محمد شقرون: المعتزلة النشأة والفكر وأسباب الضمور


فئة :  حوارات

محمد شقرون: المعتزلة النشأة والفكر وأسباب الضمور

المعتزلة

النشأة والفكر وأسباب الضمور

حوار مع الدكتور محمد شقرون([1])


محمّد شقرون مفكّر تونسيّ متخصّص في الدّراسات الحضاريّة الإسلاميّة. يُعدّ من أبرز من تناولوا بالدّرس الفكر المعتزليّ، وسلّطوا عليه الضّوء في العمق. له العديد من المؤلّفات؛ أهمّها: (السياسة والاجتماع في فكر الجاحظ: دراسة في فكر التنوير الاعتزالي) (تونس، 2007م)، و(الإسلام الأسود جنوب الصحراء الكبرى) (بيروت، 2007م)، و(معجم الجاحظ في السياسة والاجتماع) (تونس، 2011م)، و(دراسات في الحضارة الإسلامية) (تونس، 2011م). كما حقّق الكثير من الكتب أهمّها (إرواء النديم من عذب حبّ الخديم) (طوبى، السنغال، 2006م)، و(منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم) (تونس، 2011م)... وهو، الآن، أستاذ الدراسات الحضارية الإسلامية، ورئيس لجنة الماجستير والدكتوراه والتأهيل في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، وعضو لجنة التأهيل في جامعة تونس. التقيناه في مكتبه في الكلّيّة، فكان لنا معه الحوار الآتي:

عيسى جابلي: أنتم من أبرز الباحثين الّذين اهتمّوا بالفكر الاعتزاليّ، وقد اشتغلتم على الجاحظ في أطروحتكم، لو تعرِّفنا بهذه المدرسة، أستاذي الكريم.

الدكتور محمد شقرون: صحيح أنّني اشتغلت على الفكر الاعتزالي مدّة طويلة نسبيّاً، وأعددت أطروحة دكتوراه حول المناحي السياسيّة والاجتماعيّة في فكر الجاحظ وكتاباته، وعرّبت بعض ما كتب عنه في اللغات الأوربّيّة، لكن لم يكن إعداد الأطروحة الدّافع الأوّل لاهتمامي بالمعتزلة. فقد كنت منتسباً إلى شعبة الفلسفة والآداب العصريّة في مرحلة التعليم الثانوي، وكانت المسائل والكتب المقرّرة، في برنامج تلك الشعبة، تنحو نحو العقلانيّة، وتركّز على اشتغال الفكر لإيجاد تفسير إنساني لقضايا الوجود، وتعلي من شأن المعرفة والعمل. وفي تلك الفترة، قرأت للجاحظ، مثلما قرأت للمعرّي، والغزالي، والمسعدي، ولكتّاب فلسفة الأنوار في الغرب. كان لتلك المرحلة الأثر البارز في توجّهي، بعد إتمام الدراسة في الجامعة، والحصول على الأستاذية في اللغة والآداب العربيّة، نحو الدّراسات الحضارية، واشتغالي على الفكر الاعتزاليّ في حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، الذي رأيت أنّه أقرب إليّ من غيره، باعتباره الفكر الذي يخاطب العقل أكثر من الوجدان، مع انتمائه إلى دائرة الإيمان. فالمعتزلة هم الفرقة الإسلاميّة الأكثر انفتاحاً على قضايا الإنسان من بقيّة الفرق، وأعمقهم إيماناً بقدرته على الوصول إلى الخلاص بفكره، وعلمه، وعمله، وتحمّله مسؤوليّة وجوده، وإعطائه معنى، واعتبارهم النصّ الديني قابلاً للفهم بعمل العقل فيه؛ إذ جاء خطابه للإنسان العاقل والمسؤول المتحمّل لأمانةٍ عجزت عن تحمّلها بقية المخلوقات التي حرمت العقل. ثمّ هي الفرقة التي آمنت بنسبيّة الأشياء والحقائق، ونأت بنفسها عن التطرّف والتقصير، فالاعتزال، عند الجاحظ (وهو التعريف الذي أطمئنّ إليه)، هو «التوسّط والاقتصاد، هو الاعتزال لغلوّ من غلا، وتقصير من قصّر». والتوسّط بحث عن التوازن، وفي البحث إعمال للعقل ومعرفة، وعمل في الواقع. والمعرفة نسبيّة تبدأ بالشكّ الباحث عن اليقين القابل، بدوره، للشكّ، في حين يتوقّف العقل عن العمل عند أصحاب الأطراف من الغلاة، أو المقصّرين، ويتأكّد انفصالهم عن الواقع، ومعرفته، والعمل فيه؛ لركونهم إلى التصديق المجرّد، أو التكذيب المجرّد. وإذا كانت العقيدة تقوم على اليقين المطلق، مع ما يلازمه من التصديق المجرّد، أو التكذيب المجرّد، فإنّ شؤون الدنيا تقوم، أساساً، على السؤال والبحث عن الجواب، وتقوم على العمل، وتحقيق النتائج. وهذا الجانب الدنيوي في فكر المعتزلة هو الذي كان يشغلني أكثر من غيره، بحكم السؤال الذي لا يزال مطروحاً علينا في هذه الأيام، على الرغم من مرور قرنين على طرحه، وهو: «لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم». ومعلوم أنّ التقدّم والتأخّر المطروحين في صيغة السؤال لا يهمّان العقيدة؛ بل تنظيم شؤون الحياة الدنيا، وإن كانت العقيدة من تلك الشؤون.

