بشير خليفي: الحوار الحضاري وتجسير العلاقات الثقافية الإنسانية


فئة :  حوارات

بشير خليفي: الحوار الحضاري وتجسير العلاقات الثقافية الإنسانية

 حوار مع الباحث والأكاديمي الجزائري الدكتور بشير خليفي:

الحوار الحضاري وتجسير العلاقات الثقافية الإنسانية


الدكتور بشير خليفي، واحد من الباحثين الأكاديميين الشباب الواعدين في حقل الدراسات الفلسفية، اشتغل بالفلسفة المعاصرة، خاصة الفلسفة التحليلية والفلسفة الأمريكية المعاصرة، وقد تمركزت اهتماماته العلمية على وجه الخصوص في مشكلات فلسفة الدين ومسائلها (الدراسات القرآنية، حوار الأديان والحضارات، الإسلام والغرب)، وفلسفة اللغة وفلسفة الأدب. بالإضافة إلى اهتماماته العلمية العامة والتي تدور حول منهـــجية البحث وطرائق التدريس، مشاريع النهضة الفكرية، الفلسفة النسوية، الفلسفة القارية وقضايا النقد الأدبي.

يعمل الدكتور بشير خليفي أستاذًا محاضرًا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة معسكر بالغرب الجزائري، يشرف على العديد من الهيئات العلمية كرئاسة المجلس العلمي للكلية، بالإضافة إلى تأطير العديد من المشاريع العلمية والبحثية، منها تخصص ماستر فلسفة عامة، وتخصص دكتوراه الدين واللغة في الخطاب الفلسفي، وتأطير وحدات بحثية منها: رئيس فرقة في المشروع الوطني للبحث بعنوان الدين في الجزائر من خلال الدراسات الإسلامية والاستشراقية.

 شارك الدكتور بشير خليفي في مجالات اهتماماته البحثية في كثير من الملتقيات داخل الجزائر وخارجها (تركيا، فرنسا، المملكة العربية السعودية، مصر، الأردن...إلخ). له العديد من الإسهامات البحثية والمقالات المنشورة في مجلات مُحكَمَة، على غرار: مؤلفه الفلسفة وقضايا اللغة، قراءة في التصور التحليلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1/ 2010.

وكذا مؤلفات مشتركة، مثل:

العدالة والإنسان، منشورات مخبر الأبعاد القيمية في الجزائر، إشراف: د. بومدين بوزيد، دار آل رضوان، ط 1/ 2008./ التسامح: الفعل والمعنى، إشراف: د.عبد القادر بوعرفة منشورات مخبر الأبعاد القيمية في الجزائر، دار القدس العربي الجزائر، ط 1/ 2010/ حوار الفلسفة والعلم، إشراف: د. نابي بوعلي، منشورات ضفاف- بيروت، دار الأمان- الرباط، منشورات الاختلاف- الجزائر، ط 1/ 2012./ الأمير عبد القادر: عبقرية في الزمان والمكان، تنسيق: أ.د بوغوفالة ودان، منشورات مخبر البحوث الاجتماعية والتاريخية، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر، الجزائر، ط1، 2015.

توطئة:

يدور هذا الحوار حول إحدى مشكلات الفكر الإنساني المعاصر ألا وهي حوار الحضارات، حيث تركز حول المفهوم بمختلف أبعاده، رؤى المفكرين العرب والمسلمين ومواقفهم، واقع هذا الحوار ومآلاته، الحوافز والعوائق، أفقه ومستقبله. ولعمق التحليل ودقته التي تميز بها الحوار سنلجأ إلى شطره إلى جزأين.

خالد عبد الوهاب: تعد فكرة حوار الحضارات من المفاهيم الأساسية التي انتهى بها القرن العشرون الميلادي، حيث أصبحت تحتل مكان الصدارة في قائمة الاهتمامات لدى العلماء والنخب الفكرية والسياسية، ومراكز البحوث المختلفة والمؤسسات الدولية. في رأيكم بم تبررون تنامي هذا الاهتمام بحوار الحضارات؟

الدكتور بشير خليفي: يمكن القول بأنّ القرن العشرين هو قرن المفاهيم بامتياز، من خلال البحث عن المعنى، معاني الأشياء والأفكار، وقد انبرى عدد من المتفلسفة والمدققين والمثقفين لتجلية المفردات سواء من خلال تأليفهم لقواميس متخصصة، أو الاشتغال على طرائق تجلية المفهوم على المستوى الينبغياتي كما فعل جيل دولوز وجيل غاستون غرانجي وغيرهم... هذه مسألة نظرية تفصيلية.

