بالنص القرآني ذاته، والتعامل معه كـَ (كُلٍّ) مُتكامل؛ فالكلمات المفتاحية في النص القرآني غير كافية إذا ما أخذت كل على حدة و تُعومل معها دلالياً، ففي نهاية المطاف لا بدّ من أخذها كجزء من حقل مفاهيمي مُـتكامل؛ وثانيتهما منبثقة بطريقة أو بأخرى عن الأولى من خلال ربط النص القرآني من الداخل بالخارج؛ تحديداً بالمنظومة المعرفية الجاهلية، ومدى الإرهاص المعرفي الذي كانت تحتمله البنية الجاهلية للتعامل مع هذا النص، فهو في النهاية ليس نصاً معزولاً عن سياقاته الثقافية، والحبل ليس مقطوعاً به، فهو لم يتأسّس في الفراغ المطلق، إنما تَولَّدَ ضمن حقل ثقافي احتمل إمكاناً قبولياً –على المستوى العقلي- لهذا النص.

"ولما كان القرآن –يقول المؤلف- من الناحية اللغوية نصاً باللغة العربية الأصيلة، فإنه سيكون من السهل إدراك أن لكل الكلمات التي استُعملت في هذا الكتاب المقدس خلفية قبلَ قرآنية أو قبل إسلامية، وأن الكثير منها جاء من اللغة العربية قبل الإسلام".

ولكن المفارقة هي في تحويل هذه الكلمات من مجرد كلمات عادية – في الثقافة الجاهلية- إلى كلمات مفتاحية في الثقافة القرآنية، فقد حُملّت هذه الكلمات بمعانٍ جديدة، فصارت ثقيلة وذات شأن ضمن سياق ثقافي كلّي. وكمثالٍ على ذلك، يتطرق الكاتب إلى كلمة (الله)، فهي كلمة مُتداولة في الثقافة الجاهلية وليست بغريبة عنه بتاتاً، ولكن مثل هذه الكلمة، بدأت تأخذ بعداً جديداً ضمن الحقل الدلالي للقرآن الكريم. ف"مفهوم الله في النظام الجاهلي يوجد مع مفهوم الآلهة جنباً إلى جنب، ومن دون تعارض بينهما على الإطلاق... إننا لا نجد في النظام الجاهلي تغايراً حادًّا ملحوظًا بين الله والآلهة الأخرى، حتى وإن كان الأول قد جعل على قمة التراتبية لكل الموجودات فوق الطبيعية. هذا إلى جانب أن الحقل الدلالي الخاص بالموجودات فوق الطبيعية نفسه، يحتل موقعاً خارجياً تماماً في النظام المفهومي الجاهلي ككل، مقارنة بالحقول الأخرى الأهم مما له صلة مباشرة أكثر بالحياة القَبَليّة للعرب، كالإحساس بالشرف مثلاً، والفضائل الفردية والاجتماعية التي لا شأن لها بالله والدين".

وبالتقادم استطاع النص القرآني تشكيل شبكة مفاهيمية واسعة، شملت علاقة الإنسان بالعالم والله، فنشأت علوم جديدة لتأطير العلاقة بينهما. لذا يعتبر "توشيهيكو إيزوتسو" "أن كلمة الله هي (الكلمة – المركز) في المعجم القرآني، والتي تهيمن على الحقول الدلالية كلها وعلى النظام كله، فمن ناحية الله هو الموجود الوحيد الذي يستحق أن يسمى موجوداً بكل ما في الكلمة من معنى، والذي لا يمكن لأي شيء في العالم أن يضادّه؛ ومن ناحية ثانية، فإن الله يقوم في مركز عالم الوجود بالنسبة لكافة المخلوقات".