عيسى جابلي: بخصوص التّسمية، نعرف أنّ روايات مختلفة تتناقل بشأن أصلها، فما الرّاجح عندكم في هذا الشّأن؟

الدكتور محمد شقرون: لا يهمّ البحث في السبب المباشر للتسمية، والظروف التي حفّت بها، وقد تعدّدت الكتابات فيها، وتردّد ذكر عبارة الحسن البصري: «اعتزل عنّا واصل»، التي أعلنت ميلاد فرقة المعتزلة. ولا يكون ميلاد دون أن يسبقه لقاح، وفترة تكوّن في الرّحم. ولئن كان الميلاد زمن واصل بن عطاء، في العقد الأوّل من القرن الثاني، أو بدايات العقد الثاني منه، فإنّ ما اعترى مسيرة الأمّة الإسلاميّة من اختلاف سياسيّ حول شكل الدولة، وطبيعة السّلطة فيها، وحدودها، وعلاقة الديني بالدّنيوي في السياسة في فترة التكوين بعد النشأة الموفّقة بظهور الإسلام وانتصاره، وما رافق الاختلاف من عنف، كان يدعو إلى التأمّل واتّخاذ المواقف. وقد اعتزل بعض الصحابة، ومن تبعهم، الفتنة التي تلت مقتل عثمان، وسُمّوا معتزلة قبل ظهور واصل، ولكنّ اعتزالهم لم يكن إعلاناً عن نشوء فرقة لها برامج سياسيّة، واجتماعية، وثقافيّة؛ لافتقادهم رؤيةً واضحة لما يجب أن تكون عليه الأمّة، وما كانوا بقادرين على امتلاك تلك الرؤية؛ لعدم اطّلاعهم على تجارب الأمم الأخرى في السياسة، وتنظيم الحياة الاجتماعية، ثمّ لعدم تكهّنهم بما كانت ستؤول إليه الأوضاع مع التأسيس الفعلي للدولة الإسلاميّة، حين استقرّ الأمر للأمويين.

ومع انتقال مركز السلطة إلى دمشق، وظهور الجيل الثاني من الموالي، الذين تعرّب لسانهم، مع محافظتهم على لغات أقوامهم المغلوبين عسكريّاً، و، في بعض الأحيان، على عقائدهم، أتيحت الفرصة لترجمة كتب المغلوبين، وكانوا أصحاب حضارة، وأصبح الجدل الفكري ممكناً، والتعبير عنه متيسّراً.

وفي عبارة الحسن البصري إيحاء بمعنى الخروج عن الصفّ، ومفارقة الجماعة، وقد أُلحق المعتزلة بالخوارج في كتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي. وفي تأكيد معنى الخروج إرادة بيّنة للإقصاء والتخطئة، وسعي واضح للتوحيد حول فكر واحد، ومنهج في التفكير واحد. والسعي إلى التوحيد نفي للاختلاف، ونكران للحرّية، ووقوفٌ في وجه التحوّل والتطوّر، وفيه تعالٍ على الواقع، وعلى قدرة الإنسان على التأثير فيه، والتأثر به.

وفي العبارة إيحاء، أيضاً، بأنّ الخروج إراديّ، والرفض مسؤول، وفيه تأكيد على حسن اختيار وإرادة إصلاح، وهو ما يفسّره قبول المعتزلة التسمية، ودفاعهم عنها. وورد في تعريف الجاحظ للاعتزال، وقد ذكرناه، كما ورد في تعريف القاضي عبد الجبّار لاحقاً، وتبنّاه بعض الدّارسين المحدثين.

الذي يهمّ في التسمية هو خروج المعتزلة عن صفٍّ لم يكتمل لعدم قدرته على ضمّ المختلفين، واعتزالهم فكراً كان لا يرى للإنسان قدرة على النجاة إلّا في ضوء الانصهار في الجماعة، جماعة قامت على تقديس السّلف، والنّفور من الرأي والاجتهاد، والإبداع والانكفاء على الذات الممتلئة، ورفض فكر الآخر واتّهامه.

عيسى جابلي: ما أسباب نشأة الفكر الاعتزاليّ؟ أَهي أسباب دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، أم ثمّة ما هو أعمق من ذلك في نظركم؟

الدكتور محمد شقرون: لا تنفصل الأسباب عن بعضها؛ بل هي تشترك في الدّفع إلى نشوء الفكرة. وقد تبدو بعض الأسباب أقرب من غيرها، ولكنّ الأسباب الدّاعية إلى تبلور عقيدة المعتزلة وفكرهم كانت سياسيّة اجتماعيّة دينيّة، باعتبار حضور الدّين في مناحي الحياة كافّة في ذلك العصر، فالسياسة إمامة، والاجتماع جماعة ينظّم حياة أفرادها وعلاقاتهم الفقه المستنبط من النصّ الدّيني. ولكن تبقى الدّوافع السياسيّة والاجتماعية هي الأسبق؛ إذ الأحداث والتحوّلات هي الدّافع للتفكير واستنباط الحلول، ويأتي الاستنجاد بالدّين لإضفاء شرعيّة على تلك الحلول، ثمّ إنّ الصراعات السياسيّة والاجتماعية كانت تعبّر عن نفسها تعبيراً دينيّاً في أمّة جمعت بين أفرادها العقيدة، وفي دولة اختلطت فيها الشرعيّة الدينية بالشرعيّة السياسيّة. فالحاكم خليفة لله، أو لرسوله، أو هو، في أدنى الحالات، أمير للمؤمنين، والمحكومون هم جماعة المؤمنين، والقوانين المنظّمة لحياة الجماعة هي شرع الله؛ لذلك يصعب التفريق بين السياسي والاجتماعي والديني، وإذا نحن فرّقنا بينها، فذلك من باب الفصل المنهجي الذي تقتضيه الدراسة في العصر الحاضر، وهو محاولة تفكيك لتحديد العوامل، وفهم نسبة الارتباط وسببها. وإذا نحن عدنا إلى الرّوايات، التي تحدّثت عن نشأة المعتزلة، وجدنا السياسة حاضرة بقوّة، ووجدنا العامل الاجتماعي مساعداً على ذلك الحضور. فأصل الخلاف بين المسلمين هو الحكم على مرتكب الكبيرة، وحكم المعتزلة على مرتكب الكبيرة هو الذي حدّد هويّتهم، وأخرجهم طرفاً ثالثاً يتوسّط طرفين. وما الكبيرة المتنازع في شأن الحكم على مرتكبها إلّا قتل المسلم المسلم، لاختلاف في الرأي السياسي، وما يجب أن تكون عليه السلطة في علاقتها بالمجتمع، وما طبيعتها وحدودها. وقد انطلق الخوض في الكبيرة ومرتكبها، مع الفتنة الكبرى التي هي خلاف سياسي، من حادثة الخروج على الخليفة عثمان، وقتله لمطاعن على سياسته، ثمّ ما تلاها من نزاعات استبيحت فيها الدماء والأعراض. ولم تكن مبرّرات قتل عثمان، أو عليّ، أو غيره من الذين سقطوا في النزاعات السياسيّة، ارتكابهم كبائر من صنف آخر غير قتل الخصم السياسي، ولم يتّهم قاتلوهم بارتكاب كبائر أخرى غيره. فالعامل السّياسي هو الأبرز من بين العوامل، ثم يأتي العامل الاجتماعي؛ ذلك أنّ حلّ قضية الحكم ينتج عنه، بالضرورة، سلم اجتماعي إذا توافرت معه حلول كليّة، أو حتّى جزئية، لقضايا الاختلاف الديني والعرقي والطبقي الاقتصادي، الذي عرفته الأمّة الإسلاميّة الناشئة. فالفتوحات، وما انجرّ عنها من غنائم، طرحت قضية توزيع الثروات، ودخول أجناس من غير العرب في الإسلام ظهرت معه قضيّة المساواة بين المسلمين، وقضايا أخرى متفرّعة عنها. مجمل هذه القضايا، وهي سياسيّة اجتماعيّة، هو الذي كان وراء ظهور الفرق الإسلامية، وهو الدّافع إلى بلورة برامجها ومقترحاتها لحلّه، وكان برنامج المعتزلة في السياسة والاجتماع مختلفاً عن بقيّة الفرق، وهو ما اشتغلتُ عليه بالاعتماد على كتابات الجاحظ.

