اسم الفيلسوف عند العرب بين «أعلى العليّين» و«أسفل السَّافلين»


فئة :  مقالات

اسم الفيلسوف عند العرب بين «أعلى العليّين» و«أسفل السَّافلين»

أوديسَّا الفلسفة في تاريخ البشر محفوفة بالمزالق والمهالك؛ فهي «أوليس» (Ulysse) المغامرة في العراك ضد الحمق والجهل والطغيان. صورة الفيلسوف هي «خارج الداخل» (l’outsider du dedans) على حد تعبير بول ريكور، ونماذج سقراط وبوئثيوس والسهروردي المقتول وجيوردانو برونو توفّر لنا كلها صورة «خوارج الداخل» المحكوم عليهم بالنبذ والإقصاء وفي الحالات القصوى بالحتف والإعدام. لا أناقش هنا حُكم الفلسفة بين التهجّي والتجنّي، وإنما ألتفت إلى اسم الفيلسوف الذي يتأرجح في الذهنية العربية الإسلامية اليوم بين الرفع من الشأن في سماء المثال الخالص إلى غاية نزع زمانيته وإخراجه من التاريخ، وبين الهبوط به إلى قاع الخطر على النظام والعقيدة وردم القاع بما هو موطن نفيه ودفنه. بين الملاك والشيطان، تاه اسم الفيلسوف وضاعت معه واقعية المهام والوظائف التي هو أهل لها وجدير بها.

1. الازدواجية المستحيلة والأدوار الملتبسة

سؤال بسيط ألج به في عُمق ما يُؤرق حالنا في هذا المقام: هل علي حرب وفتحي المسكيني وحسن حنفي «فلاسفة»؟ نستشعر على التَّو الصعود التدريجي لضغط الدم واحتدام الغضب، نوع من التشنُّج والغثيان إزاء نعت هؤلاء العرب «فلاسفة». في مقال عنوانه «فلاسفة عالمنا العربي» (موقع «هوامش»، 11 مارس 2018)، أرجعت الدكتورة فاطمة الحصي التقزُّز من الاسم «فيلسوف» إلى عوامل نفسية تصبُّ في احتقار الذات وعُقدة النقص والدونية. إذا كان المسوّغ النفساني وارد بكل ما أوتي من قوَّة البرهان، فإن المسوّغ الأنطولوجي الذي سأطرحه يصبُّ في ما أسمّيه «الازدواجية المستحيلة» هي طرفي النقيض الذي تجد الذهنية العربية الإسلامية نفسها مسجونة فيه: صورة الفيلسوف في المخيّلة العربية الإسلامية في «أعلى العليّين»، نوع من النبوَّة التي تقتضي المعجزة للبرهنة على صدق دعواها. بهذا التصوُّر المنعقد في المخيّلة، يتلبَّس الفيلسوف دوراً ليس دوره، لأنه لم يأتِ بدعوة ولم يدَّعِ نبوَّة وليس له أن يأتي بمعجزة.

على النقيض من ذلك، وفي المخيّلة نفسها، الفيلسوف موضوع في «أسفل السَّافلين» بموجب تُهمة تحشره في صُنَّاع الشبهة وتهديد النظام والإضرار بالعقيدة، «الوَسْوَاسْ الخَنَّاس» الذي يُفسد العقول ويُحيّر النفوس ويزرع الشك والالتباس، «الشَّيْطَان الرَّجِيم» الذي يغرس الشقاق والانشقاق، «السُّفْسْطائي» واضع اللحن وزخرف القول. بهذه الازدواجية المستحيلة والعادمة، ينقطع الفيلسوف عن ينابيع الواقعية التي يضطلع بها اسمه ومهامه، كونه صاحب محنة ومهنة، وسيّدُ موهبة وكفاءة. تضع الذهنية العربية الإسلامية المتطبّعة على الإعجاز والتعجيز، لذا لم تبرح مكان «العجز» التي هي سجينةٌ فيه، تضع الفيلسوف في هذه الوضعية المزدوجة، الصعبة والقاسية، في الانفلات من الزمن والسقوط في المحظور: عندما تضع الفيلسوف في العُلى وتشترط منه المعجزة (الفكرية)، فهي تُحطّم البُنى الواقعية التي تأسَّست عليها مهمَّته، كونه ليس بنبيّ يُفحم بالمعجزة، فتخرجه بالتالي من دائرة التاريخ. أين الفيلسوف؟ لا ندري. من هو الفيلسوف؟ ليس حتماً من «يَأكُلُ الطعَامَ وَيَمْشِي في الأسْوَاق». وعندما تضعه في السَّفل، فهي تقطعه كذلك عن واقعيته المشهودة، كونه ليس بشيطانٍ موضع شُبهة وتُهمة وحِسْبة.

