جون رولز: لأجل الذاكرة


فئة :  حوارات

جون رولز: لأجل الذاكرة

جون رولز: لأجل الذاكرة(*)

John Rawls: For the Record

حوار أجراه:

صموئيل ر. آيبار Samuel R. Aybar،

جوشوا د.هارلن Joshua D. Harlan،

وون ج. لي Won J. Lee

 


لا شك أن القارئ سوف يجد متنفسا لبعض أسئلته واهتماماته المتعلقة بالفيلسوف الأمريكي جون رولز(1921-2002) في هذا الحوار المتميز والمهم الذي أجرته معه مجلة هارفارد للفلسفة The Harvard Review of Philosophy في 20 مارس 1991 بمكتبه في الجامعة. ولقد تطرق فيه إلى جملة من التفاصيل المهمة التي تلقي الضوء على قضايا عديدة في مساره الفلسفي. لقد تحدث عن اختياره للفلسفة كتخصص أكاديمي في جامعة برنستون، وعن اهتماماته الأولى بالكتابة الفلسفية، وقراءاته المختلفة خاصة ما تعلق بالاقتصاد. كما تطرق إلى مختلف مراحل إنجاز كتابه العمدة في الفلسفة السياسية والأخلاقية؛ نظرية العدالة A Theory of Justice. وما أثاره من نقاشات وملاحظات وانتقادات، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد القاري، ثم التعديلات التي أجراها عليه، والتي أثمرت بكتاب العدالة كإنصاف إعادة صياغة موجزة Justice as Fairness: A Briefer Restatement.، وغيرها من مسائل أخرى.

نص الحوار:

حدثنا عن نفسك. كيف أصبحت مهتمّا بالفلسفة؟

حسنا، لا أعتقد أننا نعرف فعلا كيف نصبح مهتمين بشيء ما أو لماذا. إن ما يمكننا معرفته فقط هو لماذا حدث الشيء ومتى؟ التحقت بجامعة برنستون Princeton وفي نهاية المطاف تخصصت في الفلسفة. في سبتمبر من سنتي الأولى في الجامعة احتل هتلر Hitler بولونيا وطغت الحرب على كل شيء في أوروبا. أمضيت وقتا طويلا وأنا أقرأ عن الحرب العالمية الأولى وعن مسألة الحرب ذاتها. بطبيعة الحال، كلنا في ذلك الجيل كنا نعرف أننا سوف نخوض الحرب عاجلا أم آجلا، ما جعلنا من حيث تجربتنا مع الحرب جيلا مختلفا جدا عن الأجيال الحالية. بقيت في الجيش ثلاثة أعوام من بداية 1943 إلى بداية 1946، حيث قضيت بعض الوقت في المحيط الهادي Pacific وفي غينيا الجديدة New Guinea والفليبين Philippines واليابان Japan. لا أستطيع بدقة أن أقول كيف أثر ذلك فيٌ لكن لا بد أن يكون لذلك تأثير ما. وعندما وضعت الحرب أوزارها عدت إلى جامعة برنستون Princeton كطالب دراسات عليا في الفصل السداسي من ربيع spring term 1946

هل توقعت أن تكون طالب فلسفة عندما التحقت بجامعة برنستون؟

لم أكن أعرف ما سوف أقوم به؛ لقد سبق وأن ذهبت إلى مدرسة كنت Kent School الخاصة بولاية كونكتكت Connecticut. لكن لم أكن قد طوّرت بعد أيّ اهتمام فكري مؤسس بشكل جيد، وفكرت في تخصصات عديدة ومختلفة بما فيها الكيمياء والرياضيات، لكن سريعا ما وجدت أنهما تخصصان بعيدان عني، وفي نهاية المطاف استقر رأيي على الفلسفة.