عيسى جابلي: ماذا عن الانتماء إلى هذه المدرسة؟ كيف نفرّق بين المعتزليّ وغيره؟ هل الأصول الخمسة (التّوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر) كافيةٌ، في نظركم، للفصل بين المعتزليّ وغيره؟

الدكتور محمد شقرون: الأصول الخمسة هي الدستور الذي ينضوي تحته كلّ منتسب إلى الفرقة، ويُعرف به عند غيره من المنتسبين إلى فرق أخرى. ولكنّ الدستور هو جملة من المبادئ العامّة، أو الأبواب الكبرى، التي تبحث في تفاصيلها الفصول، وقد تتّجه تلك الفصول اتجاهات متعدّدة في تقرير الفروع التي يحب إلحاقها بالأصول. وقد اختلف المعتزلة في بعض الجزئيات التي عدّت مقالات، وذكرتها كتب الفرق، وعُدّ القائلون بها من أصحاب المقالات داخل الفرقة، ولنا في كتاب الأشعري (مقالات الإسلاميين)، وفي غيره من كتب الفرق، وكتب المشتغلين عليها، الكثير منها. والذي يميّز المعتزلة عن غيرهم من الفرق، وهو الأهمّ، تقديمهم العقل في كلّ الأحوال؛ لحلّ الإشكالات التي تطرح على الفرد، وعلى الجماعة، في شؤون الدّين، كما في شؤون الدّنيا. فعلى الإيمان بالعقل المشير والهادي والحجّة التي تتقدّم كلّ الحجج، بنى المعتزلة أصولهم الخمسة، واتخذوها عقيدة تشتمل على الدين والدنيا. والذي يميّزهم عن غيرهم، أيضاً، فكرة التقدّم والوعي بالزمن وفعله في الكائنات الحيّة التي لا تتحرّك خارجه. فلا فضل للماضي على الحاضر إلا بما صلح منه للبقاء في الحاضر، ولا فضل للحاضر على المستقبل إلا بما يصلح للاستمرار فيه، وما صلح ويصلح هو الذي ينفع الناس، ويلقى منهم القبول، فيتفقون على العمل به، والزيادة عليه.

عيسى جابلي: ما الرّوافد التي نهلت منها هذه المدرسة أفكارها، وبنت على أساسها تصوّراتها؟

الدكتور محمد شقرون: كلّ فكر ينطلق من واقع، وتغذّيه روافد اطّلع عليها صاحبه، واقتنع بها، وتسهم في إثرائه وبلورته في صياغة أدبيّة. وفكر المعتزلة لم يخرج عن هذه الدّائرة، فقد كان نتاج واقع سياسي واجتماع في حالة غليان، إن لم نقل فوران. وكان ذلك الواقع في حاجة إلى فهم وتنظيم يقيانه الدخول في أزمة. وقد أسهم الفكر الاعتزاليّ في عملية الفهم والبحث عن وسائل التنظيم، واستأنس، في ذلك، بروافد من الفكر الإنساني، وتجارب الأمم السالفة. لقد نشأ الاعتزال في البصرة، بوّابة الخلافة العبّاسيّة في بغداد، والمرفأ الذي تعبر منه البضائع، والأجناس، والأفكار الوافدة على عاصمة الدولة بغداد. وكانت البصرة، بداية من خلافة علي، بعد عقدين من تاريخ تأسيسها، مدينة ضمّت كلّ عناصر الاختلاف والخلاف. فقد تعدّدت القبائل التي استوطنتها من العرب، والأجناس التي وفدت إليها من خارج الجزيرة العربيّة، والحركات السياسيّة التي اتّخذتها مركزاً لدعوتها وخلافها على مركز السلطة في المدينة، أو دمشق، أو بغداد. وإنّ واقعاً مثل الذي كان سائداً في البصرة من شأنه أن يدفع إلى التفكير في أسباب تلك الحركيّة، وإلى السعي إلى اقتراح حلول تساعد على إزالة أسباب التوتّر، وتفضي إلى التوافق على قواسم مشتركة تسمح بالعيش للجميع، والمشترك بين الناس هو العقل.

وإضافة إلى الواقع الدّافع إلى التفكير، كانت الأفكار التي يحملها الوافدون على المنطقة من الأمم الأخرى، وخلاصة تجاربهم المضمّنة في كتبهم، والتي نقلها المترجمون بتشجيع من أصحاب السّلطة، أو من رعاة العلم والمعرفة من أصحاب الثراء. وكانت تلك الأفكار والمعارف، وأهمّها كتب الفلسفة اليونانيّة، روافد نهل منها المعتزلة لبلورة برنامجهم المقترح لحلّ الإشكالات القائمة، وكان المعتزلة أكثر اطّلاعاً من غيرهم على تراث الأمم الأخرى. وللجاحظ في تعظيم شأن الكتاب، والحضّ على قراءة الكتب، أقوال معروفة في كتابه (الحيوان).