ومن ثمة لا مجال للتعاطي مع حوار الحضارات دون إدراكه بوصفه مفهومًا، أي من حيث معناه، هذا زيادة على مقتضيات المعنى التي تحيل على التطبيق، ومن ثمة فحصه وتقفيه تبعًا للمراحل التاريخية زيادة على البحث في الفلسفات والرؤى التي تناولته بالاستقصاء والتحليل.

إنّ مرد الاهتمام بحوار الحضارات عائد بالأساس إلى وصفه لغة وفلسفة لفئات غالبًا ما تعاني التهميش، وترى في هذا الطريق بديلاً للتصادم، وبلغة أوضح بديلاً للحروب والكراهية. أو لفكرة الصدام التي أثيرت من لدن صمويل هنتغتون أو إجمالاً المحافظين الجدد على غرار أرفنج كريستول وريتشارد بيري انطلاقًا من التقسيم الثنائي للحضارات إما بوصفها خيِّرة ومتقدمة أو رجعية وظلامية. وهي الأفكار التي نجد جذورها عند المفكر البريطاني إدموند بيرك والألماني ليو ستراوس.

ومن ثمة، فإنّ الحوار الفعلي والحقيقي والهادف بين الحضارات والثقافات المبني على احترام الخصوصيات ومراجعة المثالب يعد المدخل الرئيس للتعايش المشترك. لا يعني ذلك الاستغراق في خطاب مجرد بقدر تجسيد ذلك عبر الممارسة، وهي الممارسة التي ينبغي أن تقوم بها مؤسسات التنشئة الاجتماعية ممثلة في الأسرة، المدرسة والمجتمع.

إنّ الاهتمام بحوار الحضارات والثقافات والأديان يعد إجابة صريحة وممارسة فعلية لمختلف خطابات الكراهية، وهي في الوقت عينه تدعيم لآدمية الإنسان ضد مختلف أساليب الحقد والخروقات المختلفة. لِنَنْظُر إلى عالم اليوم: حسبي أنّه كان يمكن تلافي عدد لا يستهان به من الأزمات والحروب لو أطلقنا العنان للتواصل والحوار والاعتراف، داخل الحضارة أو الثقافة الواحدة منطلقًا أوليًّا لكي تؤثث الحضارة نفسها وتعالج مشكلاتها وأزماتها في إطار التنوع والتعدد الثقافي ضمن الهويات المنفتحة المؤسسة على الاغتناء بالإضافات، ليبدأ بعد ذلك الحوار البَيْنِي بين الحضارات، إذ لا يمكن أن يحقق الحوار الحضاري فاعليته وجدواه في ظل تأزم عنيف داخل الثقافة الواحدة.

خالد عبد الوهاب: لقد أصبحت الدعوة إلى حوار الحضارات في الوقت الراهن واحدةً من أكبر الإشكاليات المطروحة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حيث أفرزت العديد من المشكلات الجديدة، وجددت طروحات أخرى قديمة، لعل أهمها: العلاقة بين الخصوصية والكونية، ومفاهيم الهوية، وقضية النقد الذاتي، والعلاقة مع الآخر. فأصبح الحوار في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، يحمل في طياته الكثير من التساؤلات. فهل هناك تجانس بين الخطاب العربي والإسلامي في النظر إلى الحوار بين الحضارات؟ وكيف حاول هذا الخطاب تقديم ذاته (الأنا) في الحوار؟

الدكتور بشير خليفي: أولاً يجب الاعتراف أنّ المسألة غير خاضعة لدعوات نظرية فحسب، ومادمنا نتحدث عن حوار حضارات، فإنّه ينبغي التأمل أولاً في ما تعنيه الحضارة هل تحيل إلى الثقافة بوصفها كلاًّ مركبًا، أم تشير إلى اللحظة المتقدمة في الثقافة فكريًّا وماديًّا، ومن ثمة تُستثنى المجتمعات المتخلفة من عملية الحوار مستذكرين هنا لغة الغالب والمغلوب التي تحدث عنها عبد الرحمن بن خلدون. ومهما يكن فإنّ المشكلات المعاصرة المعقدة اقتضت ضرورة وجود الحوار، ومثال ذلك وضعية الجالية المسلمة في الغرب أمام تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، وأحيانًا عدم تحقق مبدأ المواطنة لصالح الانتماء الديني مثلاً. لذلك عمد الغرب بوصفه حضارة لتأسيس جامعات ومراكز بحث غرضها الأساس محاولة فهم الآخر ودراسته ثقافيًّا: دراسة دينه، لغته، عاداته وتقاليده....