و تأتي كلمة (إنسان) في القطب المقابل –بحسب رؤية توشيهيكو إيزوتسو"-، ذلك أن الإنسان هو الوحيد من بين كل المخلوقات من علّقت عليه أهمية عظيمة في القرآن... فالفكر القرآني معنيّ بمشكلة خلاص البشر، ولولاها لما أنزل القرآن، كما يؤكد ذلك القرآن بوضوح ويكرره".

وهكذا تتشكل خيوط الرؤية المفاهيمية لدى الكاتب الياباني في تعاملاته مع القرآن بصفته مُنظمّاً للعلاقة بين الله والإنسان، وعليه يعمل على تفكيك العلاقة وبسطها ضمن أسلوب رائق وشائق ودالّ، بما يضع هذه العلاقة ضمن تجلياتها المختلفة في إطار واضح. وعلى طول فصول الكتاب يعمل "توشيهيكو إيزوتسو" على تجلية هذه العلائقية ويمنحها أفقاً توضيحياً، مستعيناً بثقافته الواسعة في الثقافة العربية، لا سيما الجاهلية منها، والإسلامية، لا سيما القرآنية منها.

وهو إذ يبتدئ بتأصيل كلمة الله ككلمة مفتاحية وأساسية في النص القرآني كله، من خلال أبعادها الفكرية والوجودية في الحقل الدلالي القرآني، سواء من بنيته الداخلية التي تعاملت مع هذه الكلمة ككلمة أُسّية وأصيلة ليس على المستوى النصي فحسب، وإنما على المستوى الأنطولوجي أيضاً، أو من خارج البينة القرآنية من خلال استجلاء البنى الثقافية الجاهلية وكيفية تعاملاتها مع هذه الكلمة المُتعالية.

فهو إذ يفعل ذلك، فإنه يحدّد طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، تحديداً العلاقة الوجودية بينهما، والتي تحددت أولاً بمفهوم الخلق. وإذا كان سؤال الوجود والكينونة: "من أين جاء الإنسان؟ وما مصدر وجوده بالذات في هذا العالم"؟ فـَ "الجواب الوحيد الصحيح لهذا السؤال في التصوّر القرآني ليس بعيداً عن المتناول: إن مصدر الوجود هو الله نفسه". وبناءً عليه تتحدد طبيعة العلاقة المبدئية بين الله والإنسان، فهي –ابتداءً- علاقة جوهرية؛ "علاقة الخالق والمخلوق".

ولكي تكتمل حلقات هذه العلاقة، لا بدّ من تواصلية من نوعٍ ما بين الخالق والمخلوق، وهذا ما يحدّده "توشيهيكو إيزوتسو" بمستويين للتواصل:

الأول: تواصل غير لغوي، سواء من قبل الله من خلال الآيات الطبيعية، أو من قبل الإنسان من خلال الحركات والإيماءات الجسدية؛ فالله "يبيّن الآيات كل لحظة، آية بعد آية لأولئك الذين لديهم قدرة عقلية كافية لإدراكها كآيات. ومعنى هذا وفقاً للفهم الذي يتيحه القرآن، أن كل ما نسميه ظواهر طبيعية، مثل المطر والريح وبناء السماء والأرض وتعاقب الليل والنهار وتحوّلات الريح، إلى آخره، كل ذلك لا ينبغي أن يفهم كظواهر طبيعية مجردة، بل بوصفه علامات أو رموزاً كثيرة تدلّ على التدخل الإلهي في شؤون البشر، وأدلة على العناية الإلهية، والرعاية والحكمة الممنوحة من الله لصالح البشر على الأرض". وبالمحصلة، فإنّ "الناس جميعاً يحيون في غمرة عالم من الرموز الإلهية، وكلها في متناول أي شخص إذا كان يمتلك القدرة العقلية والروحية لتفسيرها كرموز". وبموازاة هذه الآيات النازلة من الخالق إلى المخلوق، ثمة آيات صاعدة من الإنسان إلى الله، ويحدّد الكاتب الياباني ذلك بـ (العبادة بوصفها وسائل اتصال)، ويدلّل على ذلك بالصلاة؛ فالصلاة تتميز عن الاتصال اللفظي بالله المُتمثّل بالدعاء، لناحية "أن الكلمات في الصلاة تستعمل بشكل شعائري، وتكتسب كلها دلالة شعائرية واضحة".