عيسى جابلي: منذ أن ظهرت أولى الأفكار الاعتزاليّة، لاقى أصحابها معارضة شرسة، واتّهاماً بالابتداع. ووصل الأمر بالكثيرين إلى حدّ القتل (غيلان الدّمشقي، الجعد بن درهم...)، بم تفسّرون ذلك؟

الدكتور محمد شقرون: كان من الطبيعي أن تلاقي الأفكار الوافدة والمنقولة عن الأمم الأخرى معارضةً من السلطة السياسيّة القائمة، ومن صنفٍ من العلماء اختاروا صفّ السلطة، وأن ترى فيها السلطة والعلماء تهديداً لمصالح. قامت سلطة الحكّام، في ذلك العصر، على إيديولوجيا الجبر، ومفهومي الأمر والطّاعة، واعتمدت العصبيّة القبليّة طريقاً للتمكّن، فلم تستسغ مفاهيم تتعارض مع إيديولوجيتها، وتهدّد استقرار الأوضاع. وأقام صنف من العلماء سلطتهم على تقديس فترة زمنيّة عُدَّت مثالاً، وعلى جنسٍ من البشر عُدُّوا أرقى من غيرهم، ومعيار هذا الصنف من العلماء، في كلّ ذلك، الإيمان. ففضل الفترة الزمنيّة على غيرها من الأزمان يرجع إلى ظهور النبوّة، ونزول الوحي، وفضل أهل تلك الفترة على غيرهم يرجع إلى شهودهم تلك الأحداث، أو قربهم من زمنها، أو انتمائهم إلى من شهدوها. فلم يكن الفضل مرتبطاً بأفعال الإنسان، وإنّما بانتمائه إلى زمن، أو قبيلة، وهو ما لا يستقيم في العقل، وحتّى فيما تضمّنه النصّ الديني المؤسّس للدولة وللمجتمع/الأمّة من خطاب للإنسان في المطلق، وللمؤمن يدعوه إلى السعي وإلى التقوى اللذين بهما يكون الفضل، لا بالانتساب إلى زمن أو جنس من البشر. كان المعارضون للدولة يبشّرون بثقافة النقد؛ نقد السائد بسيادة السلطان، وعلماء السلطان، وكان السلطان وعلماؤه يسعون إلى التوحيد؛ توحيد أمّة عانت من الاختلاف، فلقي المعارضون العنت، وضحّوا بحياتهم في سبيل مبادئهم. وتلك كانت حال العلماء الذين اختاروا الحريّة والنقد، من أمثال من ذكرت من غيلان الدّمشقي، والجعد بن درهم، وهو الغالب في ظلّ أنظمة الحكم المطلق. ولكنّ الفكر البشري يواصل عمله، وتجد الأفكار طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم، وقد تجد طريقها إلى قلوب أصحاب السلطة وعقولهم، فيتبنّونها، ويعملون على نشرها، ولكنّ نجاحهم في ذلك يبقى محدوداً ما لم تساعد عليه عوامل أخرى؛ منها قبول الأغلبيّة من الناس تلك الأفكار. وهذا ما حدث مع الفكر الاعتزاليّ، حين تبنّى أفكار السابقين عليه المنادين بحريّة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، والمعلين من شأن العقل، الذين نجحوا في جلب السلطة إلى صفّهم، بعد أن كانوا معارضين لها في عهد الأمويّين، ولكنّهم فشلوا في فرض آرائهم لأسباب منها أنّ المعارضة للسلطة تنتقل إلى معارضة لفكرها.

عيسى جابلي: إذا عدنا إلى التّاريخ، وجدنا تناقضاً في المواقف من المعتزلة من قبل السّلطة السّياسيّة، أقصد المأمون خاصةً، الّذي ذهب مذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، وحمل النّاس والفقهاء على القول بذلك، غير أنّ الموقف انقلب إلى الضدّ حال صعود المتوكّل إلى سدّة الحكم، فمنع الكلام، ورفض القول بخلق القرآن، فما الّذي حصل حتّى ينقلب الموقف هذا المنقلب؟ وبم تفسّرون ذلك؟

الدكتور محمد شقرون: علاقة المعتزلة بالسلطة السياسيّة العبّاسية حكمتها المصلحة، والبحث عن سند ودعم من الطرفين. فالمعتزلة لم يكونوا كلّهم مفكّرين منعزلين عن الواقع ينظّرون لقضايا فلسفيّة بحتة أو دينيّة لا علاقة لها بحياة النّاس من قريب أو بعيد. ونشأتهم كانت في بحثهم عن حلّ لأزمات سياسيّة واجتماعيّة. وقد شارك بعض منهم في الثورة على بني أميّة، وكتب كثير منهم في الإمامة وشؤون الحكم، وتحدّثوا عن الاختلاف الفكري والعقدي والعرقي والطبقي كما أسلفنا. وكانوا محطّ أنظار بعض الخلفاء من الذين كان لهم اهتمام بالعلم وبأصحابه، فقرّبوهم، واستغلّوا أقلامهم وأفكارهم، واتّخذوهم مستشارين في قصورهم، حتّى آل الأمر إلى تبنّي تلك الأفكار، كما حدث مع المأمون، والمعتصم، والواثق؛ بل تجاوزوا التبنّي إلى إرادة التعميم والفرض بالإكراه. وفي إرادة التعميم وإكراه النّاس على قبول تلك الأفكار حدث المنعرج، وكانت المعارضة، فحصل الانقلاب من رجال السياسة. حدث التصادم بين صنفين من المثقفين، أو، لنقل، من العلماء، ما دمنا في سياق حضاري قديم. فالصنف الأوّل ارتبط بالدّولة، في حين ارتبط الثاني بالمجتمع، وسعت الدّولة إلى إحكام سيطرتها على المجتمع، فتحرّك علماؤه لمنعها من ذلك.

كان الصراع على أشدّه بين المثقفين أو العلماء أنفسهم، وكان صراع فكر وبرامج وتصوّرات لما يجب أن تكون عليه الدولة والمجتمع، ولكلّ فريق جنوده ومناصروه فيهما. كان هناك نوع من التوازن مردّه اقتسام النفوذ، فكان لعلماء السلطة النفوذ السياسيّ بتولّي المناصب السياسيّة؛ مثل: الوزارة، والكتابة في الدواوين، والولاية في بعض الأحيان، في حين كان علماء المجتمع قانعين بسلطة روحيّة وعلميّة داخل المجتمع، ولكنّها كانت سلطة منافسة لسلطة الدولة وعلمائها. وسواء أكان التدخّل من السلطة لفرض سيطرتها الكاملة على المجتمع، أم من علمائها الذين استعدوها على منافسيهم من علماء المجتمع، فإنّ النتيجة لم تكن في صالح السلطة ولا علمائها. فقد اضطرّت السلطة إلى التراجع، وخسر علماؤها نفوذهم، وهو ما حدث مع المتوكّل، حين أوقف ما عرف في التاريخ العربي الإسلامي بالمحنة، محنة رجال الحديث، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وما تبع ذلك من انتقام من علماء المعتزلة، وتراجع للفكر الاعتزالي. لقد تصرّف المتوكّل تصرّف رجل السياسة، الذي لا تهمّه المبادئ والأفكار إلا بقدر ما تكون في خدمة دولته، فإذا صارت عبئاً على الدّولة، فالتخلّي عنها من متطلّبات السياسة.

