عزّ الدّين العلام وتفكيك النّصيحة السّياسيّة بين الشّرق والغرب


فئة :  قراءات في كتب

عزّ الدّين العلام وتفكيك النّصيحة السّياسيّة بين الشّرق والغرب

عنوان هذا العمل عنوان يكاد يُحيل إلى "ترف فكريّ" صرف، على غرار العديد من عناوين السّاحة، بما في ذلك عناوين أطروحات جامعيّة، لكنّ باطن هذا العمل لا علاقة له - كلًيًّا - بأيّ ترف معرفيّ؛ لأنّنا إزاء مقاربة علميّة رصينة لإحدى مُعضلات الفكر السّياسيّ في مجالنا التّداوليّ، ومعها مُعضلة أداء الأنظمة السّياسيّة الحاكمة، بصرف النّظر عن طبيعة الأنظمة، وبصرف النّظر - أيضًا - عن أداء السّلطات الزّمنيّة الحاكمة في مجالنا التّداوليّ الإسلاميّ، من الدّار البيضاء إلى جاكارتا، بمُقتضى تباين أداء الأنظمة والحكومات.

ليس هذا وحسب، فقراءة هذا العمل، تتطلّب استحضار لائحة من الإصدارات ذات صلة بالفكر السّياسيّ في مجالنا التّداوليّ، وتساعدنا أيضًا[1]، على الإمساك بأجوبة أو مقدّمة أجوبة، بخصوص الأسئلة الّتي تعجّ بها أعمال سابقة تطرّقت في السّنين الأخيرة لأزمة الدّولة في مجالنا التّداوليّ، ولعلّ أبرزها الأسئلة والخلاصات المهمّة الّتي حفل بها كتاب "الدّولة المستحيلة" لوائل حلّاق[2]، وليس صدفة أن يتعرّض هذا العمل بالذّات إلى حملات نقديّة[3] صادرة عن عدّة أقلام بحثيّة تشتغل في سياق مشاريع دينيّة - محلّيّة وإقليميّة ودوليّة - خاصّة المشاريع الإخوانيّة.

نحن أمام دراسة تحليليّة مقارنة لتراث سياسيّ غطّى فترات طويلة من العصر الوسيط - بشقّيه العربيّ الإسلاميّ والغربيّ المسيحيّ - ومع تبرّؤ الكاتب من أن يكون العمل يُصنّف في خانة التّأريخ للأفكار؛ لأنّ ذلك ليس من اختصاصه، معتبرًا أنّ "العمل أقرب إلى مجال العلوم السّياسيّ منه إلى العلوم التّاريخيّة، على اعتبار أن ما نسعى إليه هو تجلّي البنية العامّة الّتي تتحكّم في مختلف التّصورات السّياسيّة لهذه الآداب في نسختها الإسلاميّة والمسيحيّة، وتوضيح أوجه التّطابق والاختلاف حسب الحالات"، إلّا أنّ واقع الحال، يُفيد بأنّ العمل ينهل من عُدَّة منهجيّة مُركّبة، تتداخل فيها علوم التّاريخ والسّياسة والاجتماع، وحتّى القليل من "فلسفة الدّين"، ولو أنّه المؤلّف لا يزعم ذلك، ربما تواضعًا منه، أوّلًا وأخيرًا.

تقييم "دليل عمل" اللّصيق بالنّظام السّياسيّ:

موضوع "نصائح الملوك" باصطلاح مجالنا التّداوليّ، أو "مرايا الأمراء" (miroirs des princes) باصطلاح المجال التّداوليّ الأوروبيّ؛ هو محور هذا العمل القيّم الّذي يحمل عنوان: "النّصيحة السّياسيّة: دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلاميّة ومرايا الأمراء المسيحيّة"[4]، لمؤلّفه الباحث عزّ الدّين العلّام، والإحالة - هنا - إلى أدبيّات تتراوح ما بين الخطب والرّسائل والمقالات والمواعظ، أمّا موضوعها الأساس؛ فيتمثّل في "بسط مجموعة من النصائح الأخلاقيّة ــ السّياسيّة من باب المساهمة النّظريّة في حُسن تدبير شؤون الإمارة أو المملكة، بالتّالي، لسنا إزاء "دليل عمل" يروم تحليل طبيعة النّظام السّياسيّ وآليّاته، بقدر ما يروم المساهمة في توضيح عدد من القواعد السلوكيّة الّتي يلزم الملك أو الأمير السّير على نهجها".

رُبّ معترض على الأهميّة العلميّة والتّاريخيّة والسّياسيّة لهذا العمل، والحال؛ أنّه يصعبُ - علميًّا وعمليًّا - في آن اليوم، أن ننفي عن هذا النّوع من الكتابة السّياسيّة أهميّته التّاريخيّة الرّاهنة:

ــ بالنّسبة إلى الأهميّة التّاريخيّة: تتمثّل في كونه شكّل المادّة الأوفر من التّراث السّياسيّ الإسلاميّ، مقارنة بما أنتجه الفقهاء في سياساتهم الشّرعيّة، والفلاسفة في سياساتهم المدنيّة، كما تبدو أهميّته في تزامن ظهوره مع البوادر الأولى لتقعيد أسس الدّولة العربيّةـ الإسلاميّة الوليدة.

ــ أهميّته الرّاهنة، وخلافًا لما قد يعتقد البعض من كونه جزءًا من تاريخ مضى، فتتمثّل في كونه "يُشكّل مستودعًا حقيقيًّا لنوع الثّقافة السّياسيّة الّتي سادت طيلة مجريات التّاريخ العربيّ ـ الإسلاميّ، هذه الثّقافة السّياسيّة (هذا حُكم صريح للمؤلّف) الّتي تؤكّد كلّ الوقائع اليوم ضرورة تجاوز مخلّفاتها، أملًا في تحقيق ثقافة سياسيّة تربط الرّقعة العربيّة ـ الإسلاميّة بمسار التّاريخ الحديث"[5] (نفحة من "نهاية التّاريخ"، فرانسيس فوكوياما).