لكن الملاحظ هنا أنّ عملية الحوار غير متكافئة لأنّها تقتضي النِدية وتشترط الاحترام المتبادل وتستدعي الصدق والمقصدية. لكن في ظل غياب هكذا معطيات في خانة ثقافة واحدة يبدو الحوار جملة إملاءات من الجهة القوية، أنا هنا لا أتحدث عن الحوار الحضاري أو الثقافي لغايات علمية وأخلاقية فحسب، مثلما نجده أثناء السعي للتقريب بين المذاهب والديانات، وإنّما بوصفه حالة كونية مستمرة في عديد المجالات.

إنّ دخول المجتمعات العربية والمسلمة في حوار حقيقي للحضارات يستلزم بالضرورة تحقيق الوعي الحضاري، من منطلق القدرة على إحداث فلسفة مُطبقة تأخذ على عاتقها تحقيق متطلبات التقدم وسُننه الكونية. في ظل واقع قاتم أرمض أرمد يحتفي بالمعطى والجاهز، ويعطل الفهم والممارسة. لذلك يصعب على الذات العربية والمسلمة تقديم أناها المتفرد الناتج عن هوية منفتحة وعن اغتناء بكل ثقافات الطيف الحادثة ضمن المعطى التداولي والسياق المجتمعي في إطار عملية التثاقف والحوار الحضاري، لأنّ هذه المجتمعات تعيش أزمة هوية حقيقية، الأمر لا يتعلق بحالات فردية منعزلة بقدر اعتبار ذلك توصيفًا اجتماعيًّا يعد مظهرًا عامًا، قد يتخذ أحيانًا طابع الوصاية في فرض نموذج هوياتي محدد سلفًا لا يملك الفرد إزاءه أي حرية في الفاعلية والانتقاء.

إنّ عدم قدرة كثير من هذه الشعوب على تحقيق التنمية المستدامة والاستقلالية الاقتصادية، إضافة إلى الوضعية الثقافية المتردية من جراء ضعف الاستثمار في الإنسان بوصفه القيمة الثقافية الحقيقية، أدى بالضرورة إلى تعذر وجود تجانس مجتمعي يعطي لثقافة المواطنة حقها، في ظل معاناة مستمرة يؤججها الواقع المتخلف في عدم القدرة على صناعة الحضارة، وكذا للحدية الحاصلة حينما يتعلق الأمر بسؤال الهوية، فإمّا انعزال واحتفاء بالمظان والأصول ومن ثمة اغتراب على مقتضيات العصر، أو بالمقابل إيثار للوافد واحتفاء بالثقافة الاستهلاكية بما يؤدي في كلتا الحالتين إلى الاغتراب والتقليد بما لا يتواءم مع مقتضيات الواقع والحاضر.

في ظل هذا الواقع الأسيف يجد الخطاب المعرفي نفسه، مستغرقًا في التنظير دون إرادة منه، وفي أحيان عديدة يُعبر عن جهود فردية وأحيانًا عن اجتهادات خاصة يقوم بها متخصصون ومجتهدون ضمن إطار منظوماتهم المعرفية الخاصة وإلمامهم بمقتضيات التواصل وأصول الحوار كما هو حاصل في مختلف الاجتهادات المعرفية. وأحيانًا قد يكون للحوارات الأكاديمية والثقافية وقعها في تجسير الهوة ومن ثمة البحث في العلاقات الممكنة فضلاً عن الكائنة بين الشعوب. بيد أنّ حالة واحدة لفعل إجرامي عنيف يُسوّق إعلاميًّا قد يتسبب في التشكيك في جدوى العملية برمتها.

