التواصل والأخلاق في فلسفة يورغن هابرماس


فئة :  مقالات

التواصل والأخلاق في فلسفة يورغن هابرماس

التواصل والأخلاق في فلسفة يورغن هابرماس([1])

تقديم:

يعدُّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أحد الوجوه البارزة في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية، كما أنه يعدُّ ممثلاً للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية، على الرغم من اختلافه مع ممثلي هذه المدرسة؛ فهو يُعرف بسهامه النقدية الموجهة إلى الفلاسفة الذين يناهضون مشروع الحداثة والعقل الأنواري، ومن أبرز هؤلاء نذكر هيدغر الذي كتب مقالاً عنه تحت عنوان: «التفكير مع هيدغر ضد هيدغر»[2]. كما يمكن القول إن الهاجس الذي ظلّ مسكوناً به هابرماس يتلخص في سؤال: كيف يكون الاندماج الاجتماعي ممكناً؟ وهو سؤال يكشف طموح الفيلسوف لمحاولة بناء نظرية في المجتمع.

إن الاندماج الاجتماعي، الذي يسعى هابرماس إلى تحقيقه داخل المجتمع، ينطلق من حديثه عن مفهوم التواصل

إن الاندماج الاجتماعي، الذي يسعى هابرماس إلى تحقيقه داخل المجتمع، ينطلق من حديثه عن مفهوم التواصل، وعلى هذا الأساس يقوم بمراجعة العديد من النظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية واللغوية لتعزيز نظريته التواصلية؛ فهو، في الأخير، يسعى إلى بناء مجتمع حداثي وعقلاني قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة[3].

لقد كانت فلسفة اللغة أحد أهم المنطلقات الأساسية في تكوين نظرية الفعل التواصلي عند يورغن هابرماس؛ حيث اهتم بأعمال اللسانيين وفلاسفة اللغة، أمثال جون أوستين وجون سيرل، في نظرية أفعال الكلام، كما أنه انطلق من مفهوم جديد للعقلانية حيث انتهت الحداثة الأوروبية إلى ما يصطلح عليه بالعقل الأداتي، ومن هنا جاءت دعوة هابرماس إلى تفعيل دور الفلسفة، والتأكيد على العقل، باعتباره المنطلق الأساسي لأي نظرية في المجتمع؛ لذلك نادى بضرورة مواصلة المجتمعات الحديثة تطورها باستكمال هذا المفهوم الأداتي عن طريق إدخال البعد التواصلي في مفهوم العقلانية، الأمر الذي ساهم في تحقق التفاعل بين الناس، من خلال التواصل اللغوي الهادف إلى التفاهم المتبادل وفق قواعد أخلاقية تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها.

إن هذه العلاقة التواصلية، التي يحاول هابرماس أن يقدم من خلالها تفسيراً لبنية المجتمع المعاصر، تتحدد على ثلاثة أبعاد ينطوي عليها مفهوم العقلانية التواصلية؛ «أولها: علاقة الذات العارفة بعالم الأحداث والوقائع، ثانيها: علاقتها بعالم اجتماعي يتميز بالفاعلية وبالانخراط الشخصي في التفاعل مع الآخرين، وأخيراً علاقة شخص يعاني، أو شخص عاطفي -بتعبير فويرباخ-، بطبيعته الباطنة أو بذاتيته وذاتية الآخرين»[4]. من هنا ينطلق موضوع بحثنا، من محاولة رصد علاقة النظرية التواصلية بشروط المجتمع الممكن الذي يرمي إليه هابرماس ضمن إطار محدد بأخلاقيات المناقشة.

