في الحاجة إلى الانفتاح؛ قراءة في تجربة جمال علي الحلاَّق


فئة :  مقالات

في الحاجة إلى الانفتاح؛  قراءة في تجربة جمال علي الحلاَّق

لأنّنا نعيش في زمن الارتكاس والإقامة في الماضي، وقلْبِ التّاريخ ليصير حاضراً، أو ربّما مستقبلا مفترضا، كان لزاماً أنْ يحسّ المثقّف أو الباحث أو المفكِّر أو من يعتبر نفسه كذلك عزلة اضطرارية تديم قلقه الوجودي، وتؤبّد معاناته مع واقع ليس له منه غير حضوره الجسدي؛ في حين أنّ حضوره الفكري يأبى الانصياع إلى الدخول في مأزق ثقافة مزوّرة تحاصر كلّ من يتقن فنّ الخروج، أو محاولة الخروج على الأسيجة التي تصنعها الثّقافة والفكر والسّلطة في زمن ما ومكان ما. إنّه ذلك الغريب بالتّعبير الدّيني[1] الذي لا يعيش من واقعه شيئا سوى القلق المزمن، وهذه هي العدمية كما يراها ميشال أونفري، حيث يعرفها: "بعدم القدرة على ربط الماضي بالحاضر والمستقبل".[2]

أنْ تعرّي محنة العقل المنفتح تحتاج أنْ تكون غريباً لتشعر بحصار الثّقافة، وضيق النّماذج ومساحات الأمان التي يرسمها الفكر السّائد

ربما يقترب هذا العقل الذي يمتلكه الغريب، والذي يمتدّ بأفكاره في عمق التّاريخ، إلى تلك الشّخصيات المثيرة التي طبعتِ العالم بحضورها، وثقلِها، وتحويلها لمسار الوجود إلى حيث ما نحياه اليوم؛ فالغربة هنا هو ذاك الإحساس بالمفارقة على الواقع من حيث النّظرة، ومن حيث التطلّعات والأماني. والغريب هو ذاك المنفتح على النّاس، والخارج في الآن ذاته على ضيق أسيجتهم، إنْ لم نقل المحطّم لذلك الوجود الثّابت، والصنمية التي يقبعون في أسْرها. وليس شرطاً أنْ يكون الغريب متديِّنا، أو ينحدر من تفكير ديني حتى ينطبق عليه الوصف، لكنّ الغريب يشبه إلى حدّ كبير كما أشار عبد الرزّاق الجبران[3] نفسه إلى ما كان يسمّيه كولن ولسون باللاّمنتمي، وهو ليس سوى ذلك الإنسان الحاضر فينا ومعنا، والذي يشعر بأنّ الفوضى والاضطراب هما أعمق من النِّظام الذي يؤمن به قومه. ويضرب لنا مثلاً ببطل جحيم باربوس، الذي يلجأ إلى غرفة في الفندق ليغلق بابها، ويعيش ليرقب الآخرين من ثقب في الحائط. إنّه كما يقول باربوس: "يرى أكثر وأعمق مما يجب"[4].