 

لقد تمكّن الفكر السّياسيّ الأوروبيّ منذ أواسط القرن الثّالث عشر الميلاديّ - على الأقلّ في جزء منه - من ملائمة القيم الدّينيّة المسيحيّة مع العقلانيّة الأرسطيّة، والتّفكير في المجال السّياسيّ، كما تمكّن من تكييف الأخلاقيّات المهيمنة آنذاك مع الواقع السّياسي الجديد، فاتحًا بذلك الطّريق نحو تأسيس بوادر إدارة أو بيروقراطيّة محلّيّة ووطنيّة حديثة، كما نجح هذا الفكر السّياسيّ في التّجاوب مع الدّعوات الإصلاحيّة، وما كان يعتمل داخل النّسيج المجتمعيّ من تغيّرات نتيجة ظهور فئات اجتماعيّة جديدة، لم يعد الواقع السّياسيّ والقانونيّ السّائد آنذاك يُساير طموحها، فأكّد أهميّة القانون وأولويّته بالنّسبة إلى الحاكم والمحكوم، في مقابل فكرة الولاء الفيوداليّة وغيرها من المستجدّات الّتي مهّدت - برأي المؤلّف - لتبلور الفكر السّياسيّ الحديث الّذي أكّد - في النّهاية - مفهوم "الدّولة ـ الأمّة" (Le concept de l’état nation).

بخصوص دوافع الاشتغال على هذه المقارنة، إضافة إلى أنّنا إزاء حقل بحثيّ لا زال متواضع الاشتغال في مجالنا التّداوليّ الإسلاميّ؛ فإنّ المؤلّف ينتقد ما اصطلح عليه بـ"التّصوّر العموديّ" لسياق التّطوّر الحضاريّ لهذا المجال التّداوليّ أو ذلك؛ حيث يقوم هذا التّصوّر العموديّ على نوع من انفصال الحضارات، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى التّشبّث بهويّات عمياء خارج التّاريخ، تُرفع إلى مقام التّقديس والاعتزاز الفارغ، كما لا ينتج عنه غير عزل التّاريخ الخاصّ عن مسار التّاريخ الإنسانيّ العامّ.

يدعو المؤلّف - مقابل هذا التّصوّر العموديّ - إلى تبنّي "تصوّر أفقيّ"، يرتكز على استحضار الآخر في أبحاثنا ومناقشاتنا، ومقارعة وقائعه بوقائعنا، عادًّا أنّ "من شأن هذا التّصوّر الأفقيّ أن يسمح لنا بإدراك أشياء غالبًا ما نتغافل عنها، في مقدّمتها؛ أنّ أغلب القضايا الّتي تعاني منها المجتمعات العربيّة اليوم وبالأمس القريب، هي ذاتها الّتي تمكّنت أوروبا من معالجتها والتغلّب عليها في فترات متقدّمة من تاريخها؛ تارة بالتّساكن والتّفاهم والمهادنة؛ وتارة بالدّم والصّراع والحروب"[6].

ينتقد المؤلّف - بلباقة علميّة - حديث البعض اليوم عن مقوّمات الدّولة الحديثة على أنّها معطى جاهز، دون الانتباه إلى أنّها خلاصة وتتويج لصيرورة تاريخيّة متعدّدة الأبعاد، تمتدّ من قلب العصور الوسطى إلى تباشير العصر الحديث، وليس التّفكير في مرايا الأمراء الغربيّةـ المسيحيّة، ومقارنتها بأداء الملوك العربيّةـ الإسلاميّة، سوى محاولة لإدراك بعض أوجه هذه الحركة التّاريخيّة.

يتحدّث المؤلّف - هنا - عن محاولة متواضعة، وهذا تواضع منه؛ لأنّ العمل يتضمّن عُدة منهجيّة[7] ومعرفيّة ليست هينة، كما أنّه يشتغل على موضوع قلّما اشتغل عليها الباحثون في مجالنا التّداوليّ على الخصوص، وأخيرًا وليس آخرًا؛ إنّ للمؤلّف العديد من المؤلَّفات السّابقة ذات الصّلة بهذا الموضوع، ومجرد استحضار لائحة هذه المؤلَّفات، يُعفي المؤلِّف من الحديث عن أهمّ دوافع الاشتغال على هذا العمل؛ حيث سبق لعزّ الدّين العلّام أن تفرّغ مدّةً ليست يسيرةً لدراسة نصائح الملوك العربيّةـ الإسلاميّة، وللاطّلاع على العديد من النّماذج، ونشر عددًا من الدّراسات والمؤلَّفات في هذا السّياق، نذكر منها الأعمال الآتية: السّلطة والسّياسة في الأدب السّلطانيّ 1989م، الفكر السّياسيّ السّلطانيّ - نماذج مغربيّة 2006م، الآداب السّلطانيّة: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسيّ 2006م.

بالنّتيجة، نحن أمام تراكم محسوب على باحث مُعيّن في مجالنا التّداوليّ بخصوص الاشتغال على هذا الملّف بالذّات، إلى درجة أنّ الحديث عن قراءات الأدبيات السّلطانيّة في مجالنا التّداوليّ اليوم، أصبح يتطلّب استحضار اسم عزّ الدّين العلّام، إضافة - طبعًا - إلى أسماء سابقة اشتغلت منذ عقود على الموضوع، مثل: عبد الله العروي، ورضوان السّيّد، ومحمّد عابد الجابري، وعبد المجيد الصّغير، وعبد الإله بلقزيز، وسعيد بنسعيد العلوي، ....إلخ.

شرق وغرب؛ النُّصْح بين السّياسة والدّين:

اجتهد المؤلّف - في الفصل الأوّل من العمل - وعنوانه: (آداب الملوك العربيّةـ الإسلاميّة ومرايا الأمراء الغربيةـ المسيحية) لتقديم مختلف التّعاريف الّتي أُعطيت لهذه الكتابة السّياسيّة، مشيرًا إلى بعض الصّعوبات المرتبطة بالامتداد الكبير لهذين الفكرَين السّياسيّين، الإسلاميّ والمسيحيّ، سواء في المكان أو في الزّمان، ومن أجل تقريب القارئ من هذه الأدبيّات السّياسيّة؛ بحث المؤلِّف في مورفولوجيتها انطلاقًا من جرد أوليّ لمختلف عناوين مؤلَّفاتها الّتي تتّفق جميعًا في مدلولها، كما استقصى مقدّمات تآليفها الّتي توضح - في إهدائها وصياغتها بضمير المخاطَب - وهو الملك أو الأمير المعنيّ الأوّل بما يتضمّنه الكتاب، الطّابع العَمليّ الّذي يكتنف تصوّراتها السّياسيّة.