أولاً: النظرية التواصلية عند هابرماس:

تعدُّ النظرية التواصلية عند هابرماس السبيل الأساس لمناقشة مختلف القضايا التي تتعلق بمبحث الأخلاق لديه، انطلاقاً من تمييزه بين العقل الأداتي، الذي شهد هجوماً لمركزيته في الفكر الغربي تحت ظلّ الرأسمالية الحديثة، وكما يقول حسن مصدق: «العقل الأداتي الذي استفرد بحياتنا الاجتماعية ذو طبيعة سلطوية لا ينظر إلى الأشياء والأفراد إلا من خلال الضبط والتحكم والتقنين»[5]، وبين العقل التواصلي، الذي من خلاله استطاع غربلة مفهوم العقل الأداتي. ومن ثمّ تعدُّ اللغة، بوصفها وسيلة التفاهم والحوار، قاعدة رئيسة للتواصل في فلسفة هابرماس، ومحوراً أساسياً في مسيرته الفكرية والعقل التواصلي، وذلك لما تحتلّه من أهمية بين أفراد المجتمع في ظلّ العالم المعاش[6].

يرجع اهتمام يورغن هابرماس بنظرية التواصل (أو العقل التواصلي كما يُطلق عليها)، وتقديمها على ما أسماه العقل الأداتي، إلى الاهتمام الشديد الذي أبداه الفلاسفة المعاصرون بفلسفة اللغة؛ حيث قادته الأبحاث من خلالها إلى ما يمكن أن يُسمّى المنعطف اللساني. ولكي نفهم نظريته التواصلية، يتوجّب علينا، أوّلاً، أن نقف عند التمييز الذي وضعه هابرماس؛ حيث يقف عند الطبيعة الاختزالية للعقل الأداتي، ثم عند تكوين العقل التواصلي، لبيان شروط تحقيق التجربة التواصلية؛ ومن ثمّ سنقف عند تلك الصيرورة التي انبنت على عوامل ساهمت على الانتقال من العقل الأداتي إلى العقل التواصلي[7].

- العقل الأداتي وطبيعته الاختزالية:

يحمل مضمون العقل الأداتي معنيين؛ الأول يتعلق بكونه أسلوباً لرؤية العالم، والثاني يمثل أسلوباً لرؤية المعرفة النظرية، ومنه نجد أن هابرماس يذهب إلى أن العقل الأداتي يعبّر عن العقلانية الأداتية التي أدّت دورها في المجتمع الرأسمالي الغربي. كما جاء هابرماس على تأكيد إيديولوجية العقل الأداتي لاتفاقه مع العقل التقني الذي يساهم في السيطرة على الطبيعة والإنسان بحدّ ذاته. من هنا عمل الفيلسوف على محاولة قلب العملية بإرجاع كفة سلطة التصرف إلى إجماع المواطنين. هكذا بات للعقل الأداتي وظيفة غائية، يهتدي بقواعد التقنية التي تقوم على المعرفة التجريبية، ومن ثمّ هو عقل له أهداف محددة يحقّقها في ظلّ شروط معيّنة وواضحة.

وبعد أن حاول هابرماس تأكيد «أن مفهوم العقل الأداتي يعتبر أكبر دليل على ظاهرة التمركز حول العقل العلمي-التقني، ويبيّن كيف أن حركة التطور العلمي في عصر الأنوار أدت إلى ظهور هذا العقل، ويوضح الأسس التي أدت لظهور العقل الأداتي "ومنها الآليات التي وضعها وأرساها النظام الحديث، أو بالأحرى المجتمع الحديث"»[8]، عمل على إبراز سمات هذا العقل والطريقة الاختزالية التي يمارسها على الطبيعة والإنسان. وبناءً عليه نجد أبو النور حمدي يقول: «فالعقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل، ولا يهتم بالخصوصية، ويحاول هذا العقل الأداتي تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، وينظر إلى الإنسان باعتباره يشبه الأجزاء الطبيعية المادية؛ فالإنسان بالنسبة للعقل الأداتي شيء ثابت وكمي»[9].