أنْ تعرّي محنة العقل المنفتح تحتاج أنْ تكون غريباً لتشعر بحصار الثّقافة، وضيق النّماذج ومساحات الأمان التي يرسمها الفكر السّائد. تحتاج أنْ تقرأ نفسيات من يشعرون كلّ يوم بعالم محدود، يضيق بهم كلّما وسّعوا من مداركهم، أو تجرّؤوا ليقتحموا الحمى والممنوعات والخطوط الحمراء داخل صناديق تفكيرهم. وهنا تأتي أهمية تجربة جمال علي الحلاّق من خلال كتابه: "فن الإصغاء للذات: قراءة في قلق المنفتح". تلك التجربة التي تتغيا الانفتاح، وتخوض تجربة القلق ولو بشكلٍ افتراضي لمحنة عقلٍ كلّ ذنبه أنه يأبى أنْ يقنع، أو يعيش بعيدا عن التوتّرات. ويعتبر كتاب "فنّ الإصغاء للذّات قراءة في قلق المنفتح" من بين الكتابات المهمّة للكاتب والمفكِّر العراقي جمال علي الحلاق، صاحب الكتابات المثيرة للجدل من قبيل "مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرّم" و"آلهة في مطبخ التّاريخ" "وتحطيم الأصنام". في كتابة هي أقرب إلى التأمّلات الممزوجة بطابع أدبيّ وفكريّ عميق، منها إلى الطّابع الأكاديمي الذي يتميز غالباً بصرامته ودقّته. إنّها باختصار الحاجة إلى الانفتاح في سبر تحدّيات الواقع، وغموض المستقبل، لأن الجهاز العقائدي للإنسان، والمتمثل في آليات تفكيره، وأنماط سلوكياته يختار دوماُ تغذية جانبه النّفسي بصناعة الأصنام الذّهنية، والعكوف عليها، والتمسّك بها إلى الحدّ الذي يصعب فيه الانفصال، وهي دائمة التّجديد في مسيرة متواصلة، ومستمرة على امتداد آفاق العقل الإنساني، كلّما حطّم الإنسان صنماً إلا وأقام آخر مكانه، ودافع عنه، أو مات من أجله، أو كان ضحية لنزعات تعصّبه اتجاهه. وهنا نفهم كيف يمكن أنْ ينتقل الإنسان من الفكرة، أو الأدلوجة، أو العقيدة إلى ممارسة الفعل التّدميري على نفسه، أو على غيره في حرب وهمية تأخذ طابع المقدّس شكلاً، وتصطبغ بالمدنّس مضمونا حين تكون نتائجها مأساوية، وغير قابلة للتّبرير.

إنّ من يظنّ نفسه وحيدًا يشبه الكاتب في عزلته أو شعوره بالوحدة أو المنفى الاضطراري، لا بدّ أنْ تثيره كلمات افتتاحية تختزل الكثير، حيث يقول: "للشّبيه الذي يظنّ نفسه وحيدا أنا كثيرون". عبارات قليلة بمعاني تختزل حجم الكتاب، وكأنّه أو صاحبه يعيش عزلة بأفق لا محدود. فأناه أو ذاته تعيش الكثرة في وحدتها، أو لربّما في شعورها ولا شعورها، عكس العقل المنغلق الذي يقبع في وحدته وضيقه، بالرّغم من مشاركة النّاس له في هذا الأفق.

يأبى العقل المنفتح أنْ يكون الغباء فلسفته المتجدّدة؛ فالأفكار تفقد بريقها بكثرة التكرار. لهذا أشار هشام شرابي أيضا إلى خطورة التّلقين عند دراسته للمجتمع العربي[5]، حيث يغيب النّقد والبحث والسّؤال، ويحضر الجواب النّهائي، والمسلّمات، والخطوط الحمراء. فالمنفتح ليس ملقِّنا، لهذا يرفض أنْ يكون داعية لاتجاه، أو عقيدة، أو أدلوجة، أو فكرة. إنّه ليس سوى ذلك الكائن المحرِّض، والمحفِّز، والمستفزّ للعقول كي تتحرّك من سُباتها، أو هو ذلك المصباح الذي يهدي من لا يقنع من السّؤال كي يتحرّك في رحلة لا نهاية لها، تتّسع في عزلتها كي تعانق اللاّمحدود. وبذلك ترفض كلّ أشكال القداسة والخضوع والدّوغمائيات التي تتميز بسمات ذكرها علي حرب في كتابه المصالح والمصائر[6]: - المعتقد الاصطفائي - اليقين الدوغمائي - الفكر الأحادي - المبدأ السكوني.