يشتغل الفصل الثّاني من الكتاب على المنظومة المرجعيّة المُميِّزة لأدبيّات "نصائح الملوك"، و"مرايا الأمراء"؛ حيث توقّف المؤلِّف عند هيمنة المرجع الدّينيّ بحضور الإسلام في آداب الملوك، والمسيحيّة في مرايا الأمراء، مبرزًا - بخلاف ما يُعتقد - العديد من أوجه الالتقاء في تعامل هذَين الفكرَين السّياسيّين مع المرجعيّة الدّينيّة، وبما أنّ هذه الكتابات لم تكن لتكتفي بالمرجعيّة الدّينيّة في صياغة تصوّراتها؛ فقد بحث المؤلِّف فيما أسماه (المرجع الاصطلاحيّ)؛ الّذي اتّخذ شكلين مختلفين يُترجمان المسار الحضاريّ والتّاريخيّ لكلّ منهما اللّذين تجلّيا في الاعتماد على ما تسمّيه أداء الملوك الإسلاميّة بالسّياسيّة الاصطلاحيّة، والمقصود منها - أساسًا - سياسات فارس، وكذا لجوء المرايا إلى ما تسمّيه (المرجع الدّنيويّ) الّذي يتخلّص أساسًا في أدبيّات الحضارة الرّومانيّة.

وهكذا أحصى عزّ الدّين العلّام عدّة فوارق في المرجعيّتين - تحديدًا - الفوارق بين تجربة روما في مجموع مراحلها الجمهوريّة والقنصليّة والإمبراطوريّة، وبين تجربة فارس الّتي وجدت في الحضارة الإسلاميّة امتدادًا لها:

ــ هناك - أوّلًا - الفارق الخاصّ بـ"طبيعة النّظام السّياسيّ نفسه؛ ففي روما كانت الملكيّة تمارس سلطتها التّنفيذيّة بمساعدة مجلس الشّيوخ، ومن جمعيّة شعبيّة هي مصدر التّشريع، أمّا في فارس؛ فكان السّائد - كما هو الحال في الحضارات الشّرقيّة - النّظام الملكيّ الأوتوقراطيّ"[8].

ــ وهناك - ثانيًا - ثاني أكبر نقطة خلاف، سيكون لها ما بعدها ـ بتعبير المؤلِّف - وتتمثّل في "الدّور المحوريّ الّذي أدَّته فكرة القانون؛ فإذا كان لليونانيّ - كما يُقال - أن يفتخر بفلسفته، ولفارس أن تعتزّ بسياستها، وإذا كان للعرب أن يُميّزوا أنفسهم عن غيرهم بدينهم، فللرومان أن يتباهوا بقوانينهم"[9].

بالنّسبة إلى الفصل الثّالث، ومادام العمل يشتغل على فكر سياسيّ تحتل فيه التّصوّرات الأخلاقيّة والقيم الدّينيّة مركز الصّدارة؛ فقد اشتغل المؤلّف على البحث في أخلاقيّات الحاكم في كلتا التّجربتَين: في المرحلة الأولى؛ أبرز العديد من أوجه التّشابه بين تصوّرات آداب الملوك لمكارم الأخلاق الإسلاميّة، وبين تأكيد الجيل الأوّل من مرايا الأمراء على فكرة الخلاص المسيحيّة، قبل الوقوف - في مرحلة ثانية - على المسار المختلف لهاتين التّجربتين، وهو المسار الّذي مكّن المرايا المسيحيّة - مقارنة بنظيرتها الإسلاميّة - من الانتقال من هيمنة الفضائل الخلقيّة إلى الحديث عن هذه الأخلاقيّات في ارتباط بما تتطلّبه السّياسيّة من خبرات وتقنيّات، فاتحة الطّريق أمام بوادر تأسيس تصوّر سياسيّ جديد.

لأنّ سؤال الأخلاق وحضور الأخلاق في العمل السّياسيّ - منذ حقبة ما بعد البعثة النّبويّة حتّى اليوم - لا زال مُعضلة مفاهيميّة وعمليّة في ثنائيّة "السّياسة والدّين"؛ فقد أحسن المؤلّف صُنعًا عندما افتتح هذا الفصل بسرد مجموعة من الأسئلة المفتاحيّة ذات الصّلة المباشرة بالثّنائية سالفة الذّكر، وذات الصّلة - أيضا - بعنوان الفصل.

من أهمّ خلاصات الفصل الثّالث: أنّ الجمع بين الدّين والدّولة لا يمكن إلّا أن يُنتج عنه - كما تؤكّد على ذلك وقائع تاريخيّة عدّة، غير الاستبداد السّياسيّ، لكن شتّان ما بين استبداد شرقيّ لا يتوخّى في كلّ تفرّعاته أكثر من الحفاظ على السلطان، وأوتوقراطيّات ملكيّة (autocratie royal)، عرفتها أوروبّا، سعت - أساسًا - إلى مركز سلطاتها بهدف القضاء على التّشتّت الفيوداليّ، الّذي ميّز العصر الوسيط، فاتحة الطّريق - بذلك - أمام الوحدة الوطنيّة وتأسيس "الدّولة الأمّة"[10].