حدثنا أكثر عن التجارب التكوينية في الجيش؛ هل كانت أفكارك اللاحقة عن العدالة متأثرة أكثر بأفكارك عن المجتمعات التي تواجهها أمتنا أم بمشاعرك عن بنية المجتمع العسكري؟

حسنا، كما قلت سلفا، أعتقد أننا لا نعرف لماذا نقوم بأشياء أو ما الذي يؤثر فينا تحديدا بطريقة أو بأخرى. من الثابت أن معايشتي الحرب لمدة ثلاثة أعوام قد كان لها تأثير مهم، لكني لا أقول أن تلك الأعوام كانت تكوينية على وجه الخصوص. عندما أفكر في وجهات النظر التي تكونت لدي عن الفلسفة أصل إلى الاعتقاد أن مضمونها لا يعزى إلى تجاربي في تلك الأعوام. كثيرا ما فكرت أنه من المؤكد أنه يوجد نوع من العلاقة لكنني لم أكن قادرا على تحديدها. ربما يعد ذلك اعتبارا فاشلا من جهتي. بالطبع، خرجت من الجيش وأنا جد كاره له، شأني شأن الكثير من الناس، ومعتقدا أنه من الأهمية بما كان أن يكون الجيش تابعا للحكومة المدنية، ولا جديد في ذلك.

هل أصبحت مهتما بمجال الفلسفة، عندما كنت طالب دراسات عليا، المجال الذي أصبحت جد معروف فيه في نهاية المطاف؟

حسنا، كنت دوما ومنذ البداية مهتما بالفلسفة الأخلاقية، وكنت مهتما كذلك بالدين لوقت طويل. كانت مدرسة كنت Kent School مدرسة كنسية أسسها الأب سيل Father Sill الذي ينتمي إلى النظام الأسقفي للصليب المقدس، وعادة كان هناك عدة أعضاء آخرين من هذا النظام في المدرسة. كنا نذهب يوميا إلى الكنيسة ومرتين يوم الأحد. يمكنني القول إن المدرسة كانت هيئة طلابية ذات توجه ديني religious-minded تحديدا. لكن لا يمكنك تجنب الدين بكليته لا بد أن يكون لديك نوع من رد الفعل تجاهه.

ما هو مسقط رأسك؟

نشأت في ولاية بالتيمور Baltimore وأمضيت كل شبابي هناك ما عدا فصول الصيف كنت أقضيها في ولاية ماين Maine. وبالطبع، خلال العشرينيات من عمري كنت أمضي معظم العام في المدرسة الداخلية. كان أبي من ولاية كارولينا الشمالية North Carolina. أما أمي، فكانت من عائلة عريقة من ولاية ماريلاند Maryland. إن الكثير من عائلتي كان يعيش هناك وكذلك عائلة حماتي. كذلك ما يزال الكثير من أصدقائي القدامى هناك.

متى بدأت فعلا في التفكير والكتابة اللذين تكللا بكتاب نظرية العدالة A Theory of Justice؟

بَدأتُ تدوين الملاحظات في حوالي خريف 1950 بعد أن أنهيت أطروحتي. بحلول ذلك العام كنت قد بدأت بنفسي قراءة بعض الشيء عن علم الاقتصاد. كما حضرت ذلك الخريف حلقة دراسية قدمها و. ج. بومول W. J. Baumol -وهو عالم اقتصاد معروف جدا الآن-. حاولت القيام بأشياء كثيرة. قرأت القيمة ورأس المال Value and Capital ل ج. ر. هيكس Hicks, وحاولت استيعاب الكتاب وكذلك أجزاء من الأسس لصمويلسن Samuelson's Foundations, وبخاصة فصله عن اقتصاد الرفاهية welfare economics الذي قادني إلى مقالات عما يسمى اقتصاد الرفاهية الجديد new welfare economics. حدث هذا عندما كنت طالب دراسات عليا، واستمر حتى عندما أصبحت معلما في جامعة برنستون Princeton لمدة عامين 1950-1952. كذلك قرأت بعضا من كتاب العناصر لولراز Walras's Elements وقرأت قليلا عن نظرية اللعب game theory. ويعد كتاب فون نيومان Von Neumann مع مورغنسترن Morgenstern الذي صدر في 1944؛ أكبر عمل أسس لموضوع نظرية اللعب. كذلك وجدت مقالات عديدة لنايت فرانك Frank Knight حول أخلاقيات المنافسة Ethics of Competition وكانت جد تعليمية؛ فلقد كان مهتما بالفلسفة الاجتماعية قدر اهتمامه بعلم الاقتصاد. حوصلة لكل هذه الأشياء وأخرى في النظرية الأخلاقية وبطريقة ما –لا تسألني كيف- كتبت أطروحتي. من كل ذلك في 1950 -1951 حضرتني الفكرة التي تحولت في النهاية إلى الوضع الأصلي. وتمثلت الفكرة في سن دستور للنقاش تستخرج منه مبادئ معقولة للعدالة. في ذلك الوقت، كان لدي إجراء أعقد من ذلك الذي خلصت إليه في النهاية. وخلال كل ذلك الوقت كان علي تدريس أقسام الفلسفة، لكنني رغم ذلك حافظت على اهتمامي بعلم الاقتصاد قدر المستطاع. بعدها انتقلنا أنا وزوجتي إلى إنجلترا بصحبة ابنتنا ذات العامين لمدة سنة في إطار منحة فولبرايت Fulbright Fellowship.