فالكتاب تمرينٌ في مثول الكائن أمام صمته أو كما قال الحلاّق: "الصمتُ محكمة وأنا المتّهم" ليخرج بذلك الصّمت عن أنْ يكون حكمة كما يراه الكثيرون، أو كما يرغب أنْ يكونه الكثيرون. ثقافة لا تحسن الإصغاء لعقلها، وذاتها، لنْ تحسن الإصغاء بالضّرورة للآخر، بله أنْ تتواصل معه، أو تجترح حلولا لملاقاته أو التّعايش معه والاعتراف به، لا التّسامح معه كما يرّدد الكثيرون. إذ التّسامح ليس سوى تنازل عفوي وبالتّالي استنسابيٌّ ومؤقت كما قال ريجيس دوبريه[7]، ويستدل على ذلك بما فعله طيّب الذّكر هنري ده نافار الذي أوقف الحروب الدّينية بمرسوم نانت المعروف بمرسوم التّسامح، ثمّ ألغاه خلفه لويس الرابع عشر في فرنسا استنادا إلى الشّرعية ذاتها. هذا يحيلنا إلى الخلط الكبير في تداول مفهوم التّسامح[8] في عالمنا المعاصر، خاصة في الشقّ المرتبط بالجانب الدّيني. والذي لا يعني سوى حالة التّنازل للآخر عن حقٍّ، أو التّساهل معه في خطأٍ قد ارتكبه وفقاً لمقرّرات عقائدنا ومسبقاتنا الدّينية، دون الإقرار بصوابية منهجه العقدي، وبحقّه في المساواة العقدية والدينية. وما دامت الثّقافة التي يصدُر عنها العقل المسلم تؤمن بصوابية المنهج وأحاديته، وإقصائه لكلّ مظاهر الاختلاف والتنوّع، فإنّ النّتيجة الحتمية لذلك هو الصّدام والصّراع كما تجلّى في الواقع التاريخي. وبذلك يكون التّسامح وفقاً لهذا التصوّر هو هدنة بين توترين أو صدامين، لمصلحة مفهوم الاعتراف الذي ينفتح على التعدّدية الثّقافية والدّينية على حدّ تعبير علي حرب[9].

يقرأ الحلاّق تجربة المنفتح كما قرأها من قبلِه نتشه الذي كان يرى أنّ المتوحّد يلتهم نفسه في العزلة، شرط أنْ يكون الالتهام هنا بدلالة الامتلاء بالذّات

يوصلنا الحديث عن العقل المنفتح مع جمال علي الحلاق إلى التّذكير بإشارات تبدو أنّها مهمّة لمن يرغب بالغوص في مغامرة الانفتاح المكسّر لجنون الانغلاق، والإيمان المطلق بالموروث والتّقاليد، والانحياز التامّ للمسبقات، لأنّ المنفتح لا محيط له، تماماً كالسّهم المنطلق في الفضاء. ولكي نفهم المفارقات التي يعيشها العقل المنفتح، حين يفكر خارج المجموع، وخارج النّسق السّائد، وجب أنْ نفهم الوسائل التي تتيح له هذا العيش، وهذا التحرّر الفكري، ولعلّ السّؤال أوّل هذه الخطوات نحو الانفتاح. السّؤال الّذي يعني الرّغبة في البحث عن معنى آخر، خارج خيمة الحقيقة الّتي ترسمها الجماعة، وتصادق عليها الثّقافة وحرّاسها وسدنتها. وأيضاً السّؤال الذي يمنح العقل التميّز والتفرد، والخروج من ربقة نمطية قاتلة، تستهدف العقل، وتميت عناصر الحياة فيه. إنّه السّؤال الذي يعطيك إمكانية العيش مع الآخرين، دون أنْ تحتويك سياجاتهم، أو تحاصرك قيود أفكارهم؛ فيكفي أنْ تسأل كي تعبُر إلى حيث تتلاقى مع ذاتك في وحدة وجودية لا يستطيع العقل المنغلق إدراكها. وهنا يقف الإنسان بعقله المنفتح ليمدّ بفكره كلّ أواصر الاتصال مع الجميع، دون أنْ تذيبه شعاراتهم، أو تنزاح به تعبيراتهم إلى حيث مركز ثقلِهم الفكري والثّقافي.