تتقاطع هذه الملاحظة مع إشارة مهمّة اختتم بها المؤلّف الفصل الثّاني، ومفادها: أنّ السّلطة السّياسيّة العادلة في المجال التّداوليّ الغربيّ - ابتداءً من القرن الثّالث عشر الميلاديّ - لم "تعد مرآة للإله، ولا للسّلطة الجائرة عقاباً منه، إنّها تجد أصلها في الطّبيعة البشريّة نفسها، ولا يتعلّق الأمر - هنا - بإبعاد الدّين، ثمَّ الكنيسة، لكن بتطويعهما أمام الدّنيا (وهو ما نتّجه إليه في مجال التّداوليّ الإسلاميّ في بعض الأنظمة العربيّة تحديدًا)، ثمَّ أمام السّلطة الزّمنيّة، كما لا يتعلّق الأمر - هنا - بالتّخلّي عن فضائل الأخلاق، لكن بجعلها في خدمة الصالح العامّ، ليس غريبًا إذن، يضيف المؤلِّف، أن يُعدَّ النّظام الملكيّ أفضل الأنظمة السّياسيّة، بتحقيقه الصّالح العامّ وحفاظه على غائيّة أخلاقيّة"[11].

حدود السّلطة السّياسيّة والدّينيّة:

في الفصل الرّابع: اشتغل المؤلّف على الموضوع الأساس الّذي يُشكّل جوهر هذين الفكرَين السّياسيّين؛ أي حدود السّلطة السّياسيّة الّتي يتمتع بها الملوك والأمراء ومداها، في هذا المجال التّداوليّ أو ذلك، وفي مختلف نصوص الآداب والمرايا، خلُص المؤلّف إلى أن الحاكم - عمومًا - هنا أو هناك، كان يتمتع بالسّلطة المطلقة (Pouvoir absolu).

أمّا الخصال الأخلاقيّة الّتي لا يملّ ذكرها مدوّنو هذه الأدبيّات السياسيّة - الإسلاميّة والمسيحيّة؛ فكانت من باب "الرّدع الأخلاقيّ"، والكابح الوحيد لسلطة تتطابق فيها الدّولة وشخص الحاكم، مع التّوقف عند فوراق عدّة نوجزها في محدَّدين اثنين؛ حيث اتّضح أنّ المرايا المسيحيّة تستحضر القانون، وتستحضر قواعد تلزم الحاكم والمحكوم على السّواء، ومردّ ذلك - حسب المؤلِّف - إلى أنّ المرايا المسيحيّة استفادت من الإرث الإغريقيّ ـ الرّومانيّ، والتّكيّف مع المستجدّات الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، الّتي كانت تعتمل آنذاك في أوروبا، وفي مقدّمتها؛ التّكوّن الجينيّ للوحدات الوطنيّة، وظهور فئات اجتماعيّة جديدة بالتّوازي مع الرّغبة في التّخلص من العوائق الفيوداليّة وسلطة الكنيسة.

تكمن - هنا بالذّات - أهميّة الدّراسات التّاريخيّة المقارنة، ومقارنة بعض تبعات تشكّل نواة الدّولة الوطنيّة في أوروبا، مقارنة مع السّياق الإسلاميّ، الّذي بالكاد سيمرّ من محطّة أفول الخلافة العثمانيّة في عام 1924م، الّتي كانت تمتدّ من المشرق حتّى الجزائر.

يهمّنا من هذا الفصل إشارات المؤلّف ذات الصّلة بمضامين أدبيّات الرّحلات الّتي ألفها الرّحالة المغاربة، فمقابل الحذر الشّديد والحيطة اللّتين عبّر عنهما أدباء مخزنيّون شاهدوا أوروبا تطأ تدريجيًّا ديارهم، يمكن الإقرار، دون التّقزيم من ثقل بعض التّحفّظات ذات الطّابع الدّينيّ، بنوع من الافتتان (Fascination) يتخلّل كتابات بعض المغاربة، الّذين تمكّنوا من رؤية أوروبا من الدّاخل، وهم يعبّرون عن انبهارهم أمام أوربا (أو هذه الأوروبا) القويّة والمنظّمة والمدنيّة والنّظيفة"[12]، ونعاين نفس الأمر في الحالة المشرقيّة، ولو لم يشتغل عليها المؤلّف، ويكفي استحضار الإشارات الدّالّة الّتي تتضمّنها مقولة محمّد عبده الشّهيرة:

"رأيت في أوروبا إسلامًا بلا مسلمين، وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام".

لكنّ ما أثار انتباه المؤلّف في أدبيّات الرّحلات هذه - بالضّبط - هو: "حفاظها على اللّغة السّياسيّة السّلطانيّة، تتحدّث عن فضاء سياسيّ مغاير تمامًا؛ حيث تستعمل كلمة "الرّعيّة" لوصف المجتمع والمواطن، وتصف النّائب البرلمانيّ بأنّه "وكيل الرّعيّة"، إلّا إن كان الأمر يتعلّق بـ"عجز لغويّ عند مُحرّري هذه الأدبيّات، أو بصعوبة تمثّل ما شاهدوه من مؤسّسات هو ما يُبرّر بقاءهم في حدود اللّغة السّياسيّة التّقليديّة؛ أي لغة آداب الملوك"[13].

الجهاز الوسيط بين أجهزة دنيويّة وأجهزة دينيّة:

لا يمكن الحديث عن تجربة سياسيّة ـ عربيّة إسلاميّة، ونصوص غربيّة ـ مسيحيّة وسيطيّة، دون التّوقّف عند معالم الجهاز الوسيط بين أجهزة دنيويّة وأجهزة دينيّة، وهذا عين مضامين الفصل الخامس من العمل، وعنوانه: "جهاز الدّولة بين آداب الملوك ومرايا الأمراء"؛ حيث مَهّد المؤلّف لهذه المقارنة الحافلة بـ"الأسئلة المنهجيّة"، بالإشارة إلى أنّ المقارنة بين تجربتين حضاريّتين مختلفتَين تقتضي التّمييز بين جهازَي الدّولة - الدّنيويّ والدّينيّ - سواء في النّصائح الإسلاميّة أو نظيرتها المسيحيّة، ومعلوم أنّنا إزاء موضوع إشكاليّ بامتياز، ولتذليل بعض هذه الصّعوبات؛ قسّم المؤلّف الفصل إلى مبحثَين اثنين: يتعلّق الأوّل برجال الدّين، ويتعلّق الثّاني بجهاز الدّولة الدّنيويّ.