هل نشرت تلك الصيغة الأصلية الأكثر تعقيدا؟

لا، لم أستطع تطويرها. لقد كانت كلها منسوخة على ورق قديم موجود في مكان ما في البيت، حتى أنه اتخذ لونا بنيا.

هل يمكنك أن تخبرنا قليلا عن تلك الصيغة؟

كما ذكرت سلفا، كانت محاولة لصياغة دستور للنقاش فيما بين الناس، من شأنه أن يجعلهم يتفقون –بالنظر إلى ظروفهم- على ما نعتقد أنها مبادئ معقولة للعدالة. وحتى يتسنى تحقيق نوع من الإجماع يجب على الناس تقديم مقترحات لحاكم مركزي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم يجهلون ما يقترحه الآخرون، وأن للحٌجٌة زمن محدود. توجد الكثير من التفاصيل الأخرى التي يمكنك تصوٌرها. في نهاية المطاف، حسمت كل ذلك بفرض حجاب الجهل وتحديد ما عرفه الناس إلى حد كبير. كذلك جعلت الاتفاق ملزما إلى الأبد؛ ذلك كله كان أداة ضخمة ومُبسّطة مقارنة بالطريقة الأصلية التي كانت ببساطة معقدة جدا. يقينا كان هناك على ما يبدو مشاكل مستعصية على الحل؛ مثلا كم هو مُجهد أن تضغط على الناس من أجل أن يتفقوا -كم من الوقت نمنحهم وأشياء من هذا القبيل- تذكّر أننا نحتاج إلى بعض التبرير الفلسفي لأية إجابة. وتمتلك الصياغة الأخيرة للوضع الأصلي ميزة مثيرة، تتمثل في كونها تتفادى القضايا التي جعلتني أهتم في المقام الأول بفكرة نظرية اللعبة والتوازن العام (مثلا) كما تم استعمالهما من قبل علماء الاقتصاد، وهذه أشياء لم أكن أعرف عنها كثيرا أبدا، ثم خطر لي: 'حسنا، عليّ التخلص من كل هذا'. وبالرغم من أنه يمكن فعلا القيام بذلك بطرق أخرى، إلا أنني أعتقد أن هذا ما كان ينبغي فعله لاحقا. مثلا لم يستعمل الأستاذ سكنلون Scanlon أي شيء من قبيل حجاب الجهل؛ ومع ذلك يوجد تشابه مع الوضع الأصلي (فيما يخص حجته) لكن فكرته حقا مختلفة جدا. إذن يمكن القول إن نظرته تمثل إمكانية أخرى. وكل ما أعرفه أيضا هو أنه يمكن لأحدهم وضع دستور للنقاش يكون أكثر واقعية وينجح، حيث فشلت أنا في رؤية إلى أين نسير. لا أود استبعاد إمكانات أخرى نجحت مثلي في القيام بذلك.

ما هي بعض الفروق الدالة بين كتاب نظرية العدالة وكتاب إعادة الصياغة الموجزة؟

أريد أن يكون كتابي إعادة الصياغة موجزا وفي الآن ذاته ناقلا لكلّ شيء، حتى إن كان ذلك في خطوطه العامة وفي مكان واحد. بالمناسبة أنا أطلقت ذلك العنوان افتراضيا، فهو لا يروق لي، ولكن ليس لديّ أفضل منه في الوقت الحالي. لقد أردت أن يكون كتاب إعادة الصياغة متاحا أكثر ومقروءا أكثر من كتاب نظرية العدالة. أودّ أن يظهر قريبا ولكن لدي أجزاء ما أزال أشتغل عليها. أنا أحاول القيام بثلاثة أشياء؛ أولها تعديل حجة الوضع الأصلي ووضعها في شكل أبسط، ثانيها تصويب الأخطاء الواردة في عرض الكتاب، والرد على مختلف الاعتراضات موضحا سبب رفضي لبعضها، ولكني في الآن ذاته أجريت تغييرات اقتضتها بعض الاعتراضات. وأخيرا محاولة التركيب بين وجهة نظر الكتاب وما دونته في مقالات مذ ذاك.