التقت مصلحة المعتزلة في السّيطرة على مجالات المعرفة بمصلحة رجال السياسة من الخلفاء العبّاسيين في توحيد الناس على منهج واحد في التفكير؛ للقضاء على كلّ اختلاف كان يُخشى منه التمرّد على السلطة، وتعارض ذلك مع مصلحة صنف آخر من العلماء، ومن المتربّصين بأصحاب السلطة، فحدث التّصادم، وانتهى إلى خسارة دعاة التوحيد القسري. وقد يبدو غريباً أن يكون الفكر الاعتزالي طرفاً في هذا الانحراف، وهو الذي قام على التوسّط بين طرفين، وآمن بالنّسبيّة والاختلاف، ولكنّ الغرابة تزول إذا أخذنا في الاعتبار ولاءهم السياسيّ للعبّاسيين، واستشعارهم الخطر من صعود الفكر السلفي وانتشاره في أوساط أغلبيّة النّاس، حتّى وصل إلى موظّفي الدولة، وهو ما نستشفّه من رسالة المأمون إلى عامله على بغداد سنة (218 هــــ)، في امتحان علماء أهل الحديث الرّافضين القول بخلق القرآن، وفي امتحان موظفي الدّولة المشايعين لهم في رفضهم. تلك الرّسالة دشّنت حملة تطهير قامت بها السّلطة ضدّ معارضيها، وأيّدها المعتزلة لتصفية خصومهم.

عيسى جابلي: هل من علاقة بين المعتزلة والفكر الشّيعيّ؟ وما العوامل الّتي مهّدت الطّريق لانتشار الفكر الاعتزاليّ عند الشّيعة، لاسيما في ظلّ الدّولة البويهيّة الّتي قامت في فارس عام 334 للهجرة؟

الدكتور محمد شقرون: الحديث عن علاقة بين فكر المعتزلة والفكر الشيعي يتطلّب تخصيصاً في نعت الشيعي، فالشيعة أصناف يجمع بينها التشيّع لآل البيت، ولكنّ آراءها مختلفة في بعض المسائل، ومنها الإمامة، وهي قسمان، إذا نظرنا إليها في الجانب السياسي من فكرها: زيديّة ورافضة. فالزيديّة يرون الإمامة منصباً دنيويّاً لا شأن للاعتقاد به، يطلبه الأفضل القادر عليه، وللفضل شروط عندهم؛ أوّلها الانتساب إلى ذريّة علي من فاطمة بفرعيها الحسنيّ والحسينيّ، في حين يرى الرّافضة فيها منصباً دينيّاً لا يستقيم الاعتقاد دونه، وواجباً على المؤمنين التسليم به، ولا يطلبه الفاضل، وإنّما يتكرّم بقبوله، ويحصرون الإمامة في الفرع الحسينيّ من العَلويّين.

فالعلاقة قائمة بين المعتزلة والفكر الزّيدي خاصّة، وقد أشارت كتب طبقات المعتزلة، وكذلك كتب الفرق الإسلاميّة، إلى ذلك، وذكر الشهرستانيّ التقاء زيد بن علي زين العابدين بواصل بن عطاء في البصرة. وسواء أكان ذلك صحيحاً أم غيره، فإنّ الفكر الاعتزاليّ والفكر الزيديّ التقيا في مقولات العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، مع بعض الاختلاف في مرتكب الكبيرة، وفي الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الأصول التي بنى عليها المعتزلة مذهبهم. والتقيا، كذلك، في مسألة حرّية الإرادة، وفي مسألة الإمامة، ومصدر السلطة فيها، وطريق الوصول إليها، وخالف الزيديّة الشيعة الإماميّة، أو الرافضة، في نفس ما خالف فيه المعتزلة تلك الفرقة، وهو إيمانها بعصمة الأئمّة، وعلمهم الموروث بالولادة، والغيبة، والرجعة، والتقيّة، وانتظار المهديّ المخلّص.

عيسى جابلي: يذهب بعض الدّارسين إلى القول إنّ المعتزلة قد انتهت بسبب اختلاطها بالتّشيّع، فانحلّت فيه، وفقدت صلابتها، بوصفها فرقة مستقلّة، منذ استعانتها بالدّولة البويهيّة (انظر: العبده، (محمّد)، وعبد الحليم (طارق)، المعتزلة بين القديم والحديث)، ما رأيكم في هذا الطّرح، وما الأسباب الّتي أسهمت في ضمور هذه المدرسة الفكريّة؟

الدكتور محمد شقرون: إنّ تراجع الفكر الاعتزالي أسهمت فيه عدّة عوامل، ولم يكن بسبب اختلاطه بالتشيّع، ولا بفرقة أخرى. والرأي الذي ذكره صاحبا كتاب (المعتزلة بين القديم والحديث) فيه خلط واضح بين مختلف فرق الشيعة، أو قل فيه ضمّ مقصود لها كلّها تحت مسمّى الرّافضة، الذي له عمل سحري في عقول من يتسمّون بأهل السنّة، ويحتكرون التسميّة احتكار التجّار والصنّاع لبعض العلامات والأصول التجاريّة. فإذا كان الاعتزال قد عرف انتعاشة تحت حكم البويهيّين، فذلك لأنّ البويهيين كانوا زيديّة، وقد ذكرنا التقارب في الرؤى بين المعتزلة والزّيديّة. وكان من الطبيعيّ أن يستعينوا في دولتهم بالمعتزلة، وأن يستعملوهم، كما كان من الطبيعيّ أن يستثمر المعتزلة قرب السلطة منهم؛ ليعودوا إلى الواجهة، ويحاولوا نشر فكرهم من جديد.