يقرأ الحلاّق تجربة المنفتح كما قرأها من قبلِه نتشه الذي كان يرى أنّ المتوحّد يلتهم نفسه في العزلة، شرط أنْ يكون الالتهام هنا بدلالة الامتلاء بالذّات. هذا التّطابق مع الذات إلى حدّ التوحد يتيح بحسب الكاتب أنْ يطرح نفسه، باعتباره مشروعا إنسانياً لا يخلو من غاية، فهو يبحث عن المعنى لوجوده وحضوره في هذا العالم تعبيرا عن ذلك القلق الذي يسكنه. وبمجرد أنْ تشعُر هذه الذّات بنفاذ غائيتها، أو نهاية وظيفتها، تعلن خروجها من جديد على السَّائد في حركة متواصلة لا نهائية. وهنا يمكن استحضار نماذج من علماء ومفكّرين جسّدوا هذه المعطيات من خلال كتابتهم وأفكارهم. كما فعل الرّصافي بقراءته للشّخصية المحمدية، أو دان براون في قراءته للرّموز والرّسوم الكنسية، أو الرّتوش التي قام به حسين مردان على نصوص نشيد الإنشاد المقدّس، وغيرهم كثير. فكلّ ما تحيلنا عليه هذه الأعمال وغيرها هو ذلك القلق المزمن لدى العقل المنفتح من تكرار ذاته. لأنّ التكرار هو قتلٌ للذات، واستبطان لا إرادي لنمطية مفروضة عليها. ذاتٌ تخاف الدّخول في الآخرين، وتخشى في كلّ لحظة أنْ تتحول إلى فائض لا معنى له، وكأنّها في صراع أبديٍّ ضدّ التّنميط. وذاتٌ تفزع من كلّ شيء إلا الاختلاف، فهو المبتدأ وهو المنتهى. وهنا تساءل الحلاّق، وهو يستحضر تجربة كافكا: "هل أحسّ كافكا بالخوف من الدخول إلى ذاته باعتبارها فخّاً؟ هل أدرك أنّ تجربته الذاتية شكلٌ من أشكال الخطأ؟ لماذا أوصى بإحراق أوراقه كلِّها؟. لقد كان أقلّ شجاعة من أبي الحيان التوحيدي الذي أحرق كتبه بنفسه؟"[10].

أنْ تحرق منتوجك وكتاباتك معناه أنّك تريد التخلّص من الوقوع في فخّ التعليم، وكأنّك تريد أنْ تقول بتعبير آخر، إنّ الحقيقة أبداً لا تؤخذ من الآخر، بل تنبع من الذّات، وهو درس يختلف جذريا عن درس الإحراق الذي تعرّض له العلماء من طرف الآخرين، كما في تجربة ابن رشد وطه حسين وجيوردانو برونو. فالأفكار لا تحترق كما يرى الحلاق، وهنا يمكن قراءة تجربة إبراهيم القرآنية. فالحرق ليس سوى شحن الطاقة الكامنة والتعجيل في إخراجها. فالعقل المنفتح يستحيل إيقاف حركته، أو محاولة حصاره، لأنّ الأفكار بطبيعتها منفلتة، خاصة إذا كان حاملها يتنفّس في الممكن الذي يراه، أو يتعامل مع المتاح بوعي وقصدية.