من هنا سعى هابرماس إلى محاولة نقض مقدمات هذا العقل التي تتأسس على التمركز الذاتي لهذه النظرية الوضعية، ليقترح بعده الفعل التواصلي حلّاً بديلاً للخروج من هيمنة العقل الأداتي، فالعقل التواصلي قائم على تفعيل دور الإنسان التواصلي في المجتمع، وإبراز قيمته الوجودية؛ فعلى عكس العقل الأداتي يعمد العقل التواصلي إلى إبراز ودمج البعد العلمي والأخلاقي، وكذا البعد الجمالي التعبيري.

- العقل التواصلي بوصفه نشاطاً مفتوحاً:

يعدُّ مفهوم العقل التواصلي، عند هابرماس، محاولةً لتنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل، وهو محاولة تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المتضمّن كلّ شيء، وكذا العقل الأداتي الوضعي الذي يجزّئ الواقع. من هنا كان مبرر إعادة طرح إشكالية «العقلانية الحديثة»؛ حيث إن «الحداثة» عند هابرماس تبدأ من اللحظة التي تحقّق فيها الانتقال من الفكر الخرافي إلى العقلاني، والتي سادت فيها التفسيرات العقلانية والعلمية للعالم ومختلف الظواهر، بينما «العقلانية» اتسمت بالتعقيد والتنوع؛ حيث ساد طموح محاولة تبديد الأوهام الدينية إلى فضاء من التحقّق في عالم العلوم التقنية، مروراً إلى النمو المتزايد للقانون الوضعي للأخلاق. من هذا المسار عمل ماكس فيبر على نشر عقلانية غائية أطلق عليها هوركهايمر اسم «العقلانية الأداتية»، التي ترمي إلى مجموع الوسائل والقواعد التقنية التي يُراد بها غاية معينة في حدّ ذاتها[10].

ولعلّ الدور الذي اتخذه العقل الأداتي هو أساس عدم قدرة رواد مدرسة فرانكفورت على تطوير مفهوم العقل التواصلي، ومن هنا يتدخل هابرماس في تطوير مفهوم العقل بشكل يرتبط بالحداثة، ويستفيد من معطيات العقل النقدي؛ حيث يطرح نفسه عقلاً بديلاً للممارسات العقلية والإجرائية، وهذا هو مدلول العقل التواصلي.

تعدُّ اللغة، بوصفها وسيلة التفاهم والحوار، قاعدة رئيسة للتواصل في فلسفة هابرماس، ومحوراً أساسياً في مسيرته الفكرية

يقول هابرماس مؤكداً على العقل التواصلي: «إن هذا العقل يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الغائي، والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة، فهذا العقل يبنى على فعل خلاق يقوم على الاتفاق وبعيداً عن الضغط والتعسف، وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانباً من ذاتيته، ويدمجها في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي»[11].

ومنه؛ نستنتج المسار الذي سلكه هابرماس في صياغته للعقل التواصلي؛ حيث عمل على إدراج مكون اللغة داخله بصفة عامة، ومكون التواصل بصفة خاصة، من أجل بناء أسس، ووضع شروط لمجتمع ممكن؛ لذلك يدعي هابرماس أنه يمكن أن نلاحظ مجالات البحث في العقلانية التواصلية انطلاقاً من «العلاقة التي يقيمها الناس القادرين على الكلام وعلى الفاعلية عندما يتفقون على شيء معين»[12].

عند النظر في مفهوم العقل التواصلي، نلاحظ على أنه يمثل حالة افتراضية أكثر مما هي حالة واقعية، ولما كان العقل يتمثل المستقبل بوصفه شكلاً من العمل غير المنجز، نجد أن لهذه الفكرة لدى هابرماس نتيجتين: «الأولى: وتتمثل في مفهوم العقل التواصلي، الذي يسمح بالإبقاء على مخزون من العقلانية تمثل الحداثة وعده المستقبلي، وذلك بإسباغ نوع من الموضوعية عليه؛ أمّا النتيجة الثانية، فمن أهم ميزاتها أنها تمهد الطريق لإعادة كتابة النظرية النقدية للمجتمع»[13].