هل تعد معظم تلك المقالات ردودا على النقد الموجه من قبل الآخرين؟

حسنا، أنا حقا لا أعتقد ذلك. لقد قمت يقينا بالردّ على أسئلة الآخرين؛ ولكن ما أقوم به على وجه الخصوص في هذه المقالات، كما أفهم الآن بعد أن أتممتها–لا نفهم دوما ما نقوم به حتى ننهيه- هو تطوير وجهة نظري، حيث يزول عدم تناسقها الداخلي. لشرح ذلك أقول: لتطوير العدالة بوصفها إنصافا وظفت في الكتاب كله فكرة المجتمع المنظم جيدا، أي الذي يفترض أن جميع أفراده يقبلون النظرة الشاملة ذاتها كما أقول للتو. وخلُصت إلى أن ذلك ببساطة لا يمكن مطلقا أن يكون حال مجتمع ديمقراطي، أي نوع المجتمع الذي تقتضه مبادئ الكتاب ذاته. ذاك ما قصدته بعدم التناسق الداخلي. إذن كان لزاما عليّ تغيير شرح المجتمع الأكثر تنظيما. وهذا ما قاد إلى فكرة إجماع متداخل وما اتصل بها من أفكار. وذلك فعلا ما تناولته المقالات الأخيرة بدءا من المحاضرات الثلاث في مجلة الفلسفة Journal of Philosophy.

بناء عليه أنا لا أعتبر أن هذه المقالات مجرد ردود على اعتراضات الآخرين، على الرغم من أنني أرد على اعتراضات مهمة هنا وهناك وحتى في الحواشي. يستحق النقاد الرد إذا كانت اعتراضاتهم ذات قيمة ويمكن التعامل معها بطريقة معقولة. ويعد ذلك جزءا من التزامنا عندما نلج هذا الميدان. ولكن الهدف الرئيس هو تطوير هذا الجزء الآخر من وجهة النظر، ومن ثم جعلها تتماشى مع وجهة نظر كتاب نظرية العدالة. والتطور في نظري يكون من الداخل؛ أي رأيت أن هناك خطأ، فما كان عليّ بالتالي سوى تصحيحه. عندما بدأتُ تطوير فكرة الإجماع المتداخل والأفكار المتساوقة معها اعتقدت أنها سوف تكون بسيطة بل تافهة. اعتقدت أن فكرة إجماع كهذا واضحة جدا، ولا تشكل أي مشكل؛ لكن اكتشفت أنها أكثر تعقيدا مما كنت أتوقع، وأنا ما أزال لم أنهها تماما. كذلك هي الحال في كتاب إعادة الصياغة Restatement, كما أشرت لقد أردت إدخال بعض التعديلات على الحجة. وفي بعض الحالات، كانت هناك أشياء غير واضحة وفي حالات أخرى هي مجرد أخطاء عادية.

قلت إنك بكيفية ما تشعر أنه من "واجبك" الرد على النقد إذا كنت قادرا على القيام بذلك بشكل معقول؛ ما هو الدور الذي ترى نفسك تؤده بوصفك كاتبا يتحمل تلك المسؤولية؟

حسنا، هناك عدد من الأمور بهذا الشأن. أعتقد أولا وقبل كل شيء أن لديّ التزام بصفتي عضوا في الجماعة الأكاديمية للرد على النقاد إذا أمكن القيام بذلك بشكل معقول وبطريقة ترفع بالمناقشة، كما تجنًب المشاجرات والمشاحنات العقيمة. وهناك ناس يقدمون انتقادات جيدة جدا وهم أهل لأن يرد عليهم. هذا كله جزء من الحياة الأكاديمية. في مجتمع ديمقراطي مثل مجتمعنا -على الرغم من أنه فشل في تحقيق مبتغاه بشكل مخيب للآمال-أرى أن الفلسفة السياسية لا تخاطب الحكومة بل تخاطب المواطنين – أي أناس آخرين مثلك الذين يشكلون جماعة الناخبين. أرى أنه من الأهمية بما كان مواصلة النقاش السياسي في أعمق مستوى، وأن يتم ذلك بأكبر قدر من الوضوح، حيث يكون في متناول الناس عموما. وبهذه الطريقة غير المباشرة، يمكن ربما تغيير وضع المجتمع نحو الأحسن إذا كانت أفكارك مقنعة، أو بصورة أكثر واقعية تحول دون تحول الوضع إلى أسوأ. في ثنايا المجتمع الديمقراطي ليس للفلسفة السياسية بطبيعة الحال أية سلطة، لكن يمكنها بالمقابل محاولة كسب سلطة العقل الإنساني. لا يوجد قاض مؤسّساتي يحدد ما إذا كنت ستنجح في ذلك، بالقدر الذي لا يوجد في العلم ولا في أي بحث عقلي آخر. مع ذلك إن السلطة الوحيدة التي يمكن للفلسفة السياسية الاعتراف بها هي سلطة العقل.

