علال الفاسي مجدِّداً


فئة :  مقالات

علال الفاسي مجدِّداً

علال الفاسي مجدِّداً[1]

حمادي ذويب*

وُلِد علّال الفاسي في (8 محرَّم 1328هـ/ 20 كانون الثاني/يناير1910م) في مدينة فاس المغربيَّة، وتوفي خلال سنة 1974م.

درس في جامعة القرويين، وبرزت شخصيَّته في هذه الفترة وهو لا يزال طالباً. ومن مآثره مساعدة عبد الكريم الخطَّابي في جهاده ضدَّ الاحتلال الفرنسي، وتأليف جمعيَّة أطلق عليها: «جمعيَّة القرويين لمقاومة المحتلين»، جمع إليها زملاءه من الطلّاب، وظلَّ علّال الفاسي على نشاطه الدائب حتى نال شهادة العالميَّة من جامعة القرويين سنة (1351هـ - 1932م) ولم يتجاوز عمره الثانية والعشرين.

ألّف الفاسي كتباً كثيرة من أهمّها: «مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومكارمها»، وقد نُشِر لأوَّل مرَّة سنة 1382 هـ/1963م. ويُعدُّ هذا الكتاب ثاني كتابين أساسيين بعثا الرُّوح من جديد في نظريَّة المقاصد الشاطبيَّة، وساهما في تجديد علم أصول الفقه وتطعيمه بأفق معرفي جديد. والمقصود بالكتاب الآخر: «مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة» لشيخ جامع الزَّيتونة محمَّد الطاهر ابن عاشور، وقد طبع للمرَّة الأولى سنة 1366 هـ/1946م.

حضرت المرجعيَّة الشَّاطبيَّة في كتاب العلَّامة علّال الفاسي في أغلب أجزاء كتابه وفي كثير من موضوعاته، على غرار تقسيم الشَّاطبي المقاصد إلى أقسام ثلاثة: ضروريَّة وحاجيَّة وتحسينيَّة. والاعتماد عليها لإسباغ المشروعيَّة على بعض الأصول التكميليَّة كشرع من قبلنا والاستحسان ومراعاة الخلاف وسدّ الذّرائـع والمصلحة[2]. إلّا أنَّ الفاسي لا يعود إلى كتاب «الموافقات» فحسب، وإنَّما يرجع أيضاً إلى كتاب «الاعتصام» للشاطبي[3]، كما يعود إلى غيره كابن القيّم، ناقلاً عنه اعتباره «أنَّ الشَّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد»[4]، وقد تواصل استثمار المنهج المقاصدي في مقاربة النَّص القرآني لدى علّال الفاسي في كتابه «مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومكارمها» وفي باقي كتبه، فقد عَدّ مقاصد الشَّريعة مصدراً أساسيَّاً ضمن مصادر التَّشريع الأصليَّة. وهي في نظره «المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقَّف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنَّها ليست مصدراً خارجيَّاً عن الشَّرع الإسلامي، ولكنَّها من صميمه...»[5].

وقد كان واعياً بالصّلة الحميمة بين المقاصد والاجتهاد الذي يطال النَّص الدّيني ذاته، يقول: «وباب الاجتهاد الذي فتحه الشَّارع للقادرين عليه من كلّ المسلمين في كلّ عصر وفي كلّ مكان هو الكفيل بمسايرة الشَّريعة وسدّه حاجة ما استجدَّ من المسائل التي لا حصر لها ولا نهاية لوقوعها. والاجتهاد يرجع إلى استنباط الأحكام من أدلّتها التفصيليَّة؛ إمَّا بفهم جديد لآية من كتاب الله أو لحديث من أحاديث الرَّسول أو انتباه لعلّة يرجع إليها مناط الحكم أو استعمال لمقتضى مقصد من مقاصد الشريعة».[6]

ولعلَّ إحدى أهمّ إضافات علّال الفاسي تركيزه على الوظائف التشريعيَّة الممكنة لفقه المقاصد. يقول رضوان السيّد في هذا الصدد: «فإنَّ الفاسي يُركّز على فلسفة التَّشريع أو نظريَّة الشَّريعة، ولذلك فقد عقد للمرَّة الأولى فصلاً طويلاً عن حقوق الإنسان في الشَّريعة مؤسّساً إيَّاها على الضرورات الخمس، ومضيفاً إليها أصل الحريَّة باعتباره من المصالح الأساسيَّة»[7].