بهذا التصوُّر المزدوج، تقتل الذهنية العربية الإسلامية اسم الفيلسوف مرَّتين: عندما تُخرجه من التاريخ بالشرط التعجيزي في استحقاق الاسم، وعندما ترمي به في قمامة التاريخ بوصفه المارق والمارد. في كلتا الحالتين، تُنشئ علاقة غير سليمة بالمهمَّة التي يتعاطاها، إمَّا لأنها تنتظر المعجزات لتخرج من العجز؛ وإمَّا لأنها تجعل منه كبش الفداء لتُضحّي به على أتُّون انكسارها الحضاري. لا بدَّ لها، إمَّا بمخلّص أو منقذ تتعلَّق به، وإما بعدوّ تُحمّله البلايا حقداً وتشفّياً. كيف يمكن بناء صورة الفيلسوف والاستحقاق الاسمي في المجال التداولي العربي الإسلامي بعيداً عن هذا الصخب وهذا الرُهاب؟ يُقدّم لنا فتغنشتاين حلاًّ يكمن في نقل الخطاب الفلسفي من «الاستعمال الميتافيزيقي إلى الاستعمال اليومي». صورة الفيلسوف في «أعلى العليّين» و«أسفل السَّافلين» هي صورة ميتافيزيقية، مقطوعة عن التربة الواقعية والمنبت اليومي. حان الوقت لإرجاعها إلى ينابيعها الأصلية وسيرتها الأولى: الفيلسوف الحاذق الماهر.

الازدواجية المستحيلة هي نتيجة فقدان الرسم الحقيقي للاسم «فيلسوف». لماذا لا تتحرَّج أو تشمئز الذهنية العربية الإسلامية من أسماء المهام «سوسيولوجي»، «أديب»، «فنَّان»، «موسيقار»، «عالم نفس»، «روائي»؟ لأن هذه المهام معلومة ولها واقعيتها وموقعها. أما «الفيلسوف»، فهو يتخبَّط في لاواقعية الإعلاء من شأنه إلى درجة استحالة الوصول إلى اسمه، ولاواقعية الزجُّ به في غياهب المروق والعصيان. لم يجد الاسم «فيلسوف» واقعية تُعبّر عن المهام التي يُؤدّيها. هذا في السياق العربي الإسلامي، لأن في السياق الغربي، وفي وسائل الإعلام مثلاً، عندما تكون هنالك قضية تتطلَّب استشارة المشتغلين على الفلسفة، فإن أسماء العَلَم يُكتب تحتها «فيلسوف»، وإن كان الشخص المعني أستاذاً في الفلسفة في مؤسسة تربوية أو بحثية؛ لأن الاستشارة المقصودة هي من الدقَّة والحصرية ما تتطلَّب رأياً في مجالها، مثلما يُستشار الأديب أو السوسيولوجي أو عالم النفس في ميادينهم الخاصة. كذلك، في العالم الأنجلوسكسوني، انتشرت مهنة «الفيلسوف-الممارس» (philosophe-praticien) الذي له مكتبه وزبائنه، مثله مثل المحلل النفسي أو الطبيب النفساني لمعالجة قضايا وجودية وفق مناهج متعدّدة، أشهرها منهج فيكتور فرنكل (Viktor Frankl) «العلاج بالكلام» (Logotherapy).