وعليه، نفهم أن من شروط تحقق المشروع التواصلي لهابرماس اعتماده على علم الاجتماع، وارتباطه بمشكلات عقلانية؛ فقد قام بالتأليف بين النزعة الوظيفية عند بارسونز وبين النظرية العقلانية عند ماكس فيبر معتمداً التحليل الماركسي؛ كما أنه حاول إعادة النظر في التقسيم الثلاثي الذي وضعه فيبر للنشاط العقلي الذي يتمحور حول مجال الواقعية الموضوعية العلمية ومجال المشروعية الأخلاقية، ثم مجال القيم والدلالات الرمزية. فقد عمد هابرماس إلى إعادة النظر في هذه المجالات الثلاثة من أجل وضع نظرية عقلانية للمجتمع، من خلال دمج مجال العلم والأخلاق ثم الفن، من أجل إحداث نوع من الاستقرار، فيكون نجاح أيّ مستوى من هذه المستويات يرتبط أساساً بالمستويين الآخرين، وهذا عكس ما ذهب إليه ماكس فيبر، فهو قد فصل بين هذه المجالات كلّها[14].

هكذا نلاحظ كيف أن يورغن هابرماس يهدف، من خلال العقلانية التواصلية، إلى وضع نظرية نقدية للمجتمع تقوم على أسس عقلانية. فهو يهدف إلى محاولة تطوير نظرية الحداثة باستخدام نظرية تواصلية أكثر دقة في التحليل، نظراً لحاجة الظاهرة الاجتماعية إلى ذلك، وهذا بالنسبة إليه لا يتم إلا من خلال إعادة توظيف دور الفلسفة، وتحديد دورها في المجتمع؛ وذلك لأن مفهوم العقل التواصلي أمر متأصّل في الممارسة اللغوية، ومنه كانت الحاجة في الفلسفة إلى أن تأخذ دور إنجاز مهام نسقية؛ حيث يمكن للعلوم الاجتماعية أن تتشارك مع الفلسفة في مهمة العمل على تأسيس نظرية عقلانية تدفع بالطموح بدلاً من القول بفلسفة الذات إلى القول بعقل هو نسيج تواصل ذوات تتجاوز ذاتيتها، من أجل مجتمع ممكن يتحقق في أطروحة الفضاء العمومي؛ «إن للفلسفة دوراً تؤديه من خلال التأمل في المعرفة والكلام والفعل، ومن خلال هذا التأمل تستطيع الفلسفة أن تساعد في تحديد أو إبراز بعض الشروط اللازمة لإقامة شكل من أشكال الحياة العقلانية، سواء استطاعت المجتمعات بعد ذلك أن تحققه، أم خرجت عليه؛ بمعنى أن تساعدنا على فهم وتفسير ونقد التقاليد والمؤسسات التي نتوارثها باعتبارنا أعضاء في مجتمعات معينة، ونعيش في ظروف تاريخية محددة. وبهذا يختلف هابرماس اختلافاً صريحاً عن النظرة السلبية للتاريخ التي ذهبت إليها مدرسة فرانكفورت في مرحلتها المتأخرة. فنظريته النقدية تحاول أن تفتح نافذة الأمل [...] في تحقيق بعض الشروط اللازمة لإقامة حياة اجتماعية على أسس عقلانية»[15].

بناء عليه؛ قسم هابرماس العقل، من خلال النشاط الذي يقوم به، إلى نوعين؛ الأول: نشاط عقلي معرفي أداتي، وقد رأينا أنه يرتبط بالغاية وحدوده تقتصر بالإنسان على معرفته ببيئته المحيطة فحسب، والثاني نشاط عقلي تواصلي يهدف نحو بناء التفاهم بين الذوات، وهو نشاط مفتوح لكل ذات قادرة على المشاركة في الفعل والكلام.