وبعد اشتغال المؤلّف على بعض العلامات الّتي تقرب بنصوص المرايا المسيحيّة من مثيلتها الإسلاميّة، توقف - أيضًا - عند بعض الفوارق، وفي مقدّمتها ما اصطلح عليه بالفارق التّاريخيّ، مفاده أنّنا وجدنا أنفسنا إزاء مسارين مختلفين:

ــ هناك في الغرب المسيحيّ - منذ من أوائل القرن الثّالث عشر - عاينّا بوادر "تحوّل تاريخيّ كبير ترجمته - في الغالب الأعمّ - نصوص المرايا نفسها: دولة قادمة قيد التّأسيس، ملوكٌ ارتبط اسمهم بتحقيق وحدات وطنيّة، تحييد دور الكنيسة، ورجال دين ينسحبون تدريجيًّا من الشّؤون العامّة[14] لصالح دنويويّين يمتلكون خبرات وتقنيّات الإدارة والسّياسة"[15].

ــ في مقابل ذلك؛ نلاحظ أنّ ما ميّز أداء الملوك الإسلاميّة أنّها تحدّثت عن "دُول سلطانيّة قائمة، ثمَّ إنّ ما كان يشغل بال مدوّنيها هو بسط الصّفات الأخلاقيّة، والقواعد السّلوكيّة الكفيلة بالحفاظ على هذه الدّول وتقويتها، ودوام سلطتها، تغيب في هذه الآداب نزعات التّغيير مقابل نزعة محافظة تتمثّل في حضور تصوّر ستاتيكيّ للمجال السّياسيّ"[16].

وواضح أنّه ثمّة لائحة عريضة من الأعمال الّتي كانت ستُغذّي مضامين كتاب الأستاذ عزّ الدّين العلّام، لو استحضر بعض مضامينها في سياق الاشتغال على الفوارق بين التّجربتَين - الإسلاميّة والمسيحيّة - في تحرير رسائل النّصح لصناع القرار السّياسيّ[17].

نأتي للفصل السّادس، وجاء تحت عنوان: "في نقد آداب الملوك ومرايا الأمراء"، والحديث هنا عن فصل مستقلّ، سعى فيه عزّ الدّين العلّام إلى نقد آداب الملوك الإسلاميّة، ومرايا الأمراء المسيحيّة على حدّ سواء، وقد اشتغل على أدبيّات مفكّرَين اثنين تحديدًا، مسلم ومسيحيّ، يجمعهما أكثر من رابط، هما: ابن خلدون وميكيافيليّ؛ حيث يعترف الاثنان معًا بقرب موضوعهما مع ما صاغته هذه الأدبيات السّياسيّة، غير أنّ كلّ واحد منهما يرفض - من جانبه - طريقة تفكيرها السّياسيّ، و"إذا كان هذا النّقد الخلدونيّ والميكيافيليّ، لا يطرح مشكلًا فيما لو حصرنا كلّ واحد منهما في تربته الّتي انبثق منها، فإنّ الأسئلة تصبح أكثر تعقيدًا لو حاولنا الاستعانة بابن خلدون في نقد المرايا المسيحيّة، أو الاستعانة بميكيافيلي في نقد الآداب الإسلاميّة"[18].

وقد خلُص المؤلّف - في خاتمة الفصل السّادس - إلى أنّ النّقد الخلدونيّ لم يُفلح في اقتلاع ثقافة سياسيّة سلطانيّة تضرب جذورها في أعمال طبائع العمران، كما لم تُفلح كلّ محاولات التّجديد الإصلاحيّة المتأخّرة - ناهيك عن محدوديّة سقفها النّظريّ (أو محدوديّة أفقها الإبستيميّ) بتعبير فوكو - م عادًّا الربط بين واقعنا الرّاهن وهذا الإرث السّياسيّ لا يخصّ هذه الأدبيّات كما يُقدّمها لنا الماضي العربيّ - الإسلاميّ؛ بل - تحديدًا - تلك الثّقافة السياسيّة الثّاوية خلف نصوص هذه الآداب، ولو اتّخذت لباسًا مغايرًا، مضيفًا - أيضًا - نقطة مهمّة جدًّا؛ أنّ كلّ الوقائع تؤكّد - اليوم - على راهنيّة الانتقال من دولة السّلطان إلى (سلطان الدّول)، وضرورة تجاوز "الإيديولوجيا السّلطانيّة" في مختلف تجلّياتها، ولا سبيل إلى هذا الانتقال والتّجاوز إلّا بنقد أسُس "الثّقافة السّلطانيّة" تماشيًا مع حركة تاريخ لا يرحم"[19].

في هذا الإطار؛ اختتم المؤلّف مضامين هذا الفصل بالتّوقّف عند اجتهادات ثلاثة أعلام في مجالنا التّداوليّ، اشتغلوا بشكل نقديّ على تقييم أدبيّات الثّقافة السّلطانيّة ــ بصرف النّظر عن القواسم الإبستيميّة الكثيرة بين هذه الأعلام - ويتعلّق الأمر بكلّ من عبد الله العروي ومحمّد عابد الجابري وعزيز العظمة.

هناك عمل مرجعيّ كنّا نتمنى لو اشتغل عليه المؤلّف في مضامين الفصل السّادس والأخير، مادام قد قرّر الانخراط في استحضار اجتهادات ثلاث أعلام فكريّة[20]، في إطار تزكية ما ذهب إليه في الكتاب، والحديث - هنا - عن كتاب يشتغل على تقييم قراءات بعض الرّموز الفكريّة العربيّة لتعاملها مع التّاريخ، عنوانه: "تأويل التّاريخ العربيّ"[21] للباحث التّونسيّ محمّد الخراط؛ حيث ارتحل المؤلّف - في الفصل الأوّل من الكتاب - في فضاء نظريّ صرف، وخَلُصَ إلى أنّ التّأويليّة تميّزت بحضورها في مستويات مختلفة، ستكون حاضرة - بشكل أو بآخر - في أعمال محمّد أركون، وهشام جعيط، وعبد الله العروي، وجاءت كالآتي:

ـ المستوى الدّينيّ في قراءة النّصوص الدّينيّة، خاصّة، الكتب السّماويّة وتأويل رموزها اللّغويّة.