ربما يتساءل البعض عن هذا القلق الذي يسكن في ثنايا العقل المنفتح، وكيف يبدأ ثم ينشأ، ثم يرافق العقل في مسيرة لا متناهية. إنّه ابن فوضى المفاهيم التي يخلقها الواقع بتجلّياته المختلفة؛ واقعٌ كلّ همِّه إيقاف حركة العقل والتاريخ والجغرافيا لتستقرّ فقط في ما أنتجه القدماء، أو عبَّر عنه السّلَف، أو صادق عليه سدنة الأفكار وحرّاسها الأوفياء. واقعٌ يجعل التَّفكير في الممكن مستحيلا، خاصّة إذا كان يبحث عن معنىً مختلف ومغاير لصورة مرسومة سلفاً. واقع ينحاز إلى الماضى ويقيم فيه ليشعر بالأمان، ويخاف على نفسه قلق المستقبل، والانفتاح على المجهول. أنْ تقلق يعني أنّك خرجت إلى ذاتك وحقّقت التواصل معها وبها، فالذّات ليست سوى الخروج عن العقلية الجاهزة والبحث عن منافذ الخلاص. الذات هي الدخول في تحطيم الأصنام سواءٌ كانت أصناما مادية أو ذهنية، حيث إنّ هذه الأخيرة أشدّ خطراً من غيرها لخفائها وخطورتها، وهي ليست سوى الأشياء التي تبقى مصونة في الذّاكرة القومية، حيث إنّ الانقطاع عنها يمثّل انقطاعا عن الجذور، وبالتالي اغترابا يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية كما كان يرى فرانسيس بيكون[11]. لهذا، فالقلق المنبثق على واقع الحال ليس وصولاً إلى نهايات يتمّ رسمها سلفاً من طرف العقل المنفتح، فهذا مجرّد وهمٍ، بل كلّ ما يصل إليه العقل في أبعاد انفتاحه هو مجرّد نماذج بشرية، أو مشاريع قابلة للنقد، والتطوير، وخاضعة لصيرورة النشوء والارتقاء.

تحتاج الأفكار لتأخذ مكانها، وتتجذّر في الواقع إلى جرأة وثقة كبيرتين، وليس فقط إلى اتّصافها بالعقلانية والمنطقية. وهنا يشير الحلاق إلى أنّ فعل التّغيير يتم عبر الفعل وليس بالنية فقط. وهذا ما يفسّر انبطاح البعض أمام ما يلاقيه من معارضة ونقد من المحافظين وحرّاس الأفكار والعقيدة. فالأفكار إمّا تنكفئ أو تتوهّج. وربما تجربة سارتر هنا خير مثال كما يقول الحلاّق على ذلك؛ فهو يؤكّد في قراءته لكتاب الرأسمال: "بدا لي كلّ شيء في غاية الوضوح، لكنّي في الواقع لم أفهم أيّ شيء، لأنّ الفهم أنْ تغيّر نفسك، وأنْ تتجاوز ذاتك..."[12]. وهذا يحيلنا بالضرورة إلى أنّ الفكر الحقيقي هو ما كان ملتصقا بالسّلوك. ولعلّ ما يثير الانتباه في هذا الصّدد هو اشتغال المثقّف بحراسة الأفكار، ويعني ذلك التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج لا انفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها، فماركس مثلا الذي كان ينظِّر لمشروع البروليتاريا، والدِّفاع عن حقوقها يحكي بول جونسون: "أنّه كانت لديه خادمة اسمها إليانور تطبخ وتنظّف المنزل وتدبّر أموره المالية، لم يدفع لها ماركس بنساً واحدا".[13]