ثانياً: شروط المجتمع الممكن من خلال مكون التواصل واللغة:

ينظر هابرماس إلى التواصل في بعده البراغماتي للغة؛ حيث يريد بها تلك اللغة المنتجة والمبدعة لأساليب الاتفاق والتفاهم التي تهدف إلى تحقيق الإجماع[16]، فإذا كانت لفلسفة اللغة الدور الأساس في تكوين نظرية الفعل التواصلي، فقد ذهب هابرماس إلى تحديد شروط التواصل والمطالب الأساسية لفهم الأقوال والتعبيرات ولسلامة اللغة من خلال اعتبار النشاط التواصلي يتم في علاقة تفاعلية بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعاش. وعليه، كان لكل فرد قادر على التكلم الحق في أن يشارك في النشاط التواصلي، كما تتمّ عملية التواصل من خلال اللغة التي تعدّ الوسيط الأساسي في هذا النشاط؛ لكونها الوسيلة التي تقود إلى التفاهم عن طريق توظيف الجمل والعبارات. وعليه وجب استيعاب أن التجربة التواصلية تهدف إلى بلوغ اتفاق بين الذوات المتشاركة، ومنه يكون تقارب وجهات النظر مطلباً ضرورياً في الوقت الذي تكون فيه العملية التواصلية مبنية على أرضية ديمقراطية حوارية، خارج أي شكل من أشكال الضغط وقمع الرأي الآخر[17].

انطلاقاً من هنا توسع هابرماس في نظرية الفعل التواصلي، ليقترح أخلاق مناقشة تقوم على قاعدة ديمقراطية وقاعدة كونية، وهنا سيظهر ذلك الاختلاف الهابرماسي عن الفلسفة الكانطية في استراتيجيته الحجاجية؛ حيث يعدّ هابرماس الذات طرفاً فاعلاً كغيرها من المعنيين بالأوامر والمعايير الأخلاقية والاجتماعية؛ لذلك قال إن صياغتها يجب أن تتم في إطار حواري يتشارك فيه جميع الأطراف[18]، ومن ثمّ تعدُّ اللغة هي الوسيط الذي يحقق التفاهم بقدر ما هي الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات، باعتبارها نسقاً من القواعد المساعدة في إنتاج تعبيرات تعدُّ من عناصر اللغة[19].

هكذا تشكل اللغة عند هابرماس خاصية اجتماعية تشمل كل المجتمعات الإنسانية؛ إذ على أساسها يبنى الفعل التواصلي (باعتباره عملية لغوية سلوكية) يخفي وراءه شكلاً عقلانياً لهذه اللغة. فبقدر ما هو مفهوم وصفي يعدُّ مبدأ معيارياً؛ ولذلك يراه هابرماس نموذجاً للمجتمعات الديمقراطية[20]. هكذا سعى هابرماس إلى محاولة تغيير المجتمع إلى أفق أفضل؛ حيث ذهب إلى أن السبيل والمآل، الذي قد يؤدي إلى تحقيق ذلك، يكون عبر إعادة بناء نظرية لفعل التواصل، ولاسيما في التفاعل اللغوي.

ثالثاً: من الأخلاق النظرية إلى أخلاقيات المناقشة:

يترادف مفهوم «الأخلاق» بين معنيين؛ الأول يفيد كلمة «الخُلُق» من حيث هو الشكل الباطني للإنسان، والثاني يرجح معنى «الخَلق» من حيث هو الشكل الظاهري والصوري للأشياء[21]، ومن ثمّ بات للخَلق والخُلق أصل واحد، على الرغم من اختلاف معنييهما، ومنه انقسم علم الأخلاق إلى أبواب متعددة تختلف باختلاف القضايا الأخلاقية، ممّا أدى بها إلى تأسيس مبحث أخلاقي ينسجم مع كل وحدة وقضية معينة.

