الهويات وتحدي العولمة… من الهم الخاص إلى الهم العام


فئة :  مقالات

الهويات وتحدي العولمة… من الهم الخاص إلى الهم العام

الهويات وتحدي العولمة…

من الهم الخاص إلى الهم العام


سوف يجد المؤرخون الاجتماعيون والإنسانيون لاحقا، وأين ما كانوا، أن العولمة جلبت معها أوسع حديث عن الهوية والهويات في العالم، وبطريقة لم تحصل بهذه الصورة من قبل، وأنها من الحالات النادرة التي تكون فيه الهوية بهذا المستوى من الاهتمام الكمي العابر بين ثقافات العالم، وبشكل يمكن أن يؤرخ له من هذه الجهة.

وحين توقّف الناقد اللبناني علي حرب أمام هذه القضية في كتابه (حديث النهايات فتوحات العولمة ومآزق الهوية)، الصادر سنة 2000م، وجد أن ثنائية العولمة والهوية غدت حسب قوله: (بؤرة السؤال، ومدار السجال، سواء في الأوساط الفكرية، أو في الدوائر السياسية، في العالم الغربي، كما في خارجه، على ما هو حاصل في العالم العربي، يشهد على ذلك سيل المؤلفات التي تتناول العولمة من زاوية تأثيرها على الهوية والثقافة).

ويكفي للدلالة على ذلك، أن ما من أحد تقريبا، كتب وصنف وتحدث عن العولمة، مع كثرة ما كتب ويكتب عنها بكل لغات العالم، إلا وتطرق بصورة من الصور إلى فكرة الهوية، مدافعا عنها، أو متخوفا عليها، أو منبها لها، أو حتى مشككا فيها.

وهذا يعني أن تطور وتجدد الحديث عن فكرة الهوية، لم يعد يتحدد وينحصر في نطاق المجال العربي، فقد امتد هذا الاهتمام إلى النطاق العالمي والإنساني الواسع، ولم يعد الانشغال بفكرة الهوية في عصر العولمة شأنا عربيا أو إسلاميا، فقد تحول إلى هم واهتمام إنساني عام، يجري الحديث عنها ويتردد في كل أمكنة وبيئات ومجتمعات العالم، من آسيا وإفريقيا إلى أوروبا وأمريكا.

والتغير المهم في هذا الشأن، أن الهم والاهتمام بفكرة الهوية من جهة تأثير العولمة، لم يعد يتحدد وينحصر بالأمم والمجتمعات الآسيوية الإفريقية، أو بدول العالم الثالث المصنفة على الدول الأقل نموا وتقدما، فقد امتد هذا الهم والاهتمام ووصل إلى الأمم والمجتمعات الأوروبية والأمريكية المصنفة على دول العالم المتقدم، التي أخذت تتحسس من تأثيرات العولمة على صفاء ونقاء هويتها الأوروبية، وعلى ما يعرف عندها بنموذج القيم الأوروبية.

هذه المجتمعات التي ظنت أنها تخطت وتجاوزت فكرة الهوية، وكل ما يتصل بها من هم واهتمام، واعتبرت أن هذه الفكرة لم تعد تمثل لها مصدر قلق، وباتت تصنف عندها في خانة قضايا الماضي، وخرجت من دائرة الفكر والخيال، وبدأت تحسب على أنها من اهتمامات المجتمعات غير المتقدمة التي لم تتشبع بالحداثة وقيم الحداثة، وإذا بهذه الفكرة ترتد إلى هذه المجتمعات، وتتحول فيها إلى هم واهتمام، دفاعا عن ثقافتها ونموذجها في القيم المجتمعية، أمام ما يسمى عندها بالأمركة، ونموذج الحياة الأمريكية الزاحف عليها مع تيار العولمة.

وتعد فرنسا من أكثر الدول الأوروبية تعبيرا عن الهم والاهتمام بفكرة الهوية، والأكثر خشية على نموذجها القيمي الأوروبي، والأشد تحذيرا من الأمركة، ومع أن الفرنسيين لا يقولون بالتطابق بين العولمة والأمركة، لكنهم يقولون إن العولمة تحمل معها بصمات الأمركة، وهذا ما ينتقدونه، ويحذرون منه.

واللافت في الأمر، أن الهم والاهتمام بفكرة الهوية لم يقف عند حدود أوروبا، فقد امتد ووصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، التي أخذت تتحسس هويتها، وتتلمس حدود هذه الهوية، وبدأت تتساءل عنها، على طريقة تساؤل صمويل هنتنغتون في عنوان كتابه (من نحن؟.. تحديات الهوية الوطنية الأمريكية) الصادر سنة 2004م.

هنتنغتون الذي حذر من قبل، من صدام الحضارات لافتا النظر إلى التحدي الخارجي، عاد محذرا من ما اسماه تحدي الهوية، لافتا النظر هذه المرة إلى التحدي الداخلي، والمتمثل في تزايد الأعداد الكبيرة من المهاجرين اللاتين الذين تجتذبهم العولمة الاقتصادية، والذين باتوا يتحولون إلى تجمعات سكانية كبيرة، ومحافظين على هويتهم الخاصة، بما في ذلك لغاتهم التي يتخاطبون بها، ومتمايزين بها عن الهوية الأمريكية، في ظل توقعات ترجح لهم أن يمثلوا غالبيات سكانية سنة 2050م، لا أقل في بعض الولايات الكبيرة مثل كاليفورنيا، الوضع الذي يضع الهوية أمام تحدي خطير يستدعي عندئذ تساؤل هنتنغتون (من نحن؟).

وهذا يعني أن الحديث عن فكرة الهوية قد بلغ ذروته في ما نعاصره اليوم، وذلك بتأثير موجة العولمة، التي جعلت العالم برمته يتحسس هم الهوية، وتحولت من كونها تمثل هما خاصا، إلى كونها تمثل هما عاما عابرا بين المجتمعات الإنسانية كافة.