وكانت للمصلحة منزلة أثيرة حظيت بها لدى روَّاد النَّهضة والإصلاح بشكل خاص، فهي أداة رئيسة للإصلاح ولمواكبة التغيُّر وتوسيع آفاق الشَّريعة. ورأى علّال الفاسي في هذا السياق أنَّ مكارم الأخلاق مقياس كلّ مصلحة عامَّة وأساس كلّ مقصد من مقاصد الإسلام[8].

وقد بيَّن في كتابه «مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومكارمها» منذ المقدمة أنَّ غاية الشَّريعة هي مصلحة الإنسان، باعتباره خليفة في المجتمع الذي هو منه، وخصَّص فصلاً للمصلحة المرسلة أكَّد فيه أهمّيَّة المصلحة على مستوى استنباط القواعد الشرعيَّة خاصَّة، وأوضح أنَّ الشَّافعي وأتباعه ذهبوا إلى نفي الاستنباط بالاستصلاح، إلّا أنَّ «في مذهبهم نظريَّات فقهيَّة لا يبرّرها إلّا القول بالمصلحة المرسلة»[9]. وقرَّر أنَّ الذي تزعَّم القول بالمصالح المرسلة واشتهر بها هو الإمام مالك ورجال مذهبه.

وقد كان علّال الفاسي من أكثر المنبهرين بنظريَّة الطوفي؛ فقد رأى أنَّ شرحه حديث «لا ضرر ولا ضرار» «انبثقت منه نظريَّة عظيمة الأهميَّة لم يسبق إليها، وهي اعتبار المصلحة وتقديمها على جميع الأدلّة»[10]. وهذا الموقف جعله ينقد الإمام الشَّافعي قائلاً: «وذهب الشَّافعي ومن تبعه إلى أنَّه لا استنباط بالاستصلاح، ومن استصلح، فقد شرَّع... وفي مذهب الشَّافعيَّة نظريَّات فقهيَّة لا يبرّرها إلّا القول بالمصلحة المرسلة...»[11]. ويبرهن هذا الموقف على أنَّ قسماً مهمَّاً من الفكر الإسلامي الحديث تحرَّر إلى حدٍّ كبير من ظاهرة التشبُّث المرَضي بالماضي وبالسَّلف، وأصبح يتعامل مع أعلام التّراث تعاملاً نقديَّاً يقدّر إيجابيَّاته وينكر سلبيَّاته. وبناء على هذا كان نقد موقف الأصوليّين المنكرين للمصلحة وأخذهم بها في ممارستهم الفقهيَّة أحد المواقف المتواترة لدى أعلام الفكر الإسلامي في هذا العصر.

ولئن رأى الشَّيخ محمَّد الطاهر ابن عاشور أنَّ العقل هو مصدر العقائد الحقَّة والأعمال الصَّالحة، وأنَّ الحضارة الحقَّة من الفطرة؛ لأنَّها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنَّ حفظ العقل من المصالح الضَّروريَّة وهي حفظ الدّين والنفوس والعقول والأموال والأنساب[12]، فإنَّ الفاسي لم يشذَّ عن هذا الخط، معتبراً أنَّ حجَّة الشَّرع لا يمكن أن تناقض العقل السليم، وأنَّه ليس هنالك في الإسلام أصل دينيّ فوق العقل[13]، وبناء على هذا كان من شروط المصلحة أن تكون معقولة في ذاتها تتلقَّاها العقول بالقبول متى عرضت عليها[14]. وعندما نظر الفاسي في الإجماع أصلاً ثالثاً من أصول التشريع عرض رأي بعض ممثّلي الفكر الإسلامي الحديث الذين خلصوا إلى أنَّ «الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حوَّل التطوُّر في تنظيم الشُّورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجيَّة الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك»[15]. وهذا الرَّأي إن كان وجيهاً، فإنَّه يضخّم من أثر العامل السّياسي في إفراغ الإجماع من مضمونه مقابل السُّكوت عن دور المؤسَّسة الفقهيَّة ذاتها في تصلّب طبيعة الإجماع وإغلاق باب التفاعل بينه وبين الواقع الذي تتجدَّد قضاياه وتتغيَّر مصالح النَّاس فيه ورهاناتهم.

