"الهيمنة الناعمة" وانشطار الذات


فئة :  مقالات

"الهيمنة الناعمة" وانشطار الذات

"الهيمنة الناعمة" وانشطار الذات

من الصعب التيقن من الآثار المباشرة وغير المباشرة لمبدأ القوة أو مبدأ الغلبة والقهر في العلاقات الاجتماعية، بوجه عام، وفي العلاقات بين الرجال والنساء، بوجه خاص، في مجتمع لديه خبرة تاريخية في التستر على عيوبه ومثالبه، وإعادة إنتاجها بلا كلل. ومن الصعب كذلك، تبين جميع أشكال العنف في المنازل والمدارس والمعامل والمؤسسات العامة والخاصة. معظم الناس يقولون بعفوية خالصة: "تعب البال"، أصعب من تعب البدن، الثاني يزول بالاغتسال والراحة، فما الذي يمكن أن يزيل الأول؟ هذه العفوية لا تدرك أن تعب البال هو تعب البدن ذاته، ولكنه أعمق غوراً وأشد مضاضة وأكثر دواماً من التعب الناجم عن عمل شاق، بل لعل العمل الشاق يهدهده قليلاً أو كثيراً، فيسكته إلى حين.

والأصعب من ذلك كله تبين مدى الشقاء الجنسي، على وجه الدقة والضبط، الشقاء الذي قد يفسر كثيراً من الظواهر، في ضوء علاقات القوة، الظاهرة والخفية وعنف السلطة، لندرة الدراسات والاستطلاعات والبحوث الميدانية ومواربتها. فقلما ينطلق الكتاب والباحثون عندنا من أولوية أسئلة الحياة وأشكالها الظاهرة على المبادئ النظرية والمعايير الأخلاقية؛ وقلما يراجعون المبادئ والمعايير على الواقع المعيش والتجارب الحية والوقائع العارية ومنطق الحياة. وقلما يتساءلون عن جذور "العنف الاجتماعي" الصادر عن أرواح مكبوتة ومحرومة، أو عن حرمان يراكم الكبت، قبل أن يطلقه عنيفاً وقاسياً، يحول الحياة إلى جحيم، والمستقبل إلى أحجية"، بتعبير فيصل دراج[1].

العنف هو العنف، مادياً كان أم رمزياً، تمتد جذوره إلى نرجسية فردية وجماعية أو مركزية إثنية أو مذهبية، هي مركزية ذكورية، تولد أشكالاً شتى من العنصرية. ولا فرق هنا بين عنصرية غالبة وأخرى مغلوبة، سوى في الغلبة والمغلوبية، وهما دول بين الناس، فالعنصرية هي العنصرية أيضاً. والوعي الذي تولده لا يرتد إلى "جوهر إنساني" عربي أو إسلامي، مثلاً، بل إلى شروط حياة جافية، بلا روح، وآلهة متقلبة المزاج في اختيار شعوبها.

العنصرية، بما تنطوي عليه من تطرف وأصولية، وما تنتجه من عنف سافر أو مكبوت، هي التعبير الجلي عن هوية فردية وجماعية مأزومة. تتجلى أزمة الهوية الفردية في اضطراب الهوية الجنسية، للذكور والإناث، وتَشوُّشِها واضطرابها، جرَّاءَ القهر والإذلال، وفي التعبيرات الكاريكاتورية والسلوكيات التعويضية. وتتجلى أزمة الهوية الجماعية في الشوفينية "القومية" والأصولية الدينية المصنَّعتين أيديولوجياً وسياسياً، على نحو تغدو معه كل منهما عقيدة "إلهية"، تخفي شقاء الذات وانشطارها، والمروَّجتين إعلامياً، على نحو تغدو معه كل منهما عنواناً لـ "ثقافة جماهيرية" عامة، واللتين تمنح كل منهما نفسها حق وضع المبادئ والمعايير وفرضها على المجتمع بالحديد والنار، إن لم يفلح الإقناع، لا النقاش والحوار.

قلة من الناس يدركون أن غاية الحوار لا يجب أن تتجه إلى الإقناع، فإن محاولات "إقناع الآخر" تنطوي دوماً على إرادة العنف والقسر، وتحوِّل الحوار والنقاش إلى مجرد سجال، لا يعدو كونه تلاعباً بالعقول واستثارة للغرائز، وهو مما يمارسه الإعلام الجماهيري.