2. الفيلسوف: ما هو؟ من هو؟

أين مربض العليل في الذهنية العربية الإسلامية وأين مربط التعويل؟ إذا كان الفيلسوف مُقصى مرَّتين: المرَّة الأولى تحت وازع الاستحالة بألا يرتقي أيُّ كاتب أو مفكّر عربي إلى الاسم «فيلسوف» والمرَّة الثانية تحت رادع الضمير الجمعي الذي يُصوّب تُجاهه سهام الاتّهام، سهام التكفير والمروق؛ أقول إذا كان الفيلسوف بين فكَّي الكمَّاشة، تُقلعه من التربة الواقعية وتطرده من التاريخ، فإن السبيل الوحيد لاسترجاع الاسم هو تبيان طبيعة المهمَّة التي يتعاطاها وتصحيح الأحكام الخاطئة حول الفلسفة ذاتها. هل الفلسفة «نسق أو منظومة» كي يستحق العربي اسم الفيلسوف؛ بمعنى أن يكون له بيتٌ معرفي منسجم الأركان وجميل الأثاث؟ لا، لأن ثمَّة أفراداً هم فلاسفة وكانوا أساساً ضدَّ فكرة النسق ولم يكتبوا سوى شذرات وفقرات. هل الفلسفة رديف الكثافة والتعقيد؟ لا، لأن كل ما هو كثيف أسلوبياً ومعقَّد نظرياً ليس بالضرورة فلسفة، إذا عرفنا أن فلاسفة جعلوا من البيان والاستجلاء جوهر البنيان الفلسفي المشيَّد. ما الفلسفة إذن؟

إذا استحضرنا نماذج معروفة ألخِّصها في عبارات مقتضبة: «دولوز وخلق المفهوم»، «فتغنشتاين واللعب اللغوي»، «رورتي والمعجم الفلسفي»، فإننا نُدرك أن قيمة الفلسفة تتراءى في وظائف أكثر منها في مقامات أو فخامات أو هالات. إنها مهنة أو وظيفة لها من يمتهنها، أو كما قال القدماء من التراث العربي الإسلامي هي «صناعة»، لها صانع ولها الحذق أو المهارة في الصناعة. ككل صناعة أو مهنة، تشترط الفلسفة المهارة والخبرة. التعاريف المعاصرة للفلسفة، بدءًا من فتغنشتاين وحتى جيل دولوز، تنحو كلها صوب التوكيد على الطابع «العملي» للفلسفة، كونها في الوقت نفسه «ممارسة نظرية» (praxis) و«صناعة لغوية ومفهومية» (poiesis). عندما يُحدّد فتغنشتاين الفلسفة، فهو يُخرجها من التربة اليومية كونها نشاطاً أو ممارسة متجذّرة في شكل الحياة الذي تنبري منه. الفلسفة «عُلبة ولُعبة» بالقلب اللغوي المحبَّب لديَّ، عُلبة الأدوات المفهومية بينها شبهاً عائلياً، مثل المطرقة والمنشار والمسامير والغراء، حيث تتشاكل في الوظائف وإن اختلفت في المهام. فلا نقطع اللوحة بالمطرقة ولا نُثبّت المسمار بالمنشار. كل حدٍّ هو لعبة لغوية له وظيفة يؤدّيها، وتكمن دلالته وقيمته في استعماله في سياق أدائه؛ لكن لا يمكن أداء هذه الوظائف (المطرقة للتثبيت، المنشار للقطع) ما لم يكن هنالك تشاكل في العمل، تخرج منه تُحفة متقنة هي الخزانة أو المقعد.

تؤدّي عُلبة الأدوات الفلسفية أدواراً مماثلة عندما تكون دلالة الكلمات الموظَّفة هي طريقة استعمالها في سياق الخطاب؛ أي في سياق الإشارة إلى حدث أو التعبير عن حالة. تحتوي هذه العُلبة على اللُعب اللغوية التي هي مجموع المفاهيم المراد استعمالها في سياق الحديث عن موضوع أو الإشارة إلى مشكلة فلسفية بغرض تحليلها وإيضاحها بنفض الغموض والالتباس عنها. كذلك، يُرجع ريتشارد رورتي مهمَّة الفلسفة في بلورة معجم يجمع بين صرامة المفهوم ومُتعة المجاز والتهكُّم. يلعب الفيلسوف الأدوار في هذه الحلبة التي تحتمل الجدّية والمرح، ككرة القدم تماماً، التي هي «استراتيجيات» صارمة في التحكيم واحترام قواعد اللعبة، و«تكتيكات» حُرَّة في الأداء الفني وإصابة الهدف. المسألة هي الموهبة في التعاطي مع المصادفات والمهارة في الأداء. هل من نُسمّيه «موسيقار» ننتظر منه أن يكون «بيتهوفن» جديد مثلما لا نمنح الاسم «فيلسوف» سوى بطلوع «أفلاطون» جديد؟

