"السماع" في التراث الصوفي


فئة :  مقالات

"السماع" في التراث الصوفي

مقدمة:

يألف الإنسان عادة الإنصات إلى الأصوات الجميلة ويأنس بها وينتشي أحيانًا، ويجدّ في طلبها لما تورثه في النفس من أثر. ولكنّ المسألة لدى الصوفيّة تتجاوز مجرّد الإنصات، لتحمل معاني جديدة للأنس والانتشاء؛ فبالسماع يسعى المتصوّف إلى التحرّر والانعتاق من أسر العالم الأرضي (عالم الدنس والفناء) ليحيا في علاقة اتّصال مع العالم العلوي (عالم الصفاء والبقاء)، وهو بذلك من الوسائل المساعدة على تربية النفس وتطهيرها ومجاهدتها وترويضها.

ولهذا، حدّد الصوفيّة مجال مسموعاتهم وضبطوا لها أطرا وأجواء مخصوصة تساعد على تحقيق مقاصدهم منها، مثل ضرورة حضور شيخ يختار نوع السماع ويوجّه المريد فيه، وتفضيل الأماكن أو الفضاءات التي تكون فيها الإنارة خافتة والروائح طيّبة وتنعدم فيها الجلبة والضجّة... يقول الجنيد: "السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان والمكان والإخوان" (القشيري، 2001، ص 226).

والسّماع أنواع اهتمّ الصوفيّة بها واختلفوا في شأنها، وحرصوا على ما يمتّن صلة العبد بربّه منها، مثل القرآن والذكر وشعر الزهد والغزل.. ولهم فيها أخبار تحكي مواجدهم أثناءها وتشرح تفاعلهم مع ما قد يعرض للسالك فيها من مزالق ومخاطر وكيفيّة معالجتها وتجنبها... ولهم في ذلك مواقف وأقوال مختلفة تصل حدّ التقابل أحيانا بين من يشجّع على طقوس السماع ويضبط أدبيّاته، وبين من يحظر ذلك ويدعو إلى تجنّبه (السرّاج الطوسي، 1960، ص ص 372-374).

ويحيلنا اختلاف رجال التصوّف في السماع ودرجاته إلى خاصّيّة فعل التقبّل ومراتبه وعلاقته بالنصّ القرآني خاصة وسائر أشكال الخطاب عامّة، فما يقرّه الصوفيّة عبر تفصيلهم أنواعَ السماع ومقاصده ومزالقه وطقوسه.. يصل حدّ نسف النصّ وإفراغه من مضامينه المتداولة، فهم يقولون بتجاوز الحرف واللفظ ومنطق المواضعة أو ما اتفق عليه الناس، ويتشبّثون بالطابع الفردي في التفاعل مع المسموع ويتّخذون الذوق إماما مرشدا إلى عميق المعاني وباطنها، فبالذوق تكون الحقيقة في عرفهم، وهو ما يقود إلى تبنّي فهم آخر ورؤى مغايرة، يؤمنون إيمانًا راسخًا باختصاصهم بها واحتكارهم لها من باب المنّة الإلهية، وينصّبون أنفسهم بناء على ذلك، عارفين بالحقّ لكونهم متجاوزين مرتبة الأشكال والرّسوم والوسائط، وذلك عبر الالتحام بالمتكلّم الأوّل مُنشِئ النصّ ومصدره، بعد أن أدركوا مقام الفناء والبقاء واخترقوا بالسماع جميع الدرجات والحجب. وهذا ما يدعونا إلى البحث في هذه الظاهرة وقد تباينت مواقف الصّوفيّة في شأنها وتعدّدت ضوابطها وشروطها وأبانت عن وعيهم بخطورتها وتأثيراتها الممكنة في علاقتهم بسائر ممثّلي الفكر الإسلامي، وتداعياتها أيضا على صلتهم بعصرهم وبيئتهم، خاصة إثر تفشّي الإقبال على مذهبهم والانتساب إليه والتباس معاني تجربتهم بين من يحرص على الالتزام بأدبيّاتهم وبين من ينتحل صفتهم ويتّخذ من طقوس السماع مطيّة للكسب بإظهار الوجد وسطوته وادّعاء الحال وغلبته.