ويشير الكاتب في هذا المجال إلى أنّ طقس الصلاة كان معروفاً قبل الإسلام، فصلاة النبي محمد [صلى الله عليه و سلم] في غار حراء قبل بدء دعوته. أيضاً طقس السجود في الصلاة – يضيف "توشيهيكو إيزوتسو"- كان معروفاً قبل الإسلام، ويستشهد ببيت شعر للنابغة الذبياني أثناء وصفه للجمال الفاتن لأحد النساء:

أو درّةٍ صدفيّةٍ غوّاصُها ** بهجٌ متى يَرَهَا يَهُلَّ ويسجُدِ

أما المستوى الثاني للتواصل بين الله والإنسان، فهو مستوى تواصل لفظي، وهذا النوع من التواصل تطلّب أن يتنزل القرآن على النبي لتحديد طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق؛ وفي هذه القضية يبحث الكاتب الياباني (مسألة الوحي)، معتبراً إياها مسألة ذات خصوصية في الدين الإسلامي، ومما يعطيها هذه الخصوصية بحسب الكاتب هو "أن المتكلم [في القرآن] هو الله، والمستمع هو الإنسان. وهذا يعني أن الكلام هنا، يتم بين نظام وجود خارق للطبيعة ونظام وجودٍ طبيعي. لذا، فليس ثمة توازن أو انسجام وجودي بين المتكلم والسامع. ففي كلمات الأخذ والرد المعتادة، يكون كل من المتكلم والسامع على المستوى نفسه من الوجود، ويقفان على أرضية التساوي الأنطولوجي: إنسان يتكلم ويُفهم من قبل إنسان آخر، ولا يمكن أن يكون هناك تواصل لغوي بين إنسان، ولنقل حصان، لأنه لا يوجد تساوٍ في مستوى الوجود بين الإنسان والحيوان، كيفما تكون درجة ذكاء الأخير، وأقصى ما يمكن أن يقوم بين الشريكين في حالة كهذه هو تبادل للعلامات غير لفظي أو فوق طبيعي".

وكتجاوزٍ لعائق الافتقار إلى نظام علامات مشترك، فقد"اختار الله بذاته اللغة العربية كنظام علامات مشترك بينه وبين الإنسان". أما عن العائق الأنطولوجي، فهو بين نوعين من الوجود: وجود فوق طبيعي يتمثله الله، ووجود طبيعي يتمثله الإنسان؛ فقد اختار الله شخص النبي لكي يتلّقى كلمات الوحي ينقلها إلى الناس، و يصار بالتالي إلى نوع من التواصل اللفظي بين الله والإنسان. فالإنسان يتواصل مع الله بالدعاء، إذ يتلفظ بألفاظ معينة لها خصوصيتها الدينية، والله يردّ استجابة على هذه الدعوات اللفظية بردود غير لفظية.

وبناء على هذه التواصلية، تتحدد طبيعة العلاقة الأخلاقية بين الله والإنسان، إذ يتمثله المخلوق خالقه في حياته الدنيوية ويستحضره في الكبيرة و الصغيرة.

* معاذ بني عامر باحث أردني


*الكتاب من تأليف "توشيهيكو إيزوتسو"وترجمة" هلال محمد الجهاد، صادر عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2007.

** باستثناء جملة إمام عبد الفتاح والمقتبسة من مقدمة ترجمته لكتاب (التصوّف والفلسفة) لـ ولتر ستيس، فإن جميع الاقتباسات المُنصّصة هي من كتاب (الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم) لـ "توشيهيكو إيزوتسو".