المنفتح لا يخلق آلهة، ولا يصنع قداسة من جديد بأفقٍ اصطفائيّ كما يفعل مثقّفو اليوم، ومن يشتغلون بحراسة الأفكار، فهو ليس وصيّاً على النّاس، أو قائدا ملهماُ لهم. المنفتح يأبى اليقين، ولا يبحث عنه. إنّه ذلك السّاعي نحو التّطابق مع الذّات، والغوص في عوالم النّسبية، وكأنّه يحيى في عالمٍ ارتجالي يستوجب منه المشي في الشّارع وعيناه خارج المحيط، يقلِب كلّ المفاهيم، من أجل أنْ يحدُث ثقباً في جدار إسمنتي متين، يساعد على تعرّف الأفراد على ذواتهم، وتحرير الإنسان من نفسه بفعل الهدر الذي يتعرّض له من طرف ثلاثية: الديكتاتوريات/العصبيات/الأصوليات كما يسمّيها مصطفى حجازي[14]، وهي نفس الثّلاثية التي أشار إليها علي حرب في كتابه الإرهاب وصناعه[15]، حيث اختزلهم في المرشد، الطاغية والمثقف. المرشد: سخّر اسم الله، ليديم تسلّطه على رقاب الناس، وأبعد كل من خالفه العقيدة أو الفكر عن مسمّى الإنسانية. الطاغية: لم يتعامل مع الوطن إلا باعتباره مزرعة، ومِلْكاً خاصّاً، وبدل أنْ يمنح النّاس حقوقهم، جعل من عنفه شيئا مشروعاً في حقهم. والمثقّف: بدل أنْ يطرح مشروعه بأفق إنساني، تحوّل إلى بوق لهذا النّظام أو ذاك. لقد أراد تغيير العالم، لكنّه تغيّر بعكس ما فكّر فيه أو نظّر له. هكذا أهدرت إنسانيتنا.

يأبى العقل المنفتح القناعة والتّسليم كما يرى الحلاق، ويكاد يصيح: "أسألك النجاة من كلّ محدود" على حدّ تجربة غيلان الدمشقي. ربّما لأن القناعة موت اختياري، ودخول في نسق اللاّعودة. أو ربّما لأنّ القناعة هي عيشٌ خارج ذاتك وذوبان في المجموع إلى الحدّ الذي تتطابق فيه الأنا مع ذوات الآخرين. وحده السّؤال من يفصل بين القناعة والبحث كما تمّت الإشارة إلى ذلك من قبل، ووحده من يحطّم الأصنام الذّهنية التي تراكمت على العقول بفعل القهر الاجتماعي والثّقافي. وليس مبالغة أنْ نقول وحده السّؤال من يمنح الحياة جدّتها، أو هو الخروج من معاناة الضّيق إلى حيث التوحّد مع الذّات. لن يدرك خطورة الاقتناع والتسليم إلا من تحقّق له شرف الانفتاح، فالقناعة ليست سوى تأجيل السّؤال، والضغط على الذات كي لا تبوح برغبتها في الخروج إلى عالم مفارق للجماعة، وذلك عن طريق ما سمّاه مصطفى حجازي[16] في ترجمته لكتاب "لماذا العرب ليسوا أحرارا؟" بثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم)، والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع"؛ فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه). أما التحريم، فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها.

من يقنع لا ينتقد، لهذا أشار الحلاّق إلى ضرورة تفعيل نقد الدين باعتباره خطوة نحو الانفتاح المنشود، وهنا استحضر تجربة ماركس وفيورباخ. فهذا الأخير ساهم في تطوير فكرة النّقد الديني، غير أنّ ماركس المهووس بفكرة التّغيير قفز بعيدا عنها. فقد قال في مقدمته في نقده لفلسفة الحق عند هيجل: "إنّ نقد الدين قد انتهى من حيث الجوهر بالنّسبة لألمانيا، والحال أنّ نقد الدين هو مقدمة لكلّ نقد آخر". هكذا كان نقد ماركس بمثابة النّزول من الجبل إلى الوادي، ومحاولة الدّخول في جسد الفراشة. مشكلة هذا الكلام أنّ ماركس قفز بعيدا، وجعل من النّقد خطابا نخبويا، دون أنْ يتشبع به عامة الشّعب. وكأنّ ماركس قفز إلى نقد النّقد قبل أنْ يتشبّع الشارع بثقافة نقد الدّين. لم يترك المجال للفكرة أنْ تنضج، وربّما قطفها قبل أنْ تختمر في عقول الشّعب الألماني. لقد كان نتشه أكثر اتّصالا بفيورباخ منه بماركس، عندما فرش أصل الأخلاق وفصلها، بعد أنْ أعلن موت الإله. ما يثير الانتباه في هذا السّياق هو أنّ تجربة ماركس وفيورباخ يمكن نقلها إلى السّاحة الإسلامية، في علاقة الإسلام بالأحزاب الشّيوعية، حيث إنّ هذه الأخيرة بدأت بنقد النقد، دون أنْ تمرّ بمرحلة نقد الدين، ولم تستثمر التّجارب المتاحة في بلدانها كتجربة الزهاوي في ثورة الجحيم في العراق، أو محمد إقبال في الهند، وعلي عبد الرازق في مصر. غير منتبهين إلى أنّ حركة التّاريخ لا تعرف القفز على المراحل. إنّها حركة ديالكتيكية تراكمية بحتة كما يقول الحلاق. لا مجال للقفز فيها، ولا حتى الطيّ والاختزال. ومن هنا يبقى سؤال النّقد الديني سؤالاُ ملحّاُ في واقعنا المعاصر، لأنّ وحده القادر على وضع التّجربة الدينية على المحكّ، وإخراجها من هالة التقديس، إلى رحابة النقد.