وتعد دراسة الأخلاق معرفة للقيم والسلوك الأخلاقي ذي المردود القيمي، والقضايا التي تدرس هنا نوعان، هما: قضايا حقيقية وقضايا اعتبارية[22]. وعليه، فإن موضوع علم الأخلاق هو النظر والبحث «عن هذه المبادئ، وترتيبها، واستبطانها، وتبيين كل حقيقتها، وكل أهميتها العملية، وبيان الواجبات التي توجبها على الإنسان بجميع النتائج التي تترتب عليها»[23].

تتصل نظرية هابرماس في الأخلاق بنقد وتطوير فلسفة كانط الأخلاقية وأخلاق هيغل الاجتماعية، وبأنها تقوم على نظرية التواصل، فهذه النظرية الأخيرة تتميز بكونها تعبر عن حياة الإنسان المعاصر، وتطلّعه إلى أخلاق إنسانية اجتماعية تؤسس لحياة سياسية وديمقراطية، حيث نجده يحث على تأسيس الأخلاق بناءً على العقل انطلاقاً من أطروحة أخلاقيات المناقشة، التي تفيد بكونها تمثل سلطة اجتماعية وعقلية، وكذا أخلاقية، تعاند كل ما هو خارج عن العقل.

تتميز الأخلاق، بوصفها سمة نظرية، بكونها تتجه نحو التفكير في مقومات الأخلاق؛ حيث إنها تبحث في قواعد السلوك التي تشكل الأخلاق والقيم، وكذا الأحكام الأخلاقية التي تسعى إلى دفعنا نحو الإلزام، وعليه «فهي تتميز عن الأخلاق بأنها ذات بعد نظري؛ إنها فلسفة للأخلاق يدور اهتمامها الأساسي بتحليل الأوامر والأحكام الأخلاقية»[24]. كما يذهب هابرماس إلى محاولة للكشف عن نظام أخلاقي ضمني يعني به الكلية الأخلاقية؛ حيث تتمثل وجهة نظره في أنه يمكن التوصل إلى المعايير الأخلاقية عبر نقاش حرّ عقلاني[25].

يقول أبو النور حمدي: «يجمع هابرماس الأخلاق النظرية ومبدأ الاتصال، فالعقل الاتصالي هو الذي يسود مقاربة هابرماس، وهي ترجع إلى معايير التعميم الكلي للخطاب الذي يتيح بلوغ حقل الأخلاق النظرية»[26]. ومن ثمّ نلاحظ أن هابرماس يؤكد أن أيّ فرد لديه القدرة على النقاش بطريقة كلية ومباشرة انطلاقاً من معايير أخلاقية تؤسسها الأخلاق النظرية؛ لذلك قد يذهب البعض إلى تصور عقلانية التواصل استناداً إلى أخلاقيات المناقشة التي تلتزم بمعايير منطق الخطاب وصفاته المحددة في الصدق والصحة والصلاحية والدقة والمسؤولية والمعقولية، وهذه جميعها تعدُّ شروطاً للتواصل العقلاني[27].

هكذا نخلص إلى أهمية هابرماس، التي تتجلى في البرهنة على الأخلاق شرطاً أساسياً للعقلنة والتواصل، وفي هذا الصدد نجد حسن مصدق يقول: «إن إحدى نقاط القوة، في تداولية آبل وهابرماس، تتجلى في أن البرهنة على الأخلاق مكون أساسي للعقلنة والتواصل معاً. وتختص شروط تداولية المنطق النظري بملفوظات البرهنة، من أجل أن تصل عملية ما بين الذاتية إلى إقرار صلاحية الأفكار المعروضة واستمرار التفاعل الإيجابي بينها. ومن هذا المنطلق يقدم هابرماس وآبل نقداً ثابتاً للنظرية الأخلاقية الكانطية، التي لا تعدو أن تكون في نظرهما "مجرد إعلان نوايا واجبات صورية" من طرف مونولوج أحادي لذات عارفة تناجي العالم المتعالي، بينما تعالج الفاعلية التواصلية الحقيقة بين الأفراد، كسيرورة للبرهان والمحاججة، من منطلق القضايا اللغوية المتبادلة بينهما؛ إذ لا يقرّ لها معنى إلا بتحققها، وبالتالي لا تستقيم الحقيقة بدون تقديم البرهان عليها، فهي التي تتم إذا توصل الفرقاء إلى اتفاق قائم على شروط اللغة المعيارية»[28].