والملاحظ أنَّ تصوُّر علّال الفاسي للإجماع اتَّسم بالمثاليَّة، فهو يصوّره في شكل «اتّفاق هيئة شورى يعقدها الخليفة لتبيّن وجهة النظر في مسألة ما»[16]، وهذا التصوُّر لا يخدم في نظرنا حريَّة القرار الصادر عن هيئة الإجماع؛ لأنَّ الخليفة هو الذي بيده عقد هيئة الشُّورى، فهل سيجرؤ عالم من العلماء دعاه الخليفة ضمن هذه الهيئة على السَّير ضدَّ هوى الخليفة؟ كما أنَّ هذا التصوُّر لا يساعد إلّا على تكريس مزيد من الاستبداد؛ لأنَّ هيئة الشُّورى المُكوّنة من قلّة من العلماء إن اتّفقت على حكم شرعي، فمن الواجب تطبيق حكمها، حتَّى إن كان هناك من يخالفها الرَّأي من بين العلماء غير المشاركين في الهيئة. فهؤلاء يجوز لهم إبداء رأي مخالف، لكنَّ تنفيذ الإجماع يبقى مع ذلك أمراً لازماً. وهكذا يتَّخذ الإجماع طابع السّلطة النَّخبويّة التي لا تتَّسع لأكبر قدر ممكن من المجتهدين. ولم يقدّم علّال الفاسي مقترحات بديلة لتحرير الإجماع من ربقة السّلطة السياسيَّة من جهة، ومن عائق الأقليَّة التي يمكن ألّا يكون بينها كبار العلماء، وخاصَّة إن كان هواهم غير موافق لهوى الخليفة أو صاحب الحكم عامَّة، من جهة أخرى.

والظَّاهر أنَّ الثقافة، التي نشأ الفاسي على مبادئها، منعته من أن ينظر إلى الإجماع نظرة مستقلّة عن السّلطة السّياسيَّة، لذلك فهو حتَّى في مستوى أمانيه لا يرى مجموعة المجتهدين من أهل الإجماع إلّا إلى جانب الخليفة تعزّز سلطته وتقوم بدور استشاري وتشريعي اجتهادي، ولا تكون بأيَّة حال من الأحوال سلطة مستقلّة عن الخليفة توازي سلطته وتقوم بدور الرَّقابة على قراراته. يقول الفاسي في هذا الشّأن: «ولو استمرَّ المسلمون في سيرهم الطّبيعي لتكوَّنت من رجال الاجتهاد طائفة مخلصة قادرة بجانب كلّ خليفة من خلفاء المسلمين تشير عليه بما يجب أن يعمل وتقرّر له الحكم في كلّ نازلة طبقاً لمقتضيات الاستنباط من الكتاب والسُّنَّة»[17].