مفهوم السماع:

السّماع لغة مصدر سمع، و"السَّمْعُ حِسُّ الأُذن. وفي التنزيل "أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَشَهِيدٌ"(سورة ق/37) وقال ثعلب معناه خَلا له فلم يشتغل بغيره وقد سَمِعَه سَمْعاً وسِمْعاً وسَماعاً وسَماعةً وسَماعِيةً... والسَّماعُ ما سَمَّعْتَ به، فشاع وتُكُلِّمَ به وكلُّ ما التذته الأُذن من صَوْتٍ حَسَنٍ سماع والسَّماعُ الغِناءُ"(ابن منظور، د.ت، ج24، ص ص 2095-2096)، وقد ينسحب أيضا في معنى الفهم، قال تعالى: "وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ" (الأنفال/23)؛ أي لفهّمهم. وجاء في الفارسيّة "سماع خانة" بمعنى بهو الذكر والإنشاد.

أمّا اصطلاحا، فللسّماع تعريفات شتّى؛ فالكلاباذي في "التعرّف لمذهب أهل التصوّف" يحدّده بما يلي: "استجمام من تعب الوقت وتنفّس لأرباب الأحوال واستحضار الأسرار لذوي الأشغال" (الكلاباذي، 1993، ص160) والطوسي في "اللمع" يقول: "السماع موهبة روحيّة معناها قدرة الشخص على سماع أصوات لا يسمعها الناس الآخرون بحاسّة السّمع العاديّة" (السرّاج الطوسي، 1960، ص342) وذو النون المصري يعرّفه بقوله: "السماع وارد حقّ يزعج القلب إلى الحقّ فمن أصغى إليه بحقّ تحقّق ومن أصغى إليه بنفس تزندق". (السرّاج الطوسي، 1960، ص342).

وتلتقي هذه التعريفات الاصطلاحيّة في كونها وردت على لسان عدد من الصوفيّة حمّلوا من خلالها السماع أبعادا استقوها من واقع تجربتهم التعبّديّة وضبطوا له مجالاته، وبها نتبيّن تمييزهم بين درجات في السماع أساسها طبيعة المستمع ومرتبته أو حاله، فسماع المريد يختلف عن سماع شيخه، وكذلك السالك يختلف عن الواصل: فالأوّل (المريد/السالك) يستعين بالسماع لتصفية باطنه وتطهير نفسه ورياضتها، والثاني يجد فيه فسحة وراحة. يقول أبو عثمان سعيد الحيري: "السماع على ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين المبتدئين، يستدعون بذلك الأحوال الشريفة، ونخشى عليهم في ذلك الفتنة والمراءاة. والثاني: للصادقين يطلبون الزيادة في أحوالهم ويستمعون من ذلك ما يوفق أوقاتهم. والثالث: لأهل الاستقامة من العارفين فهؤلاء لا يختارون على الله تعالى فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون" (القشيري، 2001، ص 342).

هذا إضافة إلى تباين سماع المريد مع الإنسان العادي، وههنا يقام تمييز آخر بين إمكانين في السماع: أحدهما مستحسن محمود (السماع بالحقّ)، والثاني مسترذل مذموم (السماع بالنفس). يقول ميثم الجنابي: "السماع الصوفي هو الاستكمال المتسامي لسماع نغم الطبيعة وتذوّقها الإنساني" (الجنابي، 2007، ص 347). ويؤكّد قوله كلام أبي عثمان سعيد المغربي: "من ادّعى السماع ولم يسمع صوت الطيور وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو فقير مدّع" (القشيري، 2001، ص 341).

وإذا ما كان السماع في بدايات التصوّف نشاطا يهدف إلى تطهير النفس، فتغلب عليه الأبعاد التربويّة والروحيّة، فإنّه بات عند المتأخّرين طقسا اختلفت أشكاله وتوظيفاته بين من يعتمده لإصلاح القلوب واستجلاب الأحوال، وبين من يجعله أداة للارتزاق والكسب أو الغنيمة. وهذا ما دعا عددا من الصوفيّة إلى إبداء احترازات في شأنهم وصلت حدّ الرفض أحيانا، ونجد صدى لهذه الاحترازات في عدد من المصادر الصوفيّة التي عملت على تشريع فعل السماع وشروطه وأصوله بالعودة إلى النصّ القرآني أساسا واستحضار الآيات التي ذكرت السماع أو أوحت به من قبيل:

-"إنَّهُمْ عَنِ السَمْعِ لَمَعْزُولُون" (سورة الشعراء/212)

-"فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" (سورة الزمر/18)

-"وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"(سورة المائدة/83).