ومنه نرى أن هابرماس يؤكد أن اللغة تحيل إلى الاتفاق والتواصل والاتفاق موضوعاً هو بطبيعته يطبع كل بحث أخلاقي، في حين أن الحوار هو أساس اتفاق الفاعلية، الذي يحدد نظرية الأخلاق النظرية. ويجدر أن تفهم الفاعلية التواصلية، ضمن متبادل التفاهم والقبول بين الأطراف المتشاركين في النقاش، عن طريق البرهان الذي يستلزم في الأفراد الحياد والمسؤولية ومعقولية الخطاب.

كل هذا من شأنه أن ينتقل بنا إلى الوقوف على الافتراضات الأربعة التي تؤسس لبرنامج أخلاقيات المناقشة؛ فأول هذه الافتراضات يتوقف على ضرورة توافر المعقولية بوصفها أحد شروط التواصل؛ والافتراض الثاني يتعلق بحقيقة مضمون القول الذي يقرر حالة واقعية غير مستوحاة من الخيال؛ أمّا الافتراض الثالث، فيرتبط بمصداقية التلفظ؛ وأخيراً يدور الافتراض الرابع حول صدقية ما يُقال بالقدر المسموح به للتعبير عن حسن النوايا[29].

من هنا نشهد تأكيد هابرماس أهمية اللغة، ودورها في العقلانية التواصلية. ولذلك تهدف الفعالية التواصلية إلى الاعتراف المتبادل بين المتحدثين حول صحة الادعاءات المتضمَّنة في أقوالهم، التي تشي إلى مدى مطابقتها للواقع. هكذا صارت الأخلاق مع هابرماس تقوم على نوع من التواصل، وهي ما عبر عنه في «الأخلاق التواصلية»، التي جعل وسيلته فيها هي اللغة، وهكذا فالنقاش الأخلاقي لا يتم بصورة أوضح بمنأى عن الشمولية الموضوعية، وهذا ما توضحه أخلاقيات المناقشة، بوصفها عملية استدلال، من خلال الأخلاق التواصلية[30].

يهدف هابرماس إلى محاولة تطوير نظرية الحداثة باستخدام نظرية تواصلية أكثر دقة في التحليل، نظراً لحاجة الظاهرة الاجتماعية إلى ذلك

خاتمة:

تعدّ مساهمة يورغن هابرماس في السياق الأخلاقي محاولة لا يمكن تجاوزها في العقلانية المعاصرة، وتتميز هذه النظرية المرتبطة بكلٍّ من آبل وهابرماس بكونها تنطلق من الفلسفة الأخلاقية الكانطية، مع تطويرها في إطار فلسفي نظري يستند إلى البراغماتية الأمريكية والنظريات الحجاجية وفلسفة اللغة. فإذا كانت أسس فلسفة كانط الأخلاقية تقوم على مبدأ الذاتية وحرية الذات، فبالنسبة إلى هابرماس قد حافظ على المقاصد الكبرى للأخلاق الكانطية، لكنه يقترح أن يجعل تأسيس المعايير الأخلاقية على مبدأ البيذاتية، وهو مبدأ يجعل المعايير الأخلاقية مؤسسة على أخلاقيات المناقشة[31].