ولم يندثر الفكر الاعتزالي، ولم يذب في التشيّع، كما زعم صاحبا الكتاب، إنّما تواصل مع فقدان بعض «حرارته»، التي كانت من أسباب تراجع أمره بفقد الدّعم السياسيّ، وأهمّ ما فيها القول بخلق القرآن، وامتحان النّاس في عقائدهم. تواصل الفكر الاعتزاليّ في الفكر الأشعري، الذي أقرّ علم الكلام في الدفاع عن العقيدة، وقبل الفلسفة طريقاً إلى المعرفة، وقدّم العقل على النقل في بعض المواطن، واعتمد التأويل في المشكل من آي القرآن.

إنّ تراجع الفكر الاعتزالي في الحضارة العربيّة الإسلاميّة مردّه، في الأساس، إلى نخبويّته إن صحّ التعبير، فهو غير موجّه إلى عامّة النّاس لتحريكهم في اتّجاه أو في آخر، مثل الفكر الشيعيّ، أو السنّي، اللذين ارتبطا بدول كانت قادرة على رعايتهما واستغلالهما في تدعيم أركانها، ولا يزالان، إلى اليوم، كذلك. هو يتّجه إلى الخاصّة، أو قل إلى خاصّة الخاصّة في إثارته قضايا دقيقة تشغل بال رجال العلم المتفرّغين له، ولا تخاطب غير المختصّين. كان عملهم شبيهاً بعمل الخبراء الذين يطرحون آراءهم لرجال السياسة، وينفّذ منها رجال السياسة ما يقدّرون أنّه يخدم سلطانهم.

لذلك لم ينشط الفكر الاعتزاليّ إلا في ظلّ دولتين، وفي فترتين من حياة تينك الدّولتين، وبتشجيع من ولاة أمر كانوا من العلماء الخائضين في مسائل الدين والدولة. وانتكس، بعد ذلك، في فترات طويلة، حين تعاقب على حكم المسلمين ولاة أمر ليس لهم اهتمام كبير بالعلوم. ازدهر الفكر الاعتزاليّ في فترات حكم المأمون، والمعتصم، والواثق، وكان المأمون من المهتمّين بالعلم، ومن المشاركين فيه، وكان ماسكاً بزمام الأمور في الدولة، وله مشروع ثقافي شجّع العلماء على الدّفاع عنه. ثمّ دخل الفكر الاعتزاليّ في فترة من الرّكود، في ظلّ حكّام فقدوا السيطرة على دواليب الدّولة، وطلبوا السلامة في مجاراة الأحداث، والتأقلم معها، وتبنّوا مشروعاً ثقافيّاً مغايراً لمشروع المعتزلة.

وعاد الفكر الاعتزاليّ إلى النّشاط في فترة حكم البويهيين، وفي ظلّ حكّام كانوا مهتمّين بالعلم، مشاركين فيه، وكانوا قادة لهم مشاريع لدولهم ومجتمعاتهم. فعضد الدولة كان راعياً للعلم، حاضناً للشعراء، ومثله كان الصاحب بن عبّاد. يذكر هذا مع وجود فارق مهمّ بين حال المعتزلة مع العبّاسيين وحالهم مع البويهيّين يتمثّل في أنّ دولة البويهيّين قامت على إيديولوجيا أساسها الفكر الزيدي مهّدت لقيامها، وكانت مقبولة من النّاس أو من أغلبيّتهم. ولم تكن في حاجة إلى فرض الاعتزال، وامتحان الناس عليه، في حين كان العبّاسيون يبحثون عن إيديولوجيا وجدوها في مرحلة من مراحل حكمهم في الفكر الاعتزاليّ، في مجتمع متعدّد كان الاعتزال فيه فكر أقليّة، وحاولوا فرضها، فلم يفلحوا.

عيسى جابلي: في رأيكم، ما الّذي كانت المعتزلة ستضيفه إلى الفكر الإسلاميّ لو قُدّر لها أن تتواصل إلى الآن؟ وهو سؤال متّصل بسؤال آخر كان أحمد أمين قد طرحه في كتابه (ضحى الإسلام): «هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدّثين»؟

الدكتور محمد شقرون: دعنا من تحسّر أحمد أمين على موت الفكر الاعتزاليّ، وإن كان قد حمّل أصحابه مسؤوليّة ذلك كما حمّل الدولة، ونقول: ما كان للفكر الاعتزاليّ أن يتواصل على الشكل الذي استقرّ عليه من التجريد في مستوى العقيدة، ومن الانفتاح على الفلسفة اليونانية، في غياب الحاضن له من الدولة والمجتمع، من الرّاعي والرعيّة في تلك العصور. وقد ذكرنا شأن الرّاعي، الذي أيّد الاعتزال سياسةً منه أو اقتناعاً، وإن كنّا نقدّم السياسة على الاقتناع، لاسيما مع خليفتي المأمون، المعتصم والواثق، اللذين لم يكن لهما ثقافة المأمون وعلمه، ثمّ تراجع الرّاعي عن تأييده. لنترك الرّاعي، ونتحدّث عن الرعيّة.

إنّ التحوّلات، التي تمرّ بها الأمم، تكون نتيجة عمل فكريّ يلقى القبول والمساعدة على الانتشار، والقبول هو الأصل، ثمّ يأتي الدّعم بعده. ولم يكن الفكر الاعتزاليّ يلقى القبول الواسع من الرعيّة لخوضه في مسائل لم يكن النّاس في حاجة إليها، ولا قادرين على فهمها، وهي المسائل التي عرفت بدقيق الكلام، ولاسيما منها ما تعلّق بالتشبيه والتنزيه، وبالقدم والحدوث، والظاهر والباطن، وتقييد صلاح العقيدة بها. كلّ هذا مع وجود فكر آخر مناوئ لفكر المعتزلة، هو أقرب إلى أذهان النّاس؛ لتمسّكه بالظاهر، وإيثاره المعنى القريب والمجمل، دون تشقيق وتفصيل. هذا الفكر كان يمثّله أصحاب الحديث، فكانت معارضتهم للاعتزال فكريّة، وتهمّ العقيدة، وتأويل النص الديني، وهو ما عبّر عنه ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث)، فقال: «ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتّسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم مع ما يدّعونه لأنفسهم كما اتّسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكنّ اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنّة، وعذاب أهل النّار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبيّ إلا بوحي من الله تعالى».