ولم يتوقّف الأمر عند حدود استحضار مثل هذه الآيات التي تذكر السماع ومشتقّاته وتحثّ عليها، إنّما بلغ حدّ تبنّي تصوّر متكامل لهذا المفهوم منطلقه الآية 172 من سورة الأعراف ونصّها: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين". فالجنيد مثلا حين وُجّه إليه السؤال عن السماع استحضر هذه الآية ووصله من خلالها بسماع الأرواح لخطاب الله لحظة خلق آدم، واعتبره السماع الأسمى الذي تتوق إليه كلّ تجربة صوفيّة أو كلّ روح؛ فهو نموذج للصّفاء والنّقاء والتخلّص من أدران الجسد وحُجُب النّفس البشريّة، إذ جاء في الرسالة القشيريّة: "سُئل الجنيد: ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إنّ الله تعالى لمّا خاطب الذرّ في الميثاق الأوّل بقوله: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى"، استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواحَ، فلمّا سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك" (القشيري، 2001، ص 340). فما السماع الصوفي إذّاك إلاّ تحيين وتجديد لهذا النوع الأوّل من السماع، وهو عنوان كماله لكونه اقترن بلحظة من الصفاء علامتها الوجود الروحي المحض غير المقترن بالأجساد والأنفس البشريّة.

وقد ميّز الصوفيّة بين السماع الحلال والسماع الحرام استنادا إلى علاقة الروح بالنفس البشريّة وفق قراءة هذه الآية، يقول أبو طالب المكي: "في السماع حرام وحلال وشبهة، فمن سمعه بنفس بمشاهدة هوى وشهوة فهو حرام، ومن سمعه بمعقوله على صفةٍ مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخول اللهو فيه، وفعل هذا بعض السلف من الصحابة والتابعين. ومن سمعه بقلب بمشاهدة معان تدلّه على الدليل وتشهده طرقات الجليل فهذا مباح، ولا يصحّ إلاّ لأهله..." (المكّي، 2001، ج2، ص 1090).

شروط السماع وآدابه:

احتاج الصوفيّة إلى ضبط شروط السماع وآدابه بعد أن انتشرت الظاهرة في أوساطهم، ولاقت اعتراضات شتّى من مخالفيهم واختلطت أجواؤها بسلوك استغربه الناس وأنكروه عليهم، وكان من الضروريّ تحديد مقاصدهم منها ومعالجة ما انفرط من ممارسات فيها وعدل عن المألوف والمقصود أو التبس أثناءها، فسنّوا ضوابط ترتبط بالسالك المبتدئ نفسه ومن يحضر معه، وتطال ما يسمع، ومرتبته، والغاية منه... يقول الجنيد: "من سمع السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلاّ فلا يسمع، قيل له: وما تلك الثلاثة؟ قال: الزمان والمكان والإخوان" (السرّاج الطوسي، 1960، 342) ويقول السهروردي: "فما اختاروا السماع، حيث اختاروه. إلاّ بشرط وقيود وآداب" (السهروردي، د.ت، ج2، ص19).

ومن شروطهم:

-حضور الشيخ مع مريديه، فهو أدرى بأحوالهم ومقاماتهم وأعلم ببواطنهم وطاقة تقبّلهم وما تحتاجه في السماع، لتطويع نفوسهم وتوجيهها ورياضتها. يقول السرّاج الطوسي: "وإن كان مبتدئا لا يعلم شرائط السماع فيقصد من يعلم ذلك من المشايخ حتّى يتعلّم منه ذلك، حتّى لا يكون سماعه لهوًا ولعبًا" (السرّاج الطوسي، 1960، ص360). إذ كان الصوفيّة يخشون عدول السالك في بداية الطريق عن مقصده وانحرافه بميله إلى الشهوة والرياء، لوعيهم بمزالق السماع ومخاطره وعمق تأثيره الوجداني. وبهذا يُفسّر كره عدد منهم له في البدايات ورفضهم إقبال المبتدئين عليه "لعظم ما فيه من الخطر إن استلذّوا ذلك وتابعوا حظوظهم فتنحلّ عن ذلك عقودهم وتنفسخ عزيمتهم ويركنوا إلى شهواتهم ويتعرّضوا للفتنة ويقعوا في البليّة" على حدّ تعبير السرّاج الطوسي (السرّاج الطوسي، 1960، 372).