ربما أثرت نظرياتك في الحركات الديمقراطية في أوروبا الشرقية Eastern Europe؛ هل تعرف شيئا عن ذلك؟

حقا لا أعرف، لقد تمت ترجمة كتاب نظرية العدالة Theory of Justice إلى أكبر اللغات الأوروبية؛ لكن لا أعرف كيف أصبحت معروفة على نطاق واسع لدى الأوروبيين الشرقيين. قيل لي إنه تمت ترجمة أجزاء معينة من كتاب نظرية العدالة إلى اللغة الروسية لكنني لم أر ذلك. كما ترجمت أجزاء أخرى إلى اللغة المجرية، وقد يكون هناك جزء مترجم إلى اللغة البولونية، على الرغم من أنني لم أسمع بذلك. وقد ترجمت منذ بعض الوقت إلى اللغات الصينية Chinese, والكورية Korean, واليابانية Japanese.. قال لي أحدهم إنه سمع أن نسخا من الكتاب شوهدت معروضة في ميدان تينمان Tiannanmen Square.

هل كنت تتوقع أن يحقق كتاب نظرية العدالة هذا النوع من القبول الذي حققه؟

لا، من المؤكد أنني لم أكن أتوقع ذلك. وربما ذلك أفضل، لأنني لو توقعت ذلك ما كنت سأقدر على كتابته. أقصد أنني سوف أشعر بالقلق ومن ثم سوف أكون حذرا جدا.

كيف أصبح الكتاب مشهورا؟ لقد نشر في عام 1971 هل أصبح معروفا على الفور؟

هذا سؤال مهم، لكن لست الشخص المؤهل للإجابة عنه. رغم ذلك وللرد على سؤالك، دعنا نُسلًم أن لكتاب نظرية العدالة بعض الاستحقاق، لا أعلم مقداره ولست أنا من يحدد ذلك. تسليما بما سبق، أعتقد أن الكتاب لقي اهتماما نتيجة جملة مترابطة من الظروف. عليك أن تذكر]السياق التاريخي[. حدث ذلك منذ فترة طويلة، أنت ربما لا تتذكر وليس عليك أن تتذكر؟ ولو كنت في مكانك ما تذكرت. كان ذلك خلال حرب الفيتنام وبعدها بوقت قصير حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement. سيطرت كلتا الحركتين على السياسة يومذاك. وبالرغم من ذلك، لم يصدر حديثا أي كتاب ولا أي بحث منظم، إذا أمكن القول، حول مفهوم العدالة السياسية. ولفترة طويلة سادت ندرة نسبية في الفلسفة السياسية-سواء في العلوم السياسية أو في الفلسفة الأخلاقية. لكن مع ذلك لقد أُنجزت الكثير من الأعمال الجيدة جدا، بعضها ذو أهمية دائمة. يحضرني على سبيل المثال مفهوم القانون Concept of Law ل ه. ل. أ هارتH. L. A. Hart وكتاباته الأخرى، أربع مقالات في الحرية Four Essays on Libery لإيزيا برلين Isaiah Berlin ومقالاته العديدة، والحجة السياسية Political Argument لبرايان باري Brian Barry، صدر كل هذا في الستينيات. لكن لم يصدر مؤلف ذو نطاق ومدى كتاب في فكرة العدالة الذي تناول الكثير من الأسئلة، والذي كان حجمه ونطاقه بعض الشيء غير معقولين بالفعل. أعتقد أن عدد صفحاته أثناء الكتابة لم يتجاوز 350 صفحة. لكن عندما وضع على ألواح الطباعة والطبع اقترب عدد الصفحات من 600 صفحة (587 صفحة على وجه الدقة) ما أصابني بالذهول. على أي حال تحصلنا على هذا، أود أن أقول إن" السياسي-الفكري' يحتاج إلى كتاب من هذا النوع. على سبيل المثال القضايا التي تمت مناقشتها في الفصل السادس حول المعارضة والعصيان المدني هما من أكثر المواضيع مناقشة إلى ذلك الحين حتى أنه لا يوجد كتاب معاصر منظم تناول هذين الموضوعين. بالطبع كانت هناك كتب قديمة ومقالات معاصرة. تحضرني مقالات مايكل فالزر Michael Walzer الرائعة التي تم جمعها في التزاماته Obligations. ويعد كتاب نظرية العدالة أول عمل كبير صدر بعد فترة الصراع السياسي الخطيرة هذه. وعادة يُظهر الصراع السياسي الجاد الحاجة إلى الفلسفة السياسية ويستدعيها. لذا استحوذ كتاب نظرية العدالة على الاهتمام بسرعة إلى حد ما. لقد كان الأمر مجرد صدفة، هذا هو تفسيري فأنا لا أستطيع حقا أن أتخذ وجهة نظر موضوعية إزاء كل هذا. من الممكن أن يكون وضع الكتاب مختلف تماما قبل خمسة عشر عاما أو بعدها. وبطبيعة الحال هو ما يزال موضع انتقاد شديد كما أن الجزء الأكبر منه عبارة عن مجرد نقد. وبالرغم من ذلك وبطريقة ما، فهو ما يزال يٌقرأ. ولست أنا من يقول إنه قد قاوم النقد.