ولما كانت السلطة، المادية والمعنوية، أو الرمزية، علاقات قوة، خشنة وناعمة، فمن غير المنطقي تصور سلطة لا تقابلها معارضة ومقاومة، (هي سلطة مضادة)، أو قوة لا تقابلها قوة مكافئة أو غير مكافئة. فلا يتأتى عنف إلا من فائض القوة، الذي يتعدى حدود التكافؤ، ومن شروط إمكانه، المادية والمعنوية، في المجتمع المعني. فإذا كانت السلطة المادية تتركز في الأمر والنهي والسيطرة والإخضاع والتصنيف والتوزيع والمراقبة والعقاب وكل ما من شأنه أن يدرأ عنها الموت والفناء، فإن السلطة المعنوية ناعمة ورهيفة، تسري في الجسد المذكر والمؤنث من دون أن يشعر بها.

لكل من السلطتين أشكال متفاوتة في القوة واللين والوضوح والإبهام، تنبثق من واقع اللاتكافؤ واللامساواة واللاعدالة في الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومن الشقاء و"تعب البال" خاصة. لكن للسلطة الرمزية فعل مُنيِم أو منوِّم، يشبه فعل السحر، أو التنويم المغنطيسي. فهي، بعنفها الرمزي وطابعها المخدِّر والمنوِّم تتغلغل في أعماق الذات، وتلامس أوتارَها الأولية، البادئة بإدراك الموت، فترقص الذات النائمة على هذا الإيقاع المميت، أو المعطِّل لقوى النفس أو الروح، فتتقمص الذات نفساً أخرى وروحاً آخر، وتسقطهما على مثلها الأعلى، فتغدو هي هو، نفسياً وذهنياً وأخلاقياً، والرُّسابة المتبقية، بعد هذه العملية تستغرقها الرغبة. أي إن الذات تنشطر شطرين: أحدهما تقيمه الرغبة، والآخر يقيمه المثل الأعلى الخارجي والمخارج للذات. هذا الانشطار هو ما يولِّد جميع المفارقات. ولا يلتقي الشطران ولا يندمجان إلا في حال ممارسة العنف والإرهاب.

من هنا، لا يتأتى عنف إلا من تشييء الإنسان واعتباره موضوعاً خارجياً لذات نرجسبة ووسيلة لغايات هذه الذات المريضة ومآربها، وأداة لسيطرتها على أخريات وآخرين. الانشطار المشار إليه يطرح ضرورة إعادة التفكير في التربية والتعليم والتلقين الأيديولوجي. فقد استيقظ كثيرون من الدعاة الأيديولوجيين في سوريا على واقع أن مظاهر الانحطاط الأخلاقي المخجلة، التي برزت في أثناء الحرب، ولا تزال سارية، هي نتيجة ما زُرع في رياض الأطفال والمدارس والمعاهد والجامعات ومؤسسات التلقين الأيديولوجي، ولا سيما الأحزاب العقائدية وتنظيمات الواجهة، وأن التربية الدينية، بوجه خاص، لم تكن قط تربية أخلاقية.

لاحظ بيير بورديو أن "العلاقات (بين الذكور والإناث) هي الأقل تحولاً مما توحي به الملاحظة السطحية، وأن معرفة البنى الموضوعية والبنى المعرفية لمجتمع المركزية الذكورية المحفوظ جيداً .. توفر وسائل تسمح بفهم بعض السمات الأكثر تستُّراً مما هي عليه هذه العلاقات في المجتمعات المعاصرة الأكثر تقدماً اقتصادياً، فإنه يجب عندها أن نتساءل عما هي الآليات التاريخية المسؤولة عن نزع التاريخانية والتأبيد النسبيين لبنى التقسيم الجنسي ومبادئ الرؤية المتناظرة .. فإن ما يبدو ثابتاً ومستمراً في التاريخ ليس سوى نتاج عمل تاريخي تمارسه مؤسسات مترابطة، كالعائلة والمعبد والمدرسة والدولة، وكذلك الرياضة والصحافة، وكلها تحتاج إلى أن تحلل في خصوصياتها التاريخية، من أجل إدخال العلاقات بين الرجال والنساء في مجال الفعل التاريخي[2].