وهكذا، فالحاجة إلى الانفتاح هي دعوة إلى الالتفات إلى الذات والإصغاء إليها، ومحاولة التوحّد معها. إنّها رحلة نحو عالم منفتح ينشد الخروج عن المألوف والطبيعي، إلى حيث ذلك العالم الغريب الذي تتوارى فيه كلّ صورة الجماعة وتمثّلاتها ومقدّساتها وهواجسها. عالم من الغربة يتيح للإنسان أنْ يرى بعين مختلفة، تتغيّا السّؤال، وتنشد النّقد بوصفه الخطوة نحو تحطيم الأصنام الذهنية وحرّاسها وسدنتها. وهذا هو التّمرين لمن ينشد الانفتاح.

[1]- عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء". صحيح مسلم، كتاب الإيمان. باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين. الرابط التالي:

library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?bk_no=53&ID=74&idfrom=426&idto=433&bookid=53&startno=1

[2]- ميشال أونفري في محاضرة علمية بعنوان: عدمية الحضارة الغربية www.youtube.com/watch?v=w98JsbaJu5I.

[3]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي. دون تاريخ نشر، أو طبعة، أو دار نشر. ص 27

[4]- كولن، ولسون. اللامنتمي. بيروت. دار الآدب للنشر والتوزيع. ط5. 2004. ص 5

[5]- شرابي، هشام. مقدمات لدراسة المجتمع العربي. الدار المتحدة للنشر. ط3. 1984. ص 48

[6]- حرب، علي. المصالح والمصائر: صناعة الحياة المشتركة. منشورات الاختلاف، والدار العربية للعلوم ناشرون.ط1. 2010. ص 31

[7]- ريجيس، دوبريه. المفكر في مواجهة القبائل. ترجمة غازي برو. بيروت.دار الفارابي. ط1. 2015. ص 36

[8]- هناك من الفقهاء المعاصرين من لم تعجبه كلمة التسامح واستبدلها بالعدالة والإنسانية.

البوطي، سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه.لبنان، دار الفكر المعاصر، 2001، ط2. ص ص 144/145

[9]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص 106

[10]- جمال، علي الحلاق. فن الإصغاء للذات قراءة في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013. ص 18

[11]- درايوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. ترجمة حيدر نجف. بيروت. دار الهادي. ط1. 2007. ص 32

[12]- جمال، علي الحلاق، المرجع السابق. ص 92

[13]- بول، جونسون. المثقفون. ترجمة طلعت الشايب. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. ط1. 1998. ص 87

[14]- حجازي، مصطفى، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ط1، ص 24

[15]- حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1، ص 10

[16]- صفوان، مصطفى. لماذا العرب ليسوا أحرارا؟. ترجمة مصطفى حجازي. بيروت. دار الساقي. ط1، 2012، ص 8