بماذا تشعر عندما تتعرض للنقد؟

على المرء أن يتعلم قبول الانتقادات. وفي معظم الأحيان، أنا أتجاهل تلك غير المؤسّسة منها بشكل جيد والمبنية على سوء الفهم. على عكس الانتقادات الأخرى الجيدة، فهي وإن كانت لا تغمرني بالسعادة إلا أنني أقدرها في نهاية الأمر، وأحاول دمجها فيما أكتب لاحقا. على سبيل المثال أثار ه. ل. أ هارت في 1973 انتقادات أساسية حول آرائي عن الحريات الأساسية وكان محقا تماما. لقد كنت مبهوتا ولم أعرف بماذا أجيب، لكن بعد ثمانية أعوام توصلت إلى الجواب. وأنهيت الكتاب وتم نشره في 1982. ورغم أنه سبب لي بعض الألم، إلا أنه كان يقينا ذو قيمة هائلة بالنسبة إلي. والآن أستطيع عرض وجهة نظري في شكل أقوى بكثير.

ماذا عن وجود بعض من نقادك الأكثر شعلة هنا بهارفارد وفي قسم الفلسفة تحديدا؛ هل ذلك يجعل الأمور أكثر توتّرا أم أنك تقدر ذلك أيضا؟

حسنا، في الواقع يثير الأمر قدرا معينا من التوتر، ويمكن النظر إليه من جهتين. على سبيل المثال قدم نوزيك اعتراضات مثيرة للإعجاب وللاهتمام، ورغم أن جزءا منها مؤسّس على سوء فهم إلا أن الجزء الآخر تضمن ملاحظات جيدة جدا. وبالرغم من أنني لم أكتب مقالا كاملا للرد عليه، إلا أنني قد أجبت في نقاط عديدة (وإن لم يكن بالاسم) في مقال كتبته في 1978. والآن أرى الأمور بشكل أكثر وضوحا. لقد حاولت التعامل مع بعض اعتراضاته كما فعلت في جزء من كتاب إعادة الصياغة الموجزة Restatement, وبالتحديد في القسم الخاص بتوزيع الأوقاف الأصلية، باعتبارها رصيدا مشتركا. وحتى وإن رأيت أن الاعتراض ليس صحيحا تماما، إلا أنه قد يثير سؤالا حقيقيا يتيح تفهم الأمور بشكل أفضل.