الهيمنة الذكورية والطريقة التي تُفرَض بها، والطريقة التي تُحتمَل بها، هي المثال الأكثر تعبيراً عن ذلك الخضوع المفارق، بما هو أثر للعنف الرمزي، ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهن، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً بالجهل والاعتراف أو بالعاطفة حداً أدنى"[3]. السلطة الناعمة، التي تمارس على الذكور، أو الهيمنة، بتعبير غرامشي، تؤدي إلى النتائج نفسها، التي تؤدي إليها الهيمنة الذكورية على الإناث.

السلطة الرمزية، كسلطة الشيخ على المريد، والمعلم على المتعلم، والرئيس على المرؤوس و"الكبير" على "الصغير" و"الأعلى" على "الأدني" أو الفوق على التحت، حتى الصديق على صديقه أو صديقته .. هذه كلها أشكال للسلطة الذكورية، التي تمارس على الأجساد مباشرة، خارج كل إكراه جسدي، كما يفعل السحر. لكن ذلك السحر لا يعمل إلا إذا استند إلى استعدادات مودَعَة كمحركات في أعمق أعماق الأجساد. نلحظ ذلك تحديداً في علاقات القرابة وكل العلاقات المصممة بحسب هذا النموذج، حيث تعتبر هذه الميول الثابتة للجسد المُنشأ (المطبَّع) اجتماعياً، وتعاش في منطق العاطفة، (الحب البنوي والأخوي ..) أو في منطق الواجب، والتي غالباً ما تختلط بتجربة الاحترام والتفاني العاطفي، وتستطيع البقاء طويلاً عند اختفاء شروطها الاجتماعية[4].

هذا لا يعني أن النساء يستسغن الهيمنة المفروضة عليهن، وأنهن مسؤولات عن استعدادهن لتقبل الهيمنة أو عن قابليتهن للهيمنة، (كالقابلية للاستعمار عند مالك بننبي)، ولا الرجال كذلك، بل إن هذه الاستعدادات نتاج بنى موضوعية موسومة بالهيمنة الذكورية تأصلت في الأجساد على مر العصور. فإذا لم نستوعب الآثار الثابتة التي يمارسها النظام البطركي، الذكوري، على الأجساد، لا يمكننا فهم الخضوع المفتون الذي هو أثر خالص من آثار العنف الرمزي. إن الاعتراف بالحدود السحرية بين المهيمنين والمهيمن عليهن، التي يثيرها سحر السلطة الرمزية، تسهم من خلالها المهيمنُ عليهن من دون علمهن غالباَ وضد مشيئتهن أحياناً في تمرير الهيمنة من خلال قبولهن الضمني بالحدود المفروضة، وكذك المهيمن عليهم من الذكور. نستحضر هنا كتاب "الشيخ والمريد"، لعبد الله حمودي، وننوه بأهميته.

الشيخ، في مقاربة عبد الله حمودي، هو الأب البيولوجي أيضاً، والأب الرمزي والمعلم والمدير والقائد السياسي والزعيم والداعية .. وكل من يتخذه المتلقي وتتخذه المتلقية مثلاً أعلى مخارجاً، لا يخلو أن يكون تافهاً وجاهلاً وفاسداً. ألا يخطر في البال كيف يفتن شيخٌ أمِّيٌّ أستاذاً جامعياً أو مهندساً أو طبيباً، يتصرف إزاء "شيخه" بأساليب تحقق التواطؤ الجوفي الذي يقيمه الجسد المتفلت من توجهات الوعي والإرادة، والخاضع للرقابات، التي تمارسها البنى الاجتماعية، وهي أشكال من الصراع الداخلي وانشطار الأنا؟[5].

[1] - من مقدمة فيصل دراج لكتاب بيير بورديو، بؤس العالم، الجزء الأول (الرغبة في الإصلاح)، ترجمة محمد صبح، مراجعة وتقديم فيصل دراج، دار كنعان، دمشق، 2010، ص ص 5 - 6

[2] - راجع/ ي، بيير بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، المؤسسة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 12.

[3] - بورديو، المصدر السابق، 16

[4] - بورديو، المصدر السابق، ص ص 67 - 68

[5] - بورديو، المصدر السابق، ص 67، بتصرف