فالشيخ صمّام أمان للمريد المبتدئ يحفظه من هذه المزالق، ويختار له السماع الذي يتلاءم مع وقته وينبّهه إلى كيفيّة التفاعل معه، ويشرح له ما قد يعرض له من مواجد وخطرات أثناءه، فيكفل له متى التزم بتعاليمه سبل تحقيق مقصده منه. وطبيعيّ ألاّ،يكون حضور الشيخ ضروريا في النهايات مع الأولياء والعارفين أو الواصلين، "لأنّ أولياء الله ملكوا شهوات أنفسهم الطبيعيّة" على حدّ تعبير سهل التستري (السلمي،1997، ص59).

وهذا ما دفع عددا من الصوفيّة إلى حدّ حصر السماع في أوساط العارفين وتحريمه على المبتدئين. يقول السهروردي: "كان يقال: لا يصحّ السماع إلاّ لعارف مكين، ولا يباح لمريد مبتدئ" (السهروردي، د.ت، ص 19)، ويعني هذا وجود تفاضل في درجات السماع تختلف باختلاف أوقات السامعين.

-الوقت وهو فردي ذاتي، يقول السرّاج الطوسي: "المعوّل والمقصود في ذلك على مقاصد المستمعين فيما يسمعون، وعلى حسب مصادفات أسرارهم من ذلك، ومن حيث أوقاتهم وما يكون الغالب على قلوبهم، فإذا سمعوا شيئا يوافق ما هم به في الوقت تقوى بذلك مكمنات سرائرهم وما انضمّت عليه ضمائرهم" (السرّاج الطوسي، 1960، 370).

ويفهم منه أنّ السماع مشروط ببلوغ درجة دنيا من الإعداد النفسي أو الروحي، ليصحّ ويؤتي أكله، وهذا يستوجب مجاهدة وإقبالا على الطاعات لتصفية النفس وتحييدها وتطهيرها، لئلاّ تصرف السماع إلى الشهوة واللهو والغفلة، يقول أبو مدين شعيب: "لا يحلّ حضوره حتّى يجاهد نفسه بالصيام والقيام والوصال". فالمعوّل على السماع في هذا الباب طهارة القلب من الغلّ والحسد والكبر، وعقد النيّة على الإخلاص، ليتلاءم المسموع مع حاجة السامع وغايته منه، يقول السرّاج الطوسي: "المعوّل عند استماع القرآن حضور القلب والتدبّر والتفكّر والتذكّر، وعلى ما يصادف قلبه عليه من قراءته، فيكون الغالب على وقته في استماعه القرآن، فإذا لم يكن له حال ولم يكن في قلبه وجد يطرقه ما سمعه من القرآن ويوافقه ويزعجه فمثله "كمثل الذي ينعق بما لا يسمع"" (السرّاج الطوسي، 1960، 355). ويقول السهروردي: "لا ينبغي للصادق أن يتعمّد الحضور في مجمع يكون فيه سماع إلاّ بعد أن يخلص النيّة لله تعالى ويتوقّع به مزيدا في إرادته وطلبه" (السهروردي، د.ت، ج2، ص3).

وفي هذا الباب أيضا، يتنزّل التمييز بين سماع العامة وسماع الخاصة؛ فالأوّل قرين اللهو والشهوة والغفلة؛ أمّا الثاني، فـ"غذاء للأرواح" و"عبرة" و"استزادة" في الأحوال و"فسحة من تعب الوقت".

ولهذا اشترط الصوفيّة ألاّ يكون السماع مطلوبا لذاته أو فائضا عن الحاجة، يقول الجنيد: "إذا رأيت المريد يطلب السماع فاعلم أنّ فيه بقيّة للبطالة" وهذا ما يبرّر اعتراض الشافعي فيما نقل عنه السهروردي على الاستزادة منه في غير محلّ أو حاجة، يقول: "من استكثر منه فهو سفيه تُردّ شهادته" (السهروردي، د.ت، ج2، ص 19).