ـ المستوى الفلسفيّ؛ إذ إنّ التّأويل هو الفنّ الأرقى في الفلسفة، يحميها من كلّ إطلاقيّة، ويجعلها تعود إلى تأويل ذاتها لتقرأ الوجود والعقل والشّعور.

ـ وأخيرًا؛ المستوى التّاريخيّ: ويجمع المستويين السّابقين، ويضيف إليهما مستوى النّشاط اللّا إنسانيّ الفاعل في التّاريخ واقعيًّا وذهنيًّا، ونتبيّن - بالطّبع - بهذه القاعدة النظرية للتأويل، الخلفيّات المعرفيّة الّتي سكنت فكر كلّ مفكر، وهو يعالج التّاريخ ويؤوّل أحداثه وأفكاره.

خلاصات أوليّة:

نأتي لخاتمة العمل وبعض الخلاصات، والملاحظ؛ أنّ الخاتمة جاءت على هيئة أسئلة، تحسبُ للمؤلّف الّذي لا يدّعي التّمكّن الشّامل من هذه الدّراسة، مقارنًا الحافلة بالقلاقل المعرفيّة والمنهجيّة الّتي تتطلّب - بشكل أو بآخر - استحضار بعض الاجتهادات المصاحبة لأقلام بحثيّة، من مجالنا التّداوليّ على الخصوص، بعضها جاء إسمه في لائحة مراجع العمل، من باب إغناء مضامين هذا العمل القيّم الّذي يستحقّ كثيرًا من التّنويه والتّقدير.

ــ نورد الخلاصة الأولى في صيغة أسئلة وجيهة:

كيف تمكّنت مرايا الأمراء الغربيّةـ المسيحيّة من تطوير نفسها؟ كيف نجحت تدريجيًّا - بشكل أو بآخر - في تكييف تصوّراتها الأخلاقيّة مع ما يتطلّبه الحكم السّياسيّ من خبرات وتقنيّات؟ كيف تمكّنت - في النّهاية - من ملائمة القيم الدّينيّة مع مستجدّات السّلطة السّياسيّة؟ كيف وُفّقت في استغلال الإرثَين الرّومانيّ والإغريقيّ في تجديد فكرها السّياسيّ؟ كيف حدث أن تصوّر رجال دين مسيحيّون المجال السّياسيّ شيئًا طبيعيًّا؛ بل صاغوا مؤلّفات خالية من كلّ رهبنة أو إحالات دينيّة؟ كيف نجحت في التّخلّص التّدريجيّ من شخصنة السّلطة للتّفكير في الدّولة فضاءً مستقلًّا؟"[22].

لا يملك المؤلّف أجوبة نهائيّة ودقيقة وحاسمة في معرض التّفاعل مع مُجمل هذه الأسئلة، لكنّه مرّر ملاحظة وجيهة أشبه بمفتاح يختزل بدقّة مجموعة من التّساؤلات.

لدينا فقيه موسوعيّ كتب في الدّين وعلومه في تراثنا السّياسيّ الإسلاميّ، وألّف أكبر مدوّنة فقهيّة، كما كتب في السّياسة وآدابها، بدءًا من "الأحكام السّلطانيّة" إلى "قوانين الوزارة وسياسة المُلك"، مرورًا بـ "نصيحة الملوك" و"أخلاق الملك وسياسة المُلك"، إنّه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي.

ولديهم في العصر الوسيط المسيحيّ ثيولوجيّ كبير ومفكّر موسوعيّ، أحصى له بعض الباحثين ثلاثة وسبعين مؤلَّفًا جعلت منه أشهر القساوسة، ومكّنته من أن يكون حجّة عصره، كما ألّف - مثله مثل الماوردي - كتابًا ضخمًا في النّصح السّياسيّ بعنوان "حكم الأمراء"، وهو جيل دو روم (Giles de Rome).

لاحظ عدد من الباحثين أنّ كتاب "حُكم الأمراء" لجيل دو روم جاء خاليًا من الإحالات الدّينيّة، وأنّ مؤلِّفه، وهو رجل دين، لم يستند في صياغة الكتاب على أيّ مرجع دينيّ، وهذه الملاحظة تخوّل مؤلّف الكتاب لطرح السّؤال الآتي: هل يمكن أن نتصوّر الماوردي يؤلّف "نصيحة الملوك" دون أن يُحيل على الآية القرآنيّة والحديث النّبويّ؟

هذا السّؤال الوجيه الّذي جاء في الصّفحة 281 من العمل، نجد محاولة إجابة عنه في الفصل الثّاني؛ حيث عدّ المؤلّف أنّ جيل دو روم كان من "المواظبين على دروس توما الأكويني الّذي يُعدّ من أكبر فلاسفة العصر الوسيط تأثّرًا بأرسطو، بالتّالي، فمن الطّبيعيّ أن يتمكّن جيل دو روم من التّعرّف إلى متون الفلسفة الأرسطيّة، ما مكّنه من بلورة تصوّرات سياسيّة مخالفة ليس لآداب الملوك وحسب، (الخاصّة بمجالنا التّداوليّ الإسلاميّ)؛ بل ولكلّ ما سبقت كتابته من مرايا مسيحيّة أيضًا"[23] (ذات الصّلة بالمجال التّداوليّ الغربيّ المسيحيّ).

ــ بالنّسبة إلى الخلاصة الثّانية؛ ينتقد المؤلّف إصرار بعض الباحثين على اختزال الحديث اللّصيق بمفهوم "الدّولة الحديثة"، كما لو أنّ الأمر يتعلّق بمعطى جاهز، أو قلْ: واقعة سياسيّة اكتملت معالمها - أو تكاد[24] - والحال أنّه "غالبًا ما تُغفَل مجموعة من المُحدّدات الّتي أوصلتنا اليوم إلى الدّولة الحديثة، منها؛ أن تطلّبت قرونًا من الحركيّة التّاريخية متعدّدة الأبعاد، ولو أنّ وقائع التّاريخ تبيّن أنّ نعت الدّيمقراطيّة شيء لاحق، غير سابق ولا متزامن مع تأسيس الدّولة الحديثة"[25].