نضيف إلى هذا جناية السلطة عليه، بإصرارها على فرضه، وقلّ أن ساند النّاس فكر السلطة، أو فكراً تحميه السلطة؛ لأنّ فيهم أصنافاً من الناقمين عليها ذكرهم الجاحظ بإسهاب في مقدّمة رسالة (مناقب الترك وعامّة جند الخلافة)، وهو البصير بطبائعهم وميولهم، وبشؤون السلطة، وعلاقة الناس بأصحابها. ونورد مقتطفات من قوله، على طوله، لما فيه من دقّة الملاحظة، وعمق التحليل لأسباب معارضة السلطة مهما كان مدى نجاح أصحابها، ومهما كانت وجاهة سياستهم. قال: «فإن السلطان لا يخلو من متأوّل ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زارٍ، ومن متعطل متصفح، ومن معجبٍ برأيه ذي خطلٍ في بيانه، مولع بتهجين الصواب... ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان. ومن مستبطئٍ قد أخذ أضعاف حقه، وهو لجهله بقدره، ولضيق ذراعه، وقلة شكره، يظنّ أنّ الذي بقي له أكثر، وأن حقه أوجب. ومن مستزيدٍ لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمه السالفة عليه، لكان لذلك أهلاً، وله مستحقاً. قد غره الإملاء، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنةٍ خاملٍ في الجماعة، رئيس في الفرقة، نعاق في الهرج، قد أقصاه السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذله الحكم بالحق، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفّى بغير الإرجاف...».

يمكننا القول، في النهاية، إنّ عدم نجاح الفكر الاعتزاليّ في التجذّر في التربة الإسلاميّة كانت له آثار سلبيّة على الدّولة والمجتمع. لم ينجح المسلمون في حلّ قضيّة السلطة، وبناء دولة تكون قادرة على الاستمرار بقبول المجتمع لها، وكانت دولهم دول أسر تحكمها العصبيّة، وتدعمها القبيلة، ويحكمها منطق الغلبة والغنيمة، وتقوم سياستها على الأمر والطّاعة. ولم يتمكّن المجتمع من القيام بدوره في توجيه سياسة الدولة، وفرض مشاركته فيها، وحلّ قضايا الاختلاف بين مكوّناته. ولكن هل من الممكن أن يحكم الفلاسفة، ويتفلسف الحكّام؟ وهل من الممكن أن يكون المجتمع في كلّ دولة قابلاً لذلك، وله المؤهّلات التي تسهّل قبوله؟ لقد آمن المعتزلة بالنسبيّة، والاختلاف، والإمكان، ومدار الأمر على الإمكان، حسب عبارة الجاحظ، ولكنّ الفكر، الذي غلب على المجتمع الإسلامي، كان مدار الأمر فيه على التمكّن والتمكين.

تلك هي حال الأفكار، التي لا تجد القبول في زمن ظهورها، ولا بين قومها، أو تجد القبول المشروط بالتعديل لتكون أكثر استساغة، ولكنّها لا تموت بالكلية، وتبقى كامنة تنتظر فرصة الظهور من جديد، حين تتغيّر الحال، وتتوافر لها أسباب قبول النّاس لها. فلا غرابة في أن يذكر الاعتزال في عصر بدايات النهضة العربيّة، ويتواصل ذكره إلى الآن، ويعود إليه بعض بريقه، لأسباب نبيّنها في الإجابة عن الأسئلة الآتية.

عيسى جابلي: لنتحدّث، الآن، عن الاعتزال الحديث، أو ما سمّي «المعتزلة الجدد»: ما أسباب ظهور هذه المدرسة من جديد؟ وما جدوى إحياء الفكر الاعتزاليّ؟ وهل من أهمّيّة لذلك بالنّسبة إلى واقع المسلمين المعاصر؟

الدكتور محمد شقرون: إنّ العودة إلى مقولات الفكر الاعتزالي في العصر الحديث يبرّرها سببان دعيا إليها في مناسبتين؛ كانت المناسبة الأولى عند بدايات التفكير في السبل الموصلة إلى النّهضة، والتصدّي للغزو الفكري الغربي، وكان لدى مفكّري تلك المرحلة اقتناع بضرورة الأخذ عن الغرب، في فكره ونظمه ومؤسّساته، في كلّ ما لا يتناقض مع العقيدة الإسلاميّة. وكان عليهم، لتمرير المأخوذ عن الغرب، وضمان قبوله، أن لا يكتفوا ببيان عدم تعارضه مع الإسلام عقيدةً وشريعةً بلجوئهم إلى التأويل، وإحياء فكر مقاصد الشريعة، وفتح باب الاجتهاد؛ بل أن يتجاوزوا ذلك إلى تجربة المسلمين في أخذهم عن فكر الأمم السابقة عليهم. ومن المسلمين الذين أخذوا عن الأمم الأخرى، لاسيما اليونان، وهم الذين أخذ عنهم الغرب في بدايات نهضته، نجد المعتزلة قد تقدّموا غيرهم من الفرق.

أمّا المناسبة الثانية، وهي الأقرب إلينا، فهي التي تلت فشل حركة النهضة في تحقيق التحوّل المنشود للمجتمعات الإسلاميّة لأسباب داخليّة وخارجيّة، وعودة الفكر السلفي إلى الظهور دفاعاً عن العقيدة والهويّة، فعاد الاهتمام بالفكر الاعتزالي من جديد، باعتباره الفكر الإسلامي الأقدر على التصدّي لهذا الفكر من داخل المنظومة الإسلاميّة، والأقرب إلى روح العصر، الذي سادت فيه مفاهيم الحرّية، والعقلانيّة، ومسؤوليّة الإنسان في الكون، وهي مفاهيم نادى بها المعتزلة. ولهذا السبب، نُعِتَ الذين وجدوا في الفكر الاعتزاليّ معيناً لهم في عمليّة التبرير لانفتاحهم على مقولات الفكر الغربي، أو في تصدّيهم للفكر السّلفي، بــــ: «المعتزلة الجدد». ولا نظنّ أنّ التسمية موفّقة، وهي تذكّرنا بالمحافظين الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ذلك أنّ الأسماء المتداولة للمهتمّين بالفكر الاعتزالي لا تدلّ، بالضرورة، على انتماء إلى ذلك الفكر. فكلّ من ذكر العقل ومجّده، أو الحرّية وأشاد بها، أو نقد التراث وغربله، أو كتب عن المعتزلة وعصرهم، عُدّ معتزليَّ النزعة، وفي آثاره روح الاعتزال. والاعتزال منظومة فكريّة عناصرها متكاملة تهمّ الدين، وتهمّ الدنيا، وتعمل من داخل منظومة إيمانيّة، ولا ترى فصلاً بين الدّين والدنيا، ولم تضع الحدود بينهما.