خالد عبد الوهاب: لقد شهدت الساحة الفكرية العربية والإسلامية، تصاعد وتيرة الاهتمام بالحوار تنظيراً وتأسيساً من خلال جهود فردية أو مؤسسات أخذت على عاتقها دعم مشروع حوار الحضارات. فأنتج العديد من الخطابات داخل هذه الدائرة بين خطاب ليبرالي وماركسي وإسلامي وغيره. ومنه فالسؤال الذي يثار هنا هو: من يحاور الآخر؟ وماهي منطلقات الحوار ومرجعياته؟

الدكتور بشير خليفي: تجدر الإشارة إلى أنّ الحوار ليس غاية في ذاته، وعادة يقوم به من يرغبون في ذلك ويرون فيه المقصد الأساس المفضي للتعاون والتعايش المشترك، أما الرافضون فلهم أساليبهم المتنوعة، بدءًا بما هو ثقافي يبرز ذلك عبر الكتابات والتحليلات، وكذا الإبداعات الفنية والسينمائية وصولاً إلى حالات الصدام العنيفة التي تبرز حديتها في أعمال العنف والحروب.

لا يحيل الحوار إلى محادثة بصيغة سؤال وجواب، بقدر اعتباره عملية تعارف وتثاقف بغرض إغناء الهوية في إطار الكونية المنفتحة. الحوار ليس مسرحية معدة سلفًا وإنّما فعلاً واعيًا قد يتجسد عبر مختلف التعاملات والتفاعلات اليومية، أحيانًا بوصفه تصرفًا حضاريًّا وسلوكًا إنسانيًّا في تمثل القيم الأخلاقية الإنسانية من حق، خير وجمال يمكن أن يؤدي فاعليته أكثر من أي خطاب معرفي يستغرق في التنظير ويتوقف على النخبة.

وبالفعل كما يحيل سؤالكم إنّ الحوار ينبغي أن يكون بيْنِيًّا في مقام أول، أقصد بين مختلف الألوان المكونة للطيف داخل الثقافة الواحدة.

إنّ أصل المشكلات التي تعاني منها الثقافة الإسلامية تكمن في غياب كلمة السواء المتأتية بعد نقاش وحوار واحترام وتسامح واقتناع بضرورة العيش المشترك، وفي ظل الانزواء الذي أحدثته بعض الدول الوطنية من خلال تنشئة الشباب على تبجيل الانتماء إلى الوطن على حساب مختلف عناصر الانتماء الأخرى، وفي ظل سمة الفئوية وتعدد الفرق والمذاهب التي أصبح الإسلام يُربط بها، أضحى من العسير الحديث عن إسلام في إطار الكينونة والعالمية دون ربطه بانتماء مذهبي، هذه المعطيات تُعسر دخول العرب والمسلمين في حوار فعّال مع الثقافات الأخرى، لأنّ من يمثل الحوار ويتمثله ينبغي أن يكون ممثلاً لمختلف الثقافات الفرعية ضمن إطار هذا الكل. ثم إنّ الحوار لم يعد دينيًّا فحسب، حيث يتعدى لمختلف الضرورات والمستجدات، أما منطلقاته ومرجعياته فهي مرتبطة بالخصوصية الثقافية المنفتحة التي يمكن أن تُحقق الإضافة. خذ مثلاً حينما نتحدث عن موضوعة الإسلام والغرب، تحديدًا الحوار الذي يحصل بين الجالية المسلمة والحكومات الغربية، إذ أنّ التشرذم الحاصل في الجالية والانتماءات الضيقة غالبًا ما يُصعب إيجاد الأطراف التي تحقق الإجماع ومن ثمة إمكانية تمثيل مختلف أطياف الجالية المسلمة.