-هذا وقد حفلت كتب التصوّف بشروط أخرى تمثّلت في جزئيّات تختلف من مصنّف إلى آخر، مثل الحديث عن أهمّيّة الطهارة ونظافة الثوب وطيب الرائحة ومكان السماع ودرجة إنارته ونوع الحضور وطبيعة السماع... فجمعت هذه الشروط عوامل ماديّة وأخرى معنويّة أو نفسيّة تبرز حجم اهتمام الصوفيّة بظاهرة السماع وإدراكهم خطورتها وقيمتها ودورها في نشر تعاليمهم والكشف عن التحوّلات الطارئة على نهجهم، وهو ما أدّى بهم إلى تفصيل القول في ما قد يعرض للمستمعين فيه من أحوال، وما يقع في مجالسه من سلوكيات تعدل عن المألوف برّروها حينا وأنكروها حينا آخر. يقول السهروردي: "فليس من الصدق إظهار الوجد من غير وجد نازل، أو ادّعاء الحال من غير حاصل وذلك عن النفاق" (السهروردي، د.ت، ج2، ص 30). والخطر قد لا يكمن في الدخلاء على التجربة الصوفيّة فحسب، بل قد يكون في المقبلين عليها والراغبين في خوضها، فهؤلاء محتاجون في عرف التصوّف إلى استعداد قبلي وتهيّؤ لطقس السماع، ما لم يتوفّر صرعهم الوجد أو خرجوا منه خائبين. والصرع قد يبلغ درجة الموت لتمكّن السماع من النّفس وسلطانه عليها، ومصنّفات الصوفيّة ملأى بأخبار من قتلتهم عذوبة الصوت وفرط العشق تحذيرا لمريديهم من أن تتحرّك خواطرهم وتفسد عليهم طريقهم نحو الصفاء في التفاعل مع ما يسمعون من ألحان أو أصوات. لهذا، نجدهم يستهجنون أحيانا من خرق قميصه لحظة الإنشاد أو رقص أو صرخ، فتلك علامات نقص تستدعي معالجة وتجاوزا ولا ينبغي للسالك أن ينشغل بها أو يظهرها.

ولمزيد التحكّم في الظاهرة، عمد الصوفيّة إلى محاولة حصر مضامين السماع وضبطها ببيان الحكمة منها ووظيفتها.

موقع السماع من التجربة الصوفيّة:

يختلف موقع السماع من التجربة الصوفيّة، استنادا إلى طابعها الفردي من جهة وتعدّد وظائفه من جهة أخرى، وهو بهذا الاعتبار حاضر في مختلف مستويات الطريق الصوفي، يسند المريد في البدايات بمساعدته على تطهير باطنه وترسيخ محبّة الله ورسوله وتحريره من سطوة شهوته ونفسه الأمّارة بالسوء، بتوجيه همّته إلى الحضرة الإلهية، وهو بذلك يعاضد دور الذّكر، ويتنوّع أثناء ترقّي الصوفي في المقامات والأحوال بتنوّع الحاجة والوقت. أمّا في النهايات، فهو تثبيت وراحة، وإن تحدّث بعض الصوفيّة عن ضرورة تجديد الأحوال وعدم الاطمئنان إلى الاعتقاد في الثبات. ومن هنا تشريعهم لفضل السماع وضرورة المداومة على حضوره.

ويعكس مثل هذا التفصيل قيمته، رغم تباين مواقف الصوفيّة منه بين قابل مشرّع ورافض محترز. ولئن أشرنا سابقا إلى دواعي الاحتراز والرفض، فإنّ تشريع السماع والتشجيع عليه يفسّر القيمة التي أولاها الصوفيّة لهذا الطقس. ولعلّ ذلك ينطلق من حديثهم عن وجوه الكمال فيه بالعودة إلى ما سمّوه السماع الأوّل والأمثل من خلال قراءة الآية 172 من سورة الأعراف التي أشرنا إليها سلفا. فالسماع الصوفي يلقى مشروعيّته وأبعاده في لحظة الميثاق، إذ يروى عنالجنيد أنّه "سئل ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب، فقال إنّ الله تعالى لمّا خاطب الذر في الميثاق الأوّل بقوله[أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلمّا سمعوا السّماع حرّكهم ذكر ذلك". (القشيري، 2001، ص 226). وهو في ذلك قريب من تفسير أفلاطون وفيثاغوراس لمسألة السماع وأثرها في الإنسان، فهي عندهما توقظ في الأرواح "ذكرى الألحان السماويّة التي كانت تسمعها قبل الوجود، قبل أن تنفصل الروح عن الله". (نيكلسون، 1951، ص 68).