والكتاب، الذي أخرجه بالألمانية توماس هيلدبراندت (Thomas Hildebrandt)، يحمل عنوان (Neo-Mu'tazilumus?)؛ أي الاعتزال الجديد، مع وجود نقطة الاستفهام التي لها معنى معروف، إضافة إلى عنوان فرعي يوضّح المقصد من الدراسة، وهو بيان سياقات الاهتمام بالفكر الاعتزاليّ، ومقاصد المهتمّين به. والمذكورون في الكتاب ليسوا كلّهم من الدّاعين إلى إحياء الفكر الاعتزاليّ؛ بل ليس فيهم من يدعو إلى ذلك؛ لأنّهم معنيّون بالبحث عن سند من تراثهم لما قبلوا من أفكار الحداثة الأوربيّة، وفيهم من المعارضين لهذا الفكر أشدّ المعارضة. ولا نرى مماثلة أو قرباً بين أحمد أمين وهشام جعيّط، وسيّد قطب وطه حسين، وأبي الأعلى المودودي وحسين مروة، وغيرهم من الذين ذكروا في كتاب هيلدبراندت.

ويبقى التساؤل قائماً عن الجدوى من إحياء الفكر الاعتزالي. أليست هذه سلفيّة لا تقلّ خطراً عن السلفية الأخرى؟ سلفيّة من يريدون، اليوم، إحياء فكر المحدّثين في القرن الثالث الهجريّ. إنّ الدعوتين تلتقيان في فتح باب ليس في صالح المسلمين فتحه، ونحن نشاهد، اليوم، الآثار المدمّرة المنجرّة عن محاولات فتحه عند الشعوب المسلمة، التي كانت مهيّأة لذلك، وسلمت منها الشعوب، التي أدركت خطر تلك المحاولة، أو لم تكن تركيبتها الاجتماعيّة والمذهبيّة متنوّعة، أو ورثت عن الاستعمار نظاماً سياسيّاً يقيها السقوط في النزاعات الدينيّة، وثقافة دينيّة قائمة على التسامح، مع وجود التعدّد الديني. نحن نلاحظ، اليوم، خسائر كبرى في بعض الدول العربيّة، ونتوقّع خسائر أكبر في دول أخرى، نتيجة نزاعات سياسيّة تغذّيها العصبيات المذهبيّة، والانتماء العقدي. وما يحدث، اليوم، في العراق، وسورية، واليمن، وما هو مرشّح للحدوث في البحرين، والسعوديّة، ومناطق أخرى في العالمين العربي والإسلامي في آسيا وأفريقيا، كلّ هذا يدعو أصحاب العقول إلى التفكير الجدّي في حلول تقي المسلمين شرّ الوقوع في صراعات وقع فيها أسلافهم، وعادت عليهم بالوبال. ثمّ إنّ الدعوتين تلتقيان في الوقوف في وجه فكرة التقدّم، التي قامت عليها كلّ الحضارات الإنسانيّة وإنجازاتها.

وإذا نحن أدركنا أنّ قاطرة التقدّم البشري أسهمت في صنعها وتطويرها أمم وشعوب مختلفة، وأشرف على الصنع والتطوير مفكّرون وعاملون من أجناس مختلفة، ومعتقدات متعدّدة، ومن بينهم المعتزلة وغير المعتزلة من المسلمين، وأنّ كلّ هؤلاء خلّدت أسماؤهم، وبقوا في ذاكرة الإنسانية، في الكتب، وفي المتاحف، التي هي خزائن الذاكرة الإنسانيّة، وليست المتاحف مقابر، وإنّما دلائل واعتبار. وإذا علمنا أنّه لم يدع عاقل يؤمن بفكرة التقدّم مثل ما آمن بها أولئك المفكّرون، إلى إحياء ما قد سلف، والعودة إلى الماضي، تبيّن لنا أنّ الدّعوة إلى إحياء فكر المعتزلة أو غيرهم لا جدوى من ورائها، لأنّ الصّالح من ذلك الفكر قد تخطّى الزمن والمحن، وتضمّنه الفكر الإنسانيّ اليوم، الذي هو خلاصة ما وصلت إليه البشريّة في جهادها نحو الأفضل. فمفاهيم حريّة الإرادة الإنسانيّة، وسيادة العقل، وقبول الاختلاف الديني، والعرقي، والخلقي، وفكرة مدنيّة الدّولة، والضرر الذي يحصل من ارتباطها بالدين واستغلاله لفرض سلطانها على الناس، وكذلك فكرة التقدّم، كلّ هذه المفاهيم والأفكار التي جاء بها المعتزلة، قبلتها الإنسانيّة إلا من أعرض عن ذلك وهو مليم.

رحم الله الجاحظ، وهو القائل: «وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا، كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنّنا قد وجدنا من العبرة أكثر ممّا وجدوا، كما أنّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا»، والقائل أيضاً: «إذا سمعت الرّجل يقول لصاحبه: ما ترك الأوّل للآخر شيئاً، فاعلم أنّه لا يفلح».

فإذا كان لنا أن نأخذ من الفكر الاعتزالي، فهو هذه الأقوال التي سوف توصلنا إلى نتائج تتجاوز ما وصل إليه الفكر الاعتزالي، وتقينا شرّ المنزلقات التي وقع فيها. علينا أن نخوض في شأن مقولات الحداثة وما بعد الحداثة مع الخائضين، فنحن في عصر العولمة، وعلينا المساهمة فيها، وتعديل مسارها، إن قدرنا على ذلك، ولا أرانا قادرين عليه، ما دامت نسبة الأمّية فينا مرتفعة، ومثلها نسبة الفقر، ومازال الماضي يجذبنا إليه، ويأخذ من جهدنا الشيء الكثير، وما دام فينا آلاف المتخصصين في دراسة ماضينا، وليس لنا العشرات من المهتمّين بدراسة مستقبلنا.

[1] نشر ضمن مشروع "الفكر النقدي في الإسلام المعتزلة أنموذجاً (2) قضايا كلامية وسياسية في الفكر الاعتزالي"، إشراف الدكتور حمادي الذويب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.