أحد الأحكام الخاطئة والأوهام الراسخة هي الأصالة المطلقة. حتى عندما يُعرّف جيل دولوز الفلسفة على أنها «إبداع المفاهيم»، فإن الإبداع «لم يكن» و«لن يكون أبداً» الخلق من عدم. لم يبتكر دولوز فلسفته سوى، لأنه أعاد قراءة النصوص الفلسفية الكبرى بجودة وإتقان. يعرف رُواد ما بعد الحداثة في الفن المعاصر مثلاً، أن الإبداع هو دائماً من عناصر موجودة سلفاً يتمُّ جمعها والتنسيق بينها في عرضٍ جديد تنمُّ عن عبقرية الفنَّان في الربط والتصفيف. كذلك، الاسم «موسيقار» ليس أن يكون «بيتهوفن» جديد، لكن أن يُحسن المهارة (virtuosité) حتى وهو يؤدّي معزوفات كبار الموسيقيين سبقوه في الزمن. لا تكمن مهارته في حُسن أداء النوتات فحسب، وإنما أيضاً في قوَّة الروح بأن يتأثَّر ويُؤثّر في الجمهور، وهذا أمر يعرفه المايسترو الذي يقود الجوقة. يريد المايسترو سلامة العزف وقوة العاطفة، مثلما نعت رورتي الفلسفة بصرامة المفهوم ومتعة التهكُّم. الفلسفة «موسيقى» من نوع خاص، تنتظر المايسترو الذي يؤدّيها بإسهام وإلهام، يجد النوتة الملائمة بين مقتضيات المفهوم ومرح الروح.

3. الفيلسوف العربي: من «استحالة» ما يمتنع إلى «استحالة» ما يتحوَّل

الجمع بين «استراتيجية» العمل المفهومي الصبور والسؤول و«تكتيكية» التفلسف الحر والمرح والتهكُّمي هو الصورة المكتملة التي يتحلَّى بها الفيلسوف. فلا يُرجى منه منظومة ثقيلة من الأفكار أو منظَّمة سريَّة من الانتماء الباطني الملغز والغامض أو الحذلقة المتباهية بالموسوعية والتبحُّر المعرفي. كل فيلسوف هو «نابتة» عصره، «مشتل» الأفكار التي تينع في رأسه وتنبري من حسِّه. إذا أتينا إلى بعض النماذج العربية، نجد أنها تستوفي هذه الشروط التي نوَّه بها فلاسفة العصر أمثال دولوز وفتغنشتاين ورورتي. بعض النماذج العربية، دون ذكرها في مجملها، لها معجم تقرأ به الراهن، لا تنقطع عن تطعيمه وتوسيعه ومراجعته بما يُوطّدُ حدَّة استبصاره واستشكال قضاياه؛ تتعامل مع المعجم بوصفه عُلبة الأدوات الفلسفية في أداء لُعبة المهارات القرائية والتأويلية؛ أي أن معجمها هو في ذاته عُنصر الإبداع الذي لا يزعم الخلق من عدم، وإنما البراعة في الجمع بين المبعثر في حُلَّة جديدة، مرصوصة البنيان وجميلة البيان.

يعرف فتغنشتاين مثلاً أن البُعد التداولي في الفلسفة ذو أهمّية بالغة في الانتقال من «الميتافيزيقي إلى اليومي»، لأن الأمور يُعتدُّ بها في طريقة استعمالها، وإن دلالتها هي أساساً استعمالها في السياق: «لا تسأل عن المعنى، اسأل عن الاستعمال!»، يقول بنبرة حادَّة وهمَّة جادَّة. وما معنى الاستعمال إذا لم يكن في جوهره هو التصرُّف بعناصر سابقة بإعادة تنظيمها واستجلاء معانيها؟ ألم تقم بعض النماذج العربية بإعادة قراءة التراث بمقتضى التحيين والتبيئة؛ أي استعماله في السياق؟ ألم تقُم بإعطائه نَفَساً جديداً تنبري منه دلالة جديدة ويشعُّ فهماً آخَرَ لأشكاله ومضامينه؟ اللعبة اللغوية والمفهومية جليَّة في العديد من المشاريع العربية، مما يجعلها في مصاف العطاء الفلسفي، البعض منها «نبتة» لم تنمو بعدُ، البعض الآخر «شجرة» في طور العناية والتقليم، والبعض الآخر «زرع» لم يحن فيه وقت «الحصاد». إذا كان الفيلسوف يتأرجح بين عمل المفهوم ونقاء الروح، فلأن الفلسفة كما تصوَّرها القدماء كانت دائماً من قبيل «الرياضة الروحية» (exercice spirituel) كما يذهب بيير هادو وجون غرايش.