تكمن أهميّة هذه الملاحظة في أنّها تحيلنا إلى الوضع في المنطقة - هنا - في شمال إفريقيا والشّرق الأوسط، مع نتائج أحداث "الحراك"؛ حيث اعتقدت العديد من المشاريع الإصلاحيّة، بأنّه تكفي بضع أحداث حراك حتّى ننتقل زمنيًّا - فجأة - من سياق سياسيّ/ دينيّ مشرقيّ، كما نعاينه اليوم، نحو تقليد السّياق الغربيّ (المسيحيّ/ العلمانيّ)، كما نعاينه في الغرب الأوروبيّ على وجه الخصوص، هذا دون الحديث عن تواضع أدبيّات الفكر السّياسيّ، في مجالنا التّداولي اليوم، مقارنة بالتّراكم المعرفيّ الرّهيب الّذي يُميّز المجال التّداوليّ الأوروبيّ.

ــ أمّا الخلاصة الثّالثة؛ فتفيد في أنّ النّظر إلى أوجه الاختلاف بين آداب الملوك الإسلاميّة والجيل المتأخر من مرايا الأمراء المسيحيّة، يوصلنا إلى أنّ معظمها يرتبط ببوادر بناء الدّولة الحديثة: تأويل للقيم الأخلاقيّة والأوامر الدّينيّة يُساير تطورات الحياة السّياسيّة، والانكماش المتواصل لدور المؤسّسات الدّينيّة، في مقابل الحضور المتنامي لـ"بيروقراطيّة" دنيويّة في المجال العامّ، وإحلال سلطة القانون ومبدأ "التّعاقد"، وانتشارهما التّدريجيّ في المجالين المدنّي والسّياسيّ والارتقاء بمفهوم الرّعيّة التّقليديّ في اتّجاه بناء "الجماعة الوطنيّة"[26].

تاريخ الإصدار وتاريخ الأفكار:

صدر كتاب الأستاذ عزّ الدّين العلّام في العام الجاري 2017م، لكنّ الّذي يهمّنا - هنا - في سياق التأريخ للأفكار؛ أي السّياق الّذي أكّد المؤلّف أنّه العمل لا يُصنّف - بالضّرورة - في خانته، أنّ أحدث مراجع العمل مؤرّخة في 2013م، وهي حالة خاصّة زمنيًّا؛ لأنّ أغلب المراجع إمّا محسوبة على زمن الأدبيّات المعنيّة بالإصدار؛ أي زمن الأدبيّات السّلطانيّة، أو بعض الإصدارات الحديثة زمنيًّا، من طينة ما حرّره محمّد عابد الجابري أو رضوان السّيّد وعبد الله العرويّ، ولائحة عريضة من المفكّرين والباحثين في مجالنا التّداوليّ والمجال التّداوليّ الفرنسيّ على الخصوص، بالنّسبة إلى المراجع الأجنبيّة[27].

والحال: أنّه صدرت مجموعة من الإصدارات ذات الصّلة بمفهوم الدّولة عند المسلمين، وذات الصّلة - أيضًا - بثنائيّة الدّين والسّياسة، ولا نشكّ قط في أن مضامين هذا الكتاب القيّم إذا حُيِّنت، سوف تفيد المؤلّف والقارئ/ النّاقد في معرض تمرير مفاتيح جديدة، تساعدنا جميعًا على تسليط الضّوء على فوارق أخرى بين آداب الملوك الإسلاميّة ومرايا الأمراء المسيحيّة، وحسبُنا ذكر ثلاثة عناوين فقط:

ــ "روح الدّين" لطه عبد الرّحمن[28].

ــ "الدّولة المستحيلة" لوائل حلّاق[29].

ــ "دولة الفقهاء" لنبيل فازيو.

ــ "تأويل التّاريخ العربيّ" لمحمّد الخراط.

ونحسبُ أنّ بعض الأسئلة والخلاصات المهمّة الّتي جاءت في كتاب وائل حلّاق، نجد لها بضع الأجوبة في كتاب عزّ الدّين العلّام الّذي يحفل - بدوره - بأسئلة وخلاصات لا تقلّ أهميّة، ونجد بعض الأجوبة عنها في كتاب نبيل فازيو بمعنى آخر.

تاريخ الإصدار - هنا - لا علاقة له بتاريخ الأفكار، ونزعم أنّ هذا الكتاب، ضيف هذا اللّقاء، يوجد في مرتبة وسط في "زمن الأفكار" بين كتاب طه وحلّاق من جهة، وكتاب فازيو والخرّاط من جهة ثانية.


[1] هذه إحدى مفاتيح/ هدايا العمل.

[2] في كتابه "الدّولة المستحيلة"، يقترح وائل حلّاق خطة لمواجهة التّحديّات الّتي تواجه "نموذجيّة الدّولة الإسلاميّة، أو الحكم الإسلاميّ الّتي تشكّل الشّريعة قلبها النّابض، والّتي ما زالت تشكل الشّوكة الّتي توجع الاستعمار الّذي يتطلّع إلى اقتلاعها، ومع ذلك، فهي ما زالت صامدة، على الرّغم من اندثار مؤسّساتها وشخوصها، ولكنّ هذا لا يحوّل دون تبنّي تصورات جديدة، لا سيّما في ما يتعلّق بمدى تحقّق الدّولة الإسلاميّة، مع ضرورة البحث عن أشكال جديدة للحكم، وبناء مؤسّسات جديدة في ضوء فهم وصوغ قواعد للشّريعة، بالتّجاور مع تقديم تصوّر للمجتمع السّياسيّ".

انظر: وائل حلّاق، الدّولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيّ، ترجمة: عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة، 2014م، ص 295.

[3] حديثنا - هنا - عن القراءات النّقديّة الإيديولوجيّة (الفكرانيّة)، وليس القراءات النّقديّة المعرفيّة.

[4] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة: دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلاميّة ومرايا الأمراء المسيحيّة، مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، الرّباط، ط 1، 2017م، ص 7.

[5] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 9.

[6] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 10.