وقد تطرَّق علّال الفاسي إلى الموقف الأصولي القديم الذي يمنع نسخ إجماع لاحق لإجماع سابق، وسعى إلى تفنيده من خلال حجَّتين: إحداهما مستمدَّة من التّراث الأصولي القديم. يقول: «وذهب أبو عبد الله البصري إلى جواز تناسخ الإجماعات؛ لأنَّ الإجماع الأوَّل ليس بحجَّة دائمة، بل يبقى حجَّة حتَّى يحصل إجماع آخر. وهو ما رجَّحه الرَّازي وقال الصفي الهندي (ت715هـ): إنَّ مأخذه قوي»[18]. والملاحظ هنا أنَّ الفاسي يلجأ -مع انتمائه المالكي- إلى رأي البصري، وهو أحد علماء المعتزلة. وليس هذا بغريب فقد أثَّر هذا الرَّأي الاعتزالي في الفكر السّنّيّ قديماً، وهو ما تجلّى عند الرَّازي والهندي.

أمَّا الحجَّة الأخرى، فإنَّها تتمثّل في اعتبار الإجماع متَّصلاً بالاجتهاد القائم على مراعاة الواقع والمصلحة العامَّة، لذلك فإنَّ إغلاق باب النَّسخ فيه لا موجب له. يقول: «ولست أدري الموجب لإقفال باب النَّسخ في الإجماع، فالمفروض أنَّ الإجماع إنَّما يتَّفق فيه المجتهدون على وجه من الاستنباط من المصدرين الأساسيين مراعاة للظّروف وللمصلحة العامَّة»[19]. فهذه النَّظرة الحركيَّة للإجماع تجعله متطوّراً وفق الزَّمن وحاجات النَّاس، وبهذه الصّفة يصبح الإجماع متحرّراً من سلطة المؤسَّسة الدّينيَّة ومن سلطة يريد فريق أو جيل ما من العلماء أن يمارسها على فريق أو جيل آخرين. وهكذا ينقد الفاسي المنظومة الأصوليَّة داعياً إلى تجاوزها في مسألة منع نسخ الإجماع حتّى يواكب هذا الأصل التَّشريعي التَّطوُّر ويتكيَّف مع حاجات النَّاس وقضاياهم المتجدّدة، و«الظروف تتبدَّل والرّجال المجتهدون كذلك يتبدَّلون، وتحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثه الزَّمان من تطوُّر ومن حاجة. فهل يعقل أن يبقى إجماع عصر حجَّة في عصر آخر، وقد وجد من الاتجاه العام وأحرى من إجماع المجتهدين ما ينقضه؟»[20].

ولعلّ من الطَّريف في الفكر الإسلامي الحديث، أنَّه يمنح الثّقة من جديد بطاقات أذهان الأجيال اللَّاحقة. فربَّ استنباط ما كان ليتأتَّى في عصر قبل العصر الذي نحن فيه على حدّ عبارة علّال الفاسي[21]، وربَّما يبني الإجماع الجديد حكمه «على دليل غفلت الأمَّة عنه تبعاً لاختلاف العصور وتوسُّع مصالح العباد وتطوُّر قدرات الاجتهاد ومناهجه»[22]. ومن تجلّيات النزعة التجديديَّة لدى علّال الفاسي تجويزه تعطيل المصلحة العامَّة للنَّص القرآني في مسألة تعدُّد الزَّوجات مثلاً، فهو يرى أنَّ التعدُّد المطلق قبل الإسلام منعه الإسلام، «فمنعُ التَّعدُّد فيما زاد على الأربع وقع تحريمه بالنَّص»[23]. ولئن أجمعت المذاهب الإسلاميَّة كلّها -في نظره- على هذا الحكم بسبب الخوف من الظلم وأباحت التعدُّد حتَّى الأربعة عند تيقّن العدل، فإنَّ التجربة والأحداث التاريخيَّة التي نتجت عن تعدُّد الزَّوجات، في العالم الإسلامي وفي المغرب خاصَّة، أبرزت الاستهتار بشؤون العائلة، وأفرزت «حوادث مخرّبة لها لم يكن مصدرها غير العبث باستعمال الرّجال لفكرة التعدُّد...»[24].