هكذا يقدم هابرماس تصوره لوظيفة الفلسفة في نظرية الفعل التواصلي، وهو تصور سيؤدي به إلى إبراز الأهمية التي ستحظى بها الفلسفة في الفضاء العمومي المعاصر؛ ففي الوقت الذي ذهب البعض إلى القول بالاستغناء عن الفلسفة لصالح العلم والتقنية، من أجل حلّ مشاكل العالم، ظهر في الأخير خطأ هذا الاعتقاد الذي حمله روّاد النزعة الوضعية والتقنية وأنصار العلموية؛ فالفلسفة، كما عبر عنها محمد عبد السلام الأشهب، لا تدّعي الشمولية والتأسيسية، ولا تغيير العالم؛ بل أصبحت مع هابرماس واعية بالدور المنوط بها في خريطة البرنامج الإبستمولوجي المعاصر. ومن ثمّ، وبحكم تعدديتها، أصبح بإمكانها أن تطور العديد من تأويلاتها، وأن تساهم في فهم العلاقات الاجتماعية والسياسية.

 

لائحة المراجع

- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، إشراف: أحمد عبد الحليم عطية، المكتبة الفلسفية، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 2012م.

- أبو السعود، عطيات:

- الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.

- نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، أوراق فلسفية، العدد العاشر، القاهرة-مصر، 2004م.

- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة أحمد لطفي السيد، ج1، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1924م.

- الأشهب، محمد عبد السلام:

- أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، ط1، 2013م.

- الفلسفة والسياسة عند هابرماس، جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية، منشورات دفاتر سياسية، ط1، 2006م.

- كني، محمد رضا مهدوي، البداية في الأخلاق العملية، دار الهادي، بيروت-لبنان، ط1، 2002م.

- مصدق، حسن، النظرية النقدية التواصلية، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط1، 2005م.


[1]- تم نشر هذا المقال في كتاب "التواصل في مواجهة العنف"، إشراف الطيب بوعزة، إعداد وتنسيق محفوظ أبي يعلا، منشورات مؤمنون بلا حدود، 2019

[2]- الأشهب، محمد، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية، منشورات دفاتر سياسية، ط1، 2006م، ص11

[3]- المرجع نفسه، ص13

[4]- أبو السعود، عطيات، نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، أوراق فلسفية، العدد العاشر، القاهرة-مصر، 2004م، ص319

[5]- مصدق، حسن، النظرية النقدية التواصلية، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط1، 2005م، ص11

[6]- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، إشراف أحمد عبد الحليم عطية، المكتبة الفلسفية، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 2012م،ص131.

[7]- المرجع نفسه، ص132

[8]- المرجع نفسه، ص134

[9]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها

[10]- المرجع نفسه، ص136

[11]- المرجع نفسه، ص137

[12]- المرجع نفسه، ص138

[13]- المرجع نفسه، ص139

[14]- المرجع نفسه، ص141

[15]- أبو السعود، عطيات، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، منشأة المعارف، الإسكندرية- مصر، 2002م، ص83

[16]- الأشهب، محمد، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، مرجع سابق، ص35

[17]- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، مرجع سابق، ص150

[18]- الأشهب، محمد عبد السلام، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار ورد الأردنية، عمان-الأردن، ط1، 2013م، ص17

[19]- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، مرجع سابق، ص152

[20]- المرجع نفسه، ص156

[21]- كني، محمد رضا مهدوي، البداية في الأخلاق العملية، دار الهادي، بيروت-لبنان، ط1، 2002م، ص6

[22]- المرجع نفسه، ص13

[23]- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة أحمد لطفي السيد، ج1، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1924م، ص8

[24]- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، مرجع سابق، ص241

[25]- المرجع نفسه، ص242

[26]- المرجع نفسه، ص244

[27]- مصدق، حسن، النظرية النقدية التواصلية، مرجع سابق، ص142

[28]- المرجع نفسه، ص143

[29]- أبو النور حسن، أبو النور حمدي، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، مرجع سابق، ص254-255

[30]- المرجع نفسه، ص260

[31]- الأشهب، محمد، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، مرجع سابق، ص175