عندما يكون لديك أخذ ورد نقديين مع شخص مثل روبرت نوزيك هل يجري ذلك على صفحات المجلات الفلسفية الكبرى أم أنكما تجلسان مع بعض في مكتبك وتتجادلان حول ذلك؟

لا أدري، لأن الأمر يختلف من حالة إلى أخرى، فإذا تعلق الأمر بزميل، فإنني أحاول التحدث إليه أولا. وفيما يخص هارت الموجود في إنجلترا، فإننا نتبادل الرسائل بعض الوقت، ونتبادل أطراف الحديث أحيانا عندما يأتي إلى المدينة. أنظر دوما إلى الفلسفة على أنها موضوع محادثتي conversational subject، ويتعلم المرء بشكل أفضل عن طريق الحديث، فلا بد أن تُخضع ما تكتبه للحديث والنقد، حتى أنه أحيانا قبل أن تحصل على شيء مطبوع يبدو لك الأمر تقريبا وكأنه بلا نهاية.

كيف تشعر وأنت معروف جدا؟

أُحاول تجاهل ذلك، لكنني ربما لم أفلح، ويظهر ذلك في كيفية تعامل الناس معي، على سبيل المثال عند تقديمهم إليّ ولقائهم بي للمرة الأولى. ليس جيدا لأي كان أن يفكر في ذلك، لأنه من شأنه أن يؤثر بشكل سلبي في عمله، ما يجعلني أتحاشى التفكير في ذلك.

إذن توصلت إلى أن الجزء الأكثر جزاء في التعامل مع النقاد هو كونهم يُصوٌبُون أفكارك؟

أعتقد بالفعل أن الأمر كذلك، ومن غير النزاهة القول إنني لا أعير الرّد اهتماما. على العكس يهمني الرّد بكل تأكيد كما يهمني مدى تقبّله. فكرت بأنني سوف أنشر كتاب نظرية العدالة وبأن بعض الأصدقاء قد يقرؤونه. لقد استغرقت فترة طويلة في كتابته، ووددت في النهاية إتمامه من أجل القيام بشيء آخر. حتى أنّي في بعض الأوقات وأنا بصدد الكتابة قلت لنفسي هذا حقا جيد جدا. وأضعه جانبا كبناء معنوي محفز على الاستمرار. هل عُدّ كتاب نظرية العدالة عملا لائقا بما فيه الكفاية؟ أعتقد أن ذلك سوف يكون كافيا لإرضائي. لكن (وبعد أن تم قبوله) ما هو مهم جدا في ذلك هو أن الأمر سوف يكون مؤسفا لو فشل الكتاب ولم يتلق انتقادات، فلا يوجد اهتمام من غير انتقادات. لذلك أرى أن الانتقادات التي وجّهت إلي مهمة جدا، رغم ألمها المؤقت.

إذن مبدئيا كنت تتوقع عندما تنشر كتابك بأنك سوف تنتقل بعدها إلى موضوع آخر جديد؟

نعم، كنت قد خططت للقيام ببعض الأشياء الأخرى المتعلقة أساسا بالجزء الثالث من الكتاب الذي أحببته أكثر والخاص بعلم النفس الأخلاقي. لم يكن ذلك ليكون بالضبط موضوعا جديدا لكن ذو صلة به. لم يسبق لي أن تطرقت إلى ذلك ولن أفعل، فنظرا إلى ما آلت إليه الأمور رأيت أنه من الأفضل أن أمضي وقتي محاولا عرض العدالة كإنصاف بطريقة أكثر إقناعا، والرد على الناس ورفع اعتراضاتهم. لست متأكدا أن هذا هو أفضل شيء ينبغي فعله، لكن ذلك ما فعلته. أنا حقا مهوس وأحب القيام بالشيء بالطريقة الصحيحة. لكن في الفلسفة لا تستطيع فعل ذلك فمهما بلغت درجة ثقتك بنفسك، فإنه تواجهك دوما صعوبات حقيقية.

ما الذي يمكننا توقعه منك في المستقبل القريب فيما يتعلق بالمنشورات والتدريس؟

لقد بلغت السبعين وعليٌ أن آخذ ذلك في الحسبان. آمل أن أتمكن في وقت قريب من تحديد شكل كتاب إعادة الصياغة الموجزة، حيث يكون حوالي بالحجم الذي هو عليه الآن؛ أي أقل من مئتي صفحة، فأنا لا أريده أن يكون طويلا. وهو لا يحمل أية مفاجآت، فما رأيته هو ما ستحصل عليه. كما أنني بصدد كتابة بعض المحاضرات