وبناء على المعطيات التاريخيَّة والواقعيَّة يصل علّال الفاسي إلى موقفه الجريء قائلاً: «ومهما يُقال عن محاسن تعدُّد الزَّوجات في بعض الظّروف الخاصَّة أو العامَّة، فإنّي أعتبر أنَّ المصلحة الإسلاميَّة والاجتماعيَّة تقضي بمنعه في الوقت الحاضر. وإنَّني لا أزعم أنَّ هذا المنع إتمام للتَّشريع كما يدَّعيه البعض، فالشَّريعة الإسلاميَّة كاملة في هذا الموضوع كما في غيره، لأنَّ القرآن صريح في المنع من التعدُّد كلّما خيف الجور، والظّلم اليوم للعائلة ولغيرها بسبب التعدُّد أصبح محقّقاً لا يمكن لأحد إنكاره. ولا ينهض هذا الاجتهاد على مبدأ المصلحة وملاحظة ما يجري في الواقع فحسب، وإنَّما يقوم أيضاً على فهم لغوي للأمر القرآني في الآية: «فانكحوا ما طاب لكم من النّساء» (النساء 4/3) مقتضاه أنَّه أمر إرشاد لا وجوب. يقول: «إنّي أفهم من الآيات القرآنيَّة التي أدليت بها أنَّها تشتمل على أوامر إرشاد يحقُّ للأمَّة تطبيقها بحسب الزَّمان والمكان»[25].

ويلجأ الفاسي -تعضيداً لموقفه- إلى أصل من أصول التَّشريع الفرعيَّة التي قال بها المالكيَّة خاصَّة هو سدُّ الذَّريعة. يقول: «فالتعدُّد غير ممنوع في الإسلام لذاته، ولكنَّه ممنوع بما زاد على الأربع من أجل الظّلم المحقّق فيه، والذي لا يمكن أن لا يقع، وأمَّا بما دون الأربع، فيجب أن يكون مباحاً في المجتمع القائم على جهاز نظامي يمنع من كلّ ظلم واعتداء. أمَّا في كلّ مجتمع يتحقّق أو يخاف فيه من العبث بالحقوق الخاصَّة للعائلة أو العامَّة من أجل إرضاء الشَّهوة، فيجب سدّ الذَّريعة فيه بمنع التعدُّد ودرء مفسدته»[26]. ولا يكتفي الفاسي بهذه الحجج، بل يضيف إليها حجَّة من خارج المجتمع الإسلامي تتمثّل في تحوُّل تعدُّد الزوجات «مدخلاً لكثير من أعداء الإسلام الذين يتخذونه حجَّة على ديننا، فيحول بينهم وبين فهم الدَّعوة الإسلاميَّة»[27]. وهكذا أصبح التعدُّد حجَّة لدى الخصوم على ظلم الإسلام للمرأة؛ بل إنَّ مسلمي الصّين وروسيا «قبل الشيوعيَّة» يعدُّونه ظلماً، وكذلك موقف كثير من العرب وجلّ نساء العالم بحسب الفاسي. وأضحى الأمر في نظره بمثابة عرف مستقرّ معروف بين النَّاس. ويلجأ هنا إلى النظريَّة الأصوليَّة، ليقرَّ بأنَّ العرف لا يتنافى مع مقاصد الإسلام في تكوين الطّمأنينة البيتيَّة. ويضيف إلى ذلك قاعدة أصوليَّة: «إنَّ المعروف بين النَّاس كالمشروط بينهم». ويورد في هذا الصدد قول صاحب كتاب «الإقناع»: «الشَّرط بين الناس ما عدّوه شرطاً، فلو تزوَّج من قوم لم تجر العادة بالتزوُّج على نسائهم كان بمنزلة شرط أن لا يتزوَّج على امرأته»[28]. والظاهر أنَّ الحجج السابقة كلّها لا تبرّر وحدها موقف علّال الفاسي المانع لتعدُّد الزوجات، ذلك أنَّ واقعه المغربي الخاص في المناطق البربريَّة كان دافعاً قويَّاً له لتبنّي هذا الموقف، فقد كان العُرف البربري يبيح الزَّواج بأكثر من أربعة غير مبالٍ بالتحديد الشَّرعي لعدد الزَّوجات. يقول: «أمَّا في المغرب، فهنالك ذريعة أكبر من كلّ ما تقدَّم يجب سدُّها بمنع التعدُّد، وتلك هي وجود العُرف البربري الذي لم يتمتَّع بالإصلاح الإسلامي، فلكي يقضى على التعدُّد بما فوق الأربع المباح في أغلبيَّة القبائل البربريَّة، يجب أن يطبّق ما قلناه من منع التعدُّد من أصله، حتَّى لا يبقى هنالك مبرّر أو داع لحيلة من الحيل الاجتماعيَّة في التمتّع بالشهوات دون قيد ولا تحديد»[29].