[7] يرى المؤلِّف أنّه غالبًا ما يُسأل حول المنهجيّة المتّبَعة (منهج بنيويّ، منهج تاريخيّ، منهج جدليّ، ..إلخ)، مقابل ذلك، ما حدّد اشتغال المؤلّف في هذا العمل، هو مسار البحث نفسه، وما حدّد المنهجيّة المتَّبعة، هو طبيعة الموضوع نفسه".

انظر: عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 17.

[8] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 94.

[9] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 95.

[10] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 154.

ليس صدفة، أن حُلم أغلب الإصلاحيّين المغاربة، (من الّذين لا ينهلون من مرجعيّة إسلاميّة حركيّة، بمقتضى الاشتغال على إقامة دولة الخلافة وإحيائها)، يصعبّ - بشكل أو بآخر - في تقليد إيجابيّ للتّجربة الإصلاحيّة الأوروبيّة أكثر من تقليد أنظمة الحكم في المشرق.

[11] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 109.

[12] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 193.

[13] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 194.

[14] من نتائج أحداث الحراك العربيّ: أنّنا عاينّا وجود لائحة عريضة من الفاعلين الدّينيّين في مجالنا التّداوليّ اليوم - في 1438 هـ/ 2017 م - يشتغلون على إحياء مقتضايت مضادّة لهذا التّحوّل الّذي جرى في أوروبا منذ القرن الثّالث عشر.

[15] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 231.

[16] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 232.

[17] كتاب الزّميل نبيل فازيو "دولة الفقهاء"، يُفصّل كثيرًا في هذه الجزئيّة، ونحسبُ أن كتاب "النّصيحة السّياسيّة" كان سيزداد غِنى لو تضمّن بعض قراءات فازيو في هذا الصّدد، لعلّ أهمّها: اشتغل فقهاء وعلماء مجالنا التّداوليّ على استبعاد سيناريوهات "الفتنة"، كما هي قائمة عمليًّا اليوم، وليست مسائل نظريّة وحسب، في بعض دول المنطقة بعد تفجّر الأوضاع بسبب تواضع جرعات الإصلاح السّياسيّ، ومعه تواطؤ محددات - محلّيّة ودوليّة - عدّة تغذّي مشاهد الفتنة.

انظر: فازيو نبيل، دولة الفقهاء: بحث في الفكر السّياسيّ الإسلاميّ، بيروت، منتدى المعارف، 2015م.

[18] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 16.

[19] عز الدين العلام، النصيحة السياسية، مرجع سابق، ص 269‎.

[20] أيّ؛ الثّلاثيّ عبد الله العروي ومحمّد عابد الجابري وعزيز العظمة.

[21] كيف ينظر المفكّر العربيّ المعاصر إلى تاريخه؟ كيف يحقّق الموضوعيّة في تأمّل ذاته الماضية؟ كيف يتعامل مع اللّحظات الكبرى؟ كيف يرى امتداداتها وتمفصلاتها؟ ما هي الأحداث الحاسمة الّتي يتوقّف عندها، وما هي القرون المديدة الّتي يمرّ عليها متلفعًا بالصّمت؟ كيف يعالج علاقة الدّينيّ بالسّياسيّ؟ كيف يوفّق بين التّأويل - وما التّاريخ إلّا تأويل - وادّعاء الموضوعيّة؟ متى يتجاوز السّرد إلى الفهم؟ أسئلة وغيرها توقّف عندها الباحث محمّد الخراط في كتابه الّذي يحمل عنوان "تأويل التّاريخ العربيّ"؛ الصّادر عن مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث، الرّباط، والمركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت - الدّار البيضاء، ط 1، 2013م.

جاء الكتاب موزّعًا على: مقدّمة وثلاثة أبواب، تحمل العناوين الآتية: "العلاقة بين التأويل والتّاريخ"، "نماذج تطبيقيّة من تأويل التّاريخ العربيّ في كتابات العروي وجعيط وأركون"، وأخيرًا؛ "تقويم ومقارنة"، وهو باب مُخصّص لتقويم عام لفكر الأعلام المغاربة الثّلاثة قبل عقد رؤية مقارنة في مستوى المناهج والمواضيع من جهة، ورؤية مقارنة في مستوى الرّهانات والنّتائج من جهة ثانية، وضمن كلّ باب توجد خلاصة جامعة لأهمّ مضامين الباب، كما تضمّن العمل فهرسًا لأهم المفاهيم والمصطلحات، جاء الكتاب موزّعًا على 416 من الحجم الكبير.

[22] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 281.

[23] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 107.

[24] الإحالة - هنا - إلى أدبيّات تتحدّث عن أزمة الديمقراطيّة في المجال التّداوليّ الغربيّ في السّنين الأخيرة، ولا نتحدّث فقط عن أزمة صعود تيارات اليمين السّياسيّ؛ لأنّ هذ مجرّد علامة من علامات الأزمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ النّظام الدّيمقراطيّ يبقى في مقدّمة الأنظمة السّياسيّة المعاصرة، الّتي تصبو إليها العديد من شعوب العالم، بما له وما عليه؛ لأنّ هذا النّظام أنجب لنا هتلر، ويُنجب لنا - اليوم - مجموعة من المشاريع السّياسيّة اليمينيّة المتطرّفة، باسم احترام "الصّوت الدّيمقراطيّ".

[25] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 282.

[26] عزّ الدّين العلّام، النّصيحة السّياسيّة، مرجع سابق، ص 282.

[27] عددها حوالي ثلث مراجع العمل الموزّعة - بدورها - على 12 صفحة؛ من الصّفحة 285 إلى الصّفحة 296.

[28] طه عبد الرّحمن، روح الدّين: من ضيق العلمانيّة الى سعة الائتمانيّة، المركز الثّقافيّ العربيّ– بيروت، ط 1، 2012م.

[29] انظر: عرض الكاتب عبد الهادي في كتاب وائل حلّاق، وجاء بعنوان: "الدّولة المستحيلة لوائل حلّاق ونقد المركزيّة الغربيّة"، في تاريخ 4 آذار 2015م، موقع "الإسلام في المغرب" (islammaghribi.com)، على الرّابط المختصر الآتي: goo.gl/Ls709t