خالد عبد الوهاب: انطلاقًا من اتفاق الخطاب العربي والإسلامي حول رفض الهيمنة الغربية على العالم، ورفض تعالي الغرب ومركزيته. وكذا رفض تشويه الإسلام ونعت العرب والمسلمين بشتى النعوت خاصة بالتطرف والإرهاب. فإنّ هذا الخطاب لا يزال مضطرباً في فهم الآخر (الغرب) وفي صياغة الأسلوب الأنجع في التعامل معه، وبالتالي التواصل معه. في نظركم أستاذي الفاضل، كيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟

الدكتور بشير خليفي: لا ينبغي أن ننكر مختلف الجهود والاجتهادات التي سعت إلى تقديم الإسلام وفق حقيقته وغاياته، وذلك بتقديمه بطريقة إنسانية حضارية، ومن ثمة الحديث عن إمكانية التعايش مع المختلف والمفارق، وينسحب الأمر بأقل حدة حينما نتحدث عن الخطاب العربي أو عن الوعي العربي وفق خصوصياته التي تحدث عنها محمد عابد الجابري على سبيل المثال. بيد أنّه من اللازم الانتباه إلى مسألة بالغة الأهمية تتعلق بالتصنيف، فالآخر ليس واحدًا من زاوية التنوع الحاصل على صُعد مختلفة بما في ذلك الجانب الديني واللغوي، وبالمقابل فإنّ الحديث عن أنا واحدة نهائية مؤبدة أمر لا يتماهى والواقع. لننظر مثلاً إلى مختلف الفهومات التي يحيل إليها الإسلام، أو بالأحرى مسألة الفهم والممارسة، لنقارن مثلاً بين الإسلام في الفضاء العربي والآخر الأندونيسي أو الماليزي، أو حتى ضمن الفضاء الغربي، حيث أنّ لطبيعة الفهم حضورها الأبرز الذي يتجسد في المعاملات والعبادات.

أو لننظر إلى الإسلام في الغرب، أو إلى الاختلاف الحاصل بين فهومات مفكري الإسلام، كيف يتصور المفكر التونسي محمد الطالبي مثلاً مسألة الحوار والتعايش وكيف يتصورها المفكر المصري محمد عمارة. يتعلق الأمر بتنشئة فكرية وبقناعات معرفية تفرض حضورها، بطبيعة تصور الأشياء، فالباحث الذي تشبّع بالدارسات الإنسانية والاجتماعية ونهل المناهج القرائية والنقدية وفق مقاربة تخاصصية، ستختلف مقاربته عن باحث آخر ينظر من زاوية محددة. الأمر لا يتعلق بزاوية الفقه على الرغم من ضرورته، هنا تتآزر المعرفة بالجمال والقيم والاقتصاد وعديد المقاربات المطلوبة لتشكل رؤية تعقد العزم على تجديد أطرها وآلياتها كلما دعت الضرورة لذلك.

إنّ إصلاح عوار الخطاب المعرفي رهين بإصلاح ذات الحال، ببعث القيم الإنسانية واستنهاض قيم من قبيل المعاملة الحسنة، إتقان العمل، المحبة، الصدق، التسامح...، إذ ما الفائدة من خطاب رصين ومتماسك منطقيًّا في ظل واقع متخلف؟ ما الفائدة من الاستفاضة في الحديث عن التسامح في ظل واقع عنيف؟ يجب أن نتصالح أولاً مع ذواتنا، مع الآخر الذي قد يكون أنا وقد يكون غيري في تنوعه وتعدده، المصالحة والمصارحة ينبغي أن تبدأ ضمن الثقافة المحلية ليحدث الانزياح وصولاً إلى ثقافة كونية. هو بالفعل مشروع طويل لا تتخلله إلا الصعاب لكنّه حتمي، يبدأ بإصلاح أساليب التنشئة الاجتماعية وبإيلاء التعليم أهمية بالغة وصولاً إلى دمقرطة الحياة الاجتماعية وتفعيل مبادئ حقوق الإنسان. كما يتوقف الأمر على فتح باب الاجتهاد والمراجعة، وفتح نقاش مجتمعي لتداول مختلف الأزمات التي يعاني منها المجتمع ومناقشتها، ولن يكون ذلك دون تقديس لعاملي العلم والعمل، هنا أستذكر موقفًا بالغ الدلالة والبلاغة للمفكر الجزائري الشيخ البشير الإبراهيمي حين يقول: "إنّ الله لا يستجيب للمسلمين بفعل دعا يدعو دعاء ما لم يسبقه فعل أعد يعد إعدادًا، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)." (سورة الأنفال: الآية 60).