إنَّ هذا الموقف الصَّريح والقطعي في منع تعدُّد الزَّوجات ينهض لدى الفاسي على وعي نظري مسبق بأنَّ المصلحة العامَّة أصل تشريعي مقدَّم على غيره في غير المسائل الدّينيَّة والاعتقاديَّة. وهو ما يجلوه قوله: «الذي لا شكَّ فيه أنَّ الشريعة الإسلاميَّة مبنيَّة على مراعاة قواعد المصلحة العامَّة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانيَّة»[30].

ولا شكَّ في أنَّ فكر الفاسي التَّجديدي قد تأثر بثقافة عصره وبمنظومة القيم المهيمنة على الواقع، لذلك كان متأثراً في مقاربته لحريَّة المعتقد بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكنًّه تأثر لم يخلُ من الاحتراز.

يقول الفاسي: «إنَّ حريَّة الإيمان أو ما يُسمَّى بحريَّة العقيدة مضمون لا يمكن لأحد أن ينال منه أو يتعرَّض إليه بمحو أو إثبات؛ لأنَّه يتعلّق بوجدان الإنسان وضميره ومن المستحيل التحكُّم فيهما. وحريَّة الإيمان لا تتمُّ بطبيعة الحال إلّا إذا ضمن للمؤمن بدينٍ ما ممارسة شعائره وإظهار عبادته، ولكنَّ هذه الحريَّة نفسها لا تتمُّ إلّا إذا حفظ المؤمن بكلّ دين حريَّة الآخرين في إيمانهم وفي ممارسة شعائرهم، ولم يحاول أن يضرَّ بهم أو يفسد عليهم دينهم. فإذا فعل شيئاً من ذلك، فإنَّه -مع ضمان حريَّة إيمانه وشعائره- يؤاخذ بما آذى به غيره»[31]. يبدو الفاسي من خلال هذا الموقف مرتبطاً بالمادَّة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلّا نقطة وحيدة أسقطها وهي حريَّة تغيير الدّيانة أو العقيدة. وهي نقطة يراها بعض الدَّارسين جوهريَّة «لا يستقيم معنى حريَّة الدّين أو المعتقد دونها، وبالتالي فإنَّ حريَّة الإيمان المضمونة عند الفاسي تعني ظاهريَّاً حريَّة الحفاظ على المعتقد الأصلي أيَّاً كان، أمَّا استبدال غيره به، فلا»[32].

والملاحظ أنَّ الفاسي يشترك مع سائر علماء الإسلام في الانطلاق من تصوُّر كون كلّ معتنق لديانة معيَّنة، ولاسيما الدّيانة الإسلاميَّة، إنَّما اعتنقها عن اختيار واقتناع، مغيّباً تماماً «الاعتقاد الوراثي»، وهو الأعمُّ، ممَّا يجعل عمليَّة الاختيار ملغاة سلفاً؛ إذ إنَّ أوَّل فرصة للاختيار، إن هي أفضت إلى التحلّل من العقيدة، تعرَّض صاحبها بالنسبة إلى المسلمين إلى تهمة الرّدَّة.