الفلسفة هي نوع من الزُّهد، ترى العالم بعيون القلَّة في العُدَّة والمهارة في الأداء والإصابة؛ والفيلسوف، عندما يتأمَّل «انعكاسياً» (réflexivité) في مهمَّته؛ أي بالنظر في أدواتها وأشكالها وأهدافها، فهو يُفكّر في مقام الفلسفة بوصفها أخلاقاً حرَّة أو تكتيكية (éthique) دون الأخلاق الاستراتيجية، القسرية والقاعدية (morale)؛ لأن الشكل الوحيد الذي يُنقذ الفلسفة هو أن تكون أخلاق الأداء بلا أخلاق الإكراه؛ أي الفلسفة زُهداً وممارسة عملية، دون «سيف ديمقليس» (épée de Damoclès) فوق الأعناق. كان فتغنشتاين ولفيناس من رُواد هذه الأخلاق بلا الأخلاق؛ أي أخلاق السَّمت والطبع الأصلي (ethos = éthique) في مواجهة صخب ورهبانية وأحياناً «إرهابية» الأخلاق الصارمة القاصمة. يتَّضح في بعض المشاريع العربية هذا النزوع نحو تفادي المطابقة بين الدين والأخلاق إلى حد الإطباق، لأن الفلسفة هي أخلاق السَّمت والسَّريرة والحياة الخيّرة والزاهدة، وليست أخلاق الأمر والنهي، لما في ذلك تشويه للطبع الإنساني وتشويش على مقامه واكتماله.

إذا لم تكن الفلسفة هي أخلاق العُنوة، فهي أيضاً ليست أخلاق الدعوة. أقصد بذلك أن الفيلسوف ليس ساذجاً ليتحمَّل أعباء البشر ويحمل صليب الأسى والتأوُّه على ظهر الضمير. عاب ماركس على الفلاسفة تفسير العالم حسب طرائق مختلفة وحان الوقت لتغييره تبعاً للأطروحة الحادية عشرة من أطروحات فيورباخ؛ غير أن التغيير «ميكروفزيائياً» يكون أو لا يكون؛ لأنه مهمَّة الجميع ومسؤولية الكل. ليس الفيلسوف ساذجاً أو متهوّراً أو مدَّعياً أو داعيةً أو شيخاً كي يستأثر بهذا التغيير دون سواه. عرف علي حرب مثلاً كيف يُنزل الأمور منازلها ويضعها في مقامها، عندما عاب على النخبة المهمَّة الرسولية. المهمَّة الرسولية هي العائق الأكبر في إرساء اسم «الفيلسوف» في الساحة العربية الإسلامية؛ بل إن إقصاء هذا الاسم هو في صالح الوضع القائم، بجعل الفيلسوف خارج التاريخ أو في حضيض المقبور، يخدُم مصالح فئات وطبقات، لأن النقد الذي يتسلَّح به ومقاومة الغباء والعنف المؤسَّسي يذهب عكس الجُبن والكسل والتجهيل والتضليل؛ أي كل العاهات التي عيَّرها إيمانويل كانط في رسالة «ما هي الأنوار؟» (1784)، والتي تحول دون مباشرة عمل التنوير والتثوير في المجتمع.