فالسماع إذن، تذكّر وليس تفكّرا أو تعقّلا فحسب، لأنّ أثر الكلام أو الصوت في الأرواح لحظة الميثاق لم يكن بما حمله من معان، إنّما كان بما فيه من عذوبة وجاذبيّة وقوّة حرّكت هذه الأرواح وغمرتها فاستهلكتها، وهو ما يفسّر تأكيد الصوفيّة ارتباط العلم بالحال في الفهم عند السماع. فالمهمّ هو تذوّقه واستيعابه وجدانيّا والامتلاء به باستحضار الوجود الإلهي ومراعاة أحوال المريدين فيه. لذلك تنوّعت المسموعات واختلف الصوفيّة في شأنها. فبعضهم يفضّل سماع القرآن وترتيله، لأنّه كلام الله، ويفصّل في سماعه درجات يكون أرقاها لحظة يدرك الصوفيّ مرتبة سماعه مباشرة من الله قياسا على لحظة الميثاق واستنادا إلى حال موسى لحظة التكليم، يقول أبو سعيد الخرّاز: "أوّل إلقاء السمع لاستماع القرآن هو أن تسمعه كأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقرؤه عليك ثمّ ترقى عن ذلك فكأنّك تسمعه من جبريل عليه السلام وقراءته على النبي صلّى الله عليه وسلّم... ثمّ ترقى عن ذلك فكأنّك تسمعه من الحق... فكأنّك تسمعه من الله".(السراج الطوسي، 1960، ص 114).

ويرى بعضهم الآخرضرورة سماع القصائد المغنّاة وغير المغنّاة معتبرا أنّ التكثيف من شعر الغزل مثلا من شأنه أن يكون رياضة للنفس القاسية الجافة التي لا تنفتح لموضوع الحب، فهو ترغيب فيه ومساعدة عليه.

وفيهم من يفضّل الاستماع إلى الذكر والمواعظ والمناجاة، وهي عادة ما ترد موزونة مسجّعة موقّعة. وفيهم من لا يجد حرجا في محاولة الجمع بين مختلف هذه الصور. كلّ له تبريره وترتيبه ومقصده، يقول السرّاج الطوسي: "المعوّل والمقصود في ذلك على مقاصد المستمعين فيما يسمعون، وعلى حسب مصادفات أسرارهم من ذلك، ومن حيث أوقاتهم وما يكون الغالب على قلوبهم". (السرّاج الطوسي، 1960، ص 370).

ومهما اختلفت أصناف المسموعات ومدلولاتها (زهديات، غزليات، قرآن، أوراد، أحزاب، أذكار..)، فإنّ الصوفي مطالب بالقيام بعمليّة تأويليّة لها عبر إكساب معانيها أبعادا دينيّة وحملها عليها، وتوظيفها تبعا لما يعيشه في تجربته الروحيّة من أحوال، فالحال في التصوف عمدة لتقبّل فعل السماع وفهمه وتوظيفه وتأويله، وبهذا يكون المحسوس بوّابة ولوج المجرّد خلاف سائر المجاهدات التي تسعى إلى قتل المحسوس والتحرّر منه. ولهذا من الطبيعيّ أن يجعل الصوفيّة مراتب في السماع يكون أقصاها نفيا لهذا المحسوس وقطعا معه وتفرّغا كلّيّا للمجرّد عبر ما يسمّيه الصوفيّة "السماع بالحقّ"، ومتى بلغ الصوفيّ هذه المرتبة أدرك أنّه وصل، ومن ثمّ أضحى متاحا له الاستغناء عن السماع لكونه كما يقول الهجويري: "زاد المضطرّين فمن وصل استغنى عن السماع" (الهجويري، 1980، ج2، ص 653). وإن كان بلوغ هذه الدرجة عند عدد من الصوفيّة لا يمنع حضور السماع ضرورة؛ فللصوفيّ مطلق الحرّيّة في طلبه أو الإعراض عنه.

وليس الإشكال متوقّفا عند الإقبال على السماع أو الإعراض عنه، بقدر ما هو كامن في نتائجه وخاصّة في ما يغنمه الصوفيّ منه، وتحديدا الجانب المتّصل بالعلم الباطن؛ فالتفاعل الوجدانيّ أو الروحيّ مع المسموع يحقّق فاعليّته ونجاعته حين يجني منه السامع معرفة لا يُمنَحُها غيره. هي معرفة تنسجم مع وقته وحاله من جهة، وينفرد بها عن غيره من جهة أخرى، منطلقها نص مسموع ولكنّها تفارقه وترقى عنه لكونها تنأى عن الشخص المؤدّي للسّماع أو القائم عليه، وتتجاوز لغته حدود تعبيرها، لتكتسب أبعادا أرحب يفيض بها حال السامع الصوفي ويزكّيها الحضور الإلهي ويدعمها بمننه وعطاياه. فتتولّد معان جديدة، لها في الوجدان امتداد وتناسب، يتمسّك بها الصوفي، ويؤمن بكونها حقيقته ومنشوده وسرّه.