وهذا التناقض بين مضمون الإعلان العالمي لحريَّة الاعتقاد والمضمون الإسلامي لها كما عرضه الفاسي قد أربك صاحبنا وأشعره بالحرج؛ لأنَّ ما ينطوي عليه الإسلام، كما يفهمه هو، من مصادرة لحريَّة الاعتقاد حين تفضي إلى الارتداد يكشف عن محدوديَّة هذه الحريَّة[33]. وممَّا يثبت حرج الفاسي أنَّه حين عزم على بيان رأيه في حكم الردّة صرَّح «بأنَّها مسألة دقيقة»[34]. وعوضاً عن مواجهتها، انصرف عنها إلى تبرير حكم الفقهاء القدامى، ليخلص بعد ذلك إلى الكشف عن موقفه من تغيير العقيدة مرحّباً بذلك بصورة ضمنيَّة بأنَّ حكم الرّدَّة في العصر الحاضر ينطبق خاصَّة على الإلحاد؛ لأنَّه الظاهرة الأكثر احتمالاً وربَّما الأخطر من التنصُّر.

وصفوة القول أنَّ الفاسي يمثّل مرحلة مهمَّة من مراحل تطوُّر الفكر الإسلامي تستحق مزيداً من الدَّرس والفحص بموضوعيَّة وتجرُّد؛ فالرَّجل من طينة نادرة، إن على صعيد الفكر، وإن على مستوى الممارسة السياسيَّة والوطنيَّة.

[1] - يتفكرون العدد12

[2]  ـ راجع ما ذكره عن الشاطبي في الصفحات التالية من كتابه مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها: 13، 54، 75-78، 136-137، 140-141، 160، 175، 188

[3]  ـ عاد إليه في شروط العمل بالمصلحة المرسلة، المصدر نفسه، ص 146

[4]  ـ المصدر نفسه، ص 54

[5]  ـ علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص ص 55-56

[6]  ـ علاّل الفاسي، دفاع عن الشريعة الإسلاميَّة، ص145

[7]  ـ رضوان السيّد، مقاصد الشريعة بين أصول الفقه والتوجُّهات النهضويَّة، مجلَّة التفاهم، السنة 9، العدد 34، خريف 2011، ص 285

[8]  ـ علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص 193

[9]  ـ علّال الفاسي، المصدر نفسه، ص 11

[10]  ـ علّال الفاسي، المصدر نفسه، ص 147

[11]  ـ علاّل الفاسي، المصدر نفسه، ص ص 144-145

[12]  ـ محمَّد الطاهر بن عاشور، المصدر نفسه، ص ص 59-60، 80

[13]  ـ علّال الفاسي، المصدر نفسه، ص ص 67-68

[14]  ـ علّال الفاسي، الفقه الإسلامي ومقارنته بالفقه الأجنبي، ص 196

[15]  ـ علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص 121

[16]  - علّال الفاسي، مقاصد الشريعة، ص 121

[17]  - المصدر نفسه، ص 121

[18]  ـ علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص 122

[19]  ـ المصدر نفسه، ص 123

[20]  - المصدر نفسه، ص123

[21]  ـ علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص 123

[22]  ـ رفيق العجم، الأصول الإسلاميَّة: منهجها وأبعادها، ص 131

[23]  ـ علاّل الفاسي، النقد الذاتي، ص 290

[24]  - المصدر نفسه، ص 291

[25]  - المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[26] ـ علّال الفاسي، النقد الذاتي، ص 292

[27]  ـ المصدر نفسه، ص 292

[28]  ـ المصدر نفسه، ص 293

[29]  ـ علّال الفاسي، النقد الذاتي، ص 294

[30]  ـ علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص 193

[31]  ـ المصدر نفسه، ص252

[32]  ـ نور الدين بوثوري، مقاصد الشريعة، التشريع الإسلامي بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2000، ص74-75

[33]  ـ المرجع نفسه، ص75

[34]  ـ الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، ص255