هل يتورَّع الكاتب العربي عن الاسم «فيلسوف» خوفاً من التوبيخ والتجريح باتهامه بالغرور والكبرياء؟ في هاته الحالة: هل أسماء «عالم الاجتماع»، «عالم النفس»، «أديب»، «موسيقار»، تنبعث منها رائحة الغرور والكبرياء؟ أليس هي أسماء وظائف ومهام؟ لِمَ تُقصى الفلسفة أو يُقصي الفيلسوف نفسه من «اسمُ فعلٍ» إلى «اسمُ هالةٍ»؟ يتحمَّل الكاتب العربي، بل والذهنية العربية الإسلامية في عمومها، مسؤولية الزجّ بالاسم «فيلسوف» في مشيخة يلتفُّ حولها المريدون (الصورة النبوية والإعجازية حاضرة من وراء حجاب). يأتي استحقاق الاسم بإرجاعه من جدل الشيخ والمريد إلى مقتضى التجربة والمهمَّة، من سحر الصورة النخبوية إلى واقعية المهارة العملية. بدون هذا الإرجاع من «ميتافيزيقا اللقب النخبوي» إلى «واقعية الاسم المهني»، يبقى الكاتب العربي في زيف التواضع، أو التواضع المزيَّف، مثلما هناك التديُّن المزيَّف والديمقراطية المزيَّفة، والعديد من تجليَّات الشرط الوجودي والإنساني العربي «الزائف أو المزيَّف»؛ لأن المهام والأحكام العملية لا تُقاس أخلاقياً بمعيار الخير والشر أو الحسن والقبح، وإنما تُقاس عملياً بمحك الجودة أو عدم الجودة، بمقياس المهارة من عدمها.

عندما يعي الكاتب العربي بالاسم المنوط به (de quoi est-il le nom ?)، فهو يُدرك المجال الذي يشتغل فيه والحقل الذي يُؤشّره ويرسمه ويضع له الحدود والسياجات، ليتميَّز عن الحقول المعرفية الأخرى دون أن ينقطع عنها، لأن له معجماً وعُلبةً من الأدوات المفهومية ولُعبة من الممارسات الأدائية. عندما يعي الكاتب العربي بالاسم المنوط به، يكون على نباهةٍ بالكفاءة التي يتحمَّلها في مجابهة الوقائع ورسمها بالسؤال. عندما يعي بالاسم المنوط به، يُدرك بأنه داخل المجتمع بما يراه نظرياً ويمارسه عملياً، يجد فيه مكانه ومنزلته، وليس فوق المجتمع في «أعلى العليّين» أو تحت المجتمع في «أسفل السَّافلين». رَسَم أعداء الفيلسوف ملامح وجهه في مرآة النرجسيَّة وأوهموه بأنه نبي أو شيخ، له أتباع ومريدون؛ لم ينتبه إلى هذا الفخ الذي أبعده عن المهمَّة الواقعية واليومية في النظر والقراءة والتأويل، زيَّنوا له مهنته بأن قام بالتسامي بها (sublimation) نحو الرسالة النخبوية أو النبوَّة والمشيخة، بينما هي رؤية ما لا يُرى في حقل الرؤية الاجتماعية والسياسية والحضارية.

يقول إرنست كاسيرر: «الطبيعة البشرية هي نص صعب يتوجَّب على الفلسفة فك دلالته. لكن نص تجربتنا الشخصية مكتوب بحروف صغيرة جدًّا يتعذَّر قراءتـها. ينبغي أن يكون النشاط الأول للفلسفة هو تكبير هذه الحروف» (محاولة حول الإنسان، 1975، ص103). الفلسفة عدسة مُكبّرة لحروف التجربة الإنسانية التي يصعب قراءتها ويتعذَّر تأويلها. الفيلسوف على غرار العالم في المخبر، بيده مجهر قراءة الواقع المعقَّد أو عدسة تكبير ما يخفى عن الرؤية الاجتماعية والسياسية والحضارية للعالم. بهذا النشاط التجريبي واليومي، في مخبر الأفكار وأتُّون التجارب والمحن، يُحسن الفيلسوف استيفاء اسمه، بأنه اسمُ مهمَّةٍ وليس لقبُ تبجُّح. إننا في انتظار الفيلسوف الفاحص الذي يُري بمُقلة العين النبيهة وعدسة التفكير المكبّرة ما لا نراه بعيوننا المجرَّدة، ويُكمّل هذه الدقَّة بأن يكون مايسترو الجوقة المفهومية بالتنسيق بينها، ينسجم بها النَّغم وتعذُب التجربة، فيجمع في ذلك بين أخلاق الأداء (éthique) وجمال السمة (esthétique).