خالد عبد الوهاب: من نماذج الخطاب العربي المعاصر، محمد أركون الذي يقيد الحوار والتواصل بشرطين، إذ يرى أنّ التواصل بين الطرفين لا يتم إلا إذا تخلى كل طرف عن أحكامه القطعية، فإنّ الأوروبيين بحاجة في رأيه إلى التخفيف من علمانيتهم المتطرفة، والمسلمين بحاجة إلى التخفيف من دغمائيتهم المتطرفة. فهل هذا كاف لضمان التواصل بين المسلمين والغرب؟

الدكتور بشير خليفي: أولاً العلمانية الأوروبية ليست واحدة وإن تشابهت وتقاطعت في أسسها وملامحها، العلمانية في بريطانيا تختلف - مثلاً - عن الحاصل في فرنسا وفي هولندا. من زاوية أخرى أشاطرك القول بضرورة التنازل أثناء الحوار درءًا للتعالي وتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، دون أن يعني التنازل تفريطًا وفقدانًا للخصوصية الثقافية. لا يعني بالضرورة حينما يتحاور المسلم مع المسيحي مثلاً أنّ المسلم سيفقد إسلامه، الحوار ليس دينيًّا على الدوام على الرغم من أنّ الدين أصبح يشكل العنصر الأساس في تشكيل الوعي، قد نتحاور في الفلسفة مثلاً، قد نتحاور في المنجزات الروائية والشعرية ضمن إطار ما يسمى بالأدب المقارن. وباختصار وإجمالاً في كل ما يمكنه أن يحقق لنا عيش مشتركًا في إطار عال من الكرامة والسعادة.

المشكل في زمننا المعاصر أنّ الجهات المتزمتة أصبحت تعتلي الصدارة ويُلتفت إليها إعلاميًّا لأنّها تحقق الإثارة، لقد ارتبط كل شيء أو هكذا يبدو بمنطق الربح والخسارة، وصولاً إلى ما يسمى بـ: "سلعنة القيم". والواقع أنّنا اليوم نرزح تحت طائلة نظريتين متطرفتين، الأولى نظرية المحور قسمت العالم إلى محوري خير وشر، والثانية نظرية الفسطاط قسمته إلى مؤمنين وكفرة، في حين تبقى الأصوات المعتدلة مخبوءة وخافتة لا يلتفت إليها إلا لمامًا، أمام مئات حوادث العنف التي تتناسل يوميًّا وتستجلب معها فيضًا من التحاليل بما يعيق تقارب الثقافات ويؤجج العداء والكراهية.

في هذا الإطار - وكما تفضلت - يُعد الاجتهاد المعرفي لمحمد أكون واحدًا من الإنجازات المهمة في هذا المجال، على الأقل بإثارته أسئلة وإعلانه مواقف معرفية تحرك البحيرة الثقافية الراكدة. لقد عمد أركون إلى قراءة أنتربولوجية للظاهرة الدينية وفق مقاربة تخاصصية مستعينًا بالمناهج القرائية والنقدية، محللاً في الوقت نفسه البنى الشعورية واللاشعورية للظاهرة وللمتخيل الديني. لقد أقر أركون -على سبيل المثال- أنّ كثيرًا من وسائل الإعلام داخل الفضاء العربي والإسلامي تُشكل حجرة عثرة أمام تقديم الإسلام وفق مقاربة إنسانية حين اختزلت الإسلام في مجرد أسئلة مرتبطة بثقافة دينية تقليدية لا تنتبه إلى المنجزات العلمية والتحديات المعاصرة، ولا تطرح تلك الأسئلة الجوهرية المفضية لتقدم الإنسان وتطور المجتمع.

إنّه في ذلك يتجه نحو إعادة الاعتبار للعقل الاستكشافي وفق منطلقات روحية إنسانية كي يمارس دوره في البحث والإبداع والاكتشاف، في ما يجب ويمكن التفكير فيه، إلى اللامفكر أو ما يحظر التفكير فيه. وبالمقابل فعلى الثقافة الغربية في نظر أركون أن تتجاوز الحداثة المصرفية التكنولوجية المؤسسة على الاستغلال وتأثير منطق الربح، لصالح رؤية جديدة ومتجددة مؤسسة على مقاربة إنسية روحية تهدف أساسًا إلى إدخال الروح والأنسنة في حقوق الإنسان، بهذا المنطق يمكن للحضارتين أن تباشرا خطواتها الأولى في مسار حوار ثقافي وحضاري رصين يهدف لتحقيق نتائج ذات فاعلية ومصداقية.