خاتمة:

إنّ السماع الصوفي عبارة عن سفر في النفس البشريّة، يستهدف تطهيرها وتهيئتها لتكون أرضيّة للتفاعل الإيجابي الصافي مع المسموع، ولهذا اجتهد الصوفيّة في الدفاع عنه وإيجاد مسوّغات شرعيّة له، تحول دون توجيه التهم إليهم والطعن في مذهبهم. مثلما فصّلوا القول في شروطه وأبعاده ومكوّناته ولوازمه قصد توفير الأرضيّة الملائمة لنجاحه ونجاعته وحماية المقبلين عليه من الزلل.

وهو أيضا سفر في المسموع بغية استنطاقه من زاوية مخصوصة، تقوم على فعل الذوق وتروم تحصيل معرفة تستعصي على المتمسّك باللغة العاديّة ومواضعاتها، وتخضع لطبيعة أحوال السامعين ومتطلّباتها، لأنّ تجاوزها قد يكون قرين نهاية أصحابها، إمّا بالموت أو بالعدول عن الطريق. وقد استوى لديهم المسموع قرآنا وذكرا وشعرا... إذ لم يعد للمفاضلة بين الوسائط وأجناسها وزن في ظلّ البحث عن المعاني الباطنة التي تجد لها في أعماق الصوفي قرارا.

إلاّ أنّ السماع على الشاكلة التي نظر بها الصوفيّة المتقدّمون إليهفي القرون الأولى لنشأة التجربة الصوفيّة، قد اختلف كثيرا عند المتأخّرين وأضحى أكثر التصاقا بالجماعات منه بالأفراد، بل بات علامة على الانتماء والانتساب إلى فئة أو توجّه محدّد في التصوّف، واقترن ببعض مظاهر الرقص والعزف على هيئة مخصوصة جعل لها أصحابها رؤية مميّزة تصدر عنها وتتحرّك وفقها، وتحوّلت بفعل التقليد والمحاكاة تراثا ثقافيّا. ومن ثمّ تقلّصت الأبعاد المعرفيّة التي كانت مركوزة في طقس السماع، لتحلّ محلّها أبعاد جماليّة أو فنّيّة ومعماريّة...لا تخلو بدورها من طرافة جعلتها مواضيع بحث ودراسة ونظر.

المصادر والمراجع:

-ابن منظور. (د.ت). لسان العرب، القاهرة: دار المعارف.

-الجنابي، ميثم، (2007)، حكمة الروح الصوفي، (ط.2)، سورية- دمشق، بيروت- لبنان، بغداد – العراق: دار المدى للثقافة والنشر.

-السرّاج الطوسي، أبو نصر، (1960)، اللمع، (عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، تحقيق وتقديم)، مصر: دار الكتب الحديثة- بغداد: مكتبة المثنّى.

-السهروردي، شهاب الدين، (د.ت)، عوارف المعارف، (عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، محقّق)، القاهرة: دار المعارف.

-القشيري، أبو القاسم عبد الكريم، (2001)، الرسالة القشيريّة في علم التصوّف، (معروف مصطفى زريق، محقّق)، (ط.1)، صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة.

-الكلاباذي، أبو بكر محمّد بن إسحاق، (1993)، التعرّف لمذهب أهل التصوّف، (خالد زهري، محقّق)، (ط.1)، بيروت- لبنان: دار الكتب العلميّة.

-المكّي، أبو طالب، (2001)، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريدإلى مقام التوحيد، ( محمود إبراهيم محمّد الرضواني، محقّق)، (ط.1)، القاهرة: مكتبة دار التراث.

-نيكلسون، رينولد، (1951)، الصوفية في الإسـلام، (نور الدين شريبة، مترجم)، القاهرة: مكتبة الخانجي.

-الهجويري، أبو الحسن، (1980)، كشف المحجوب، (إسعاد عبد الهادي قنديل، دراسة وترجمة وتعليق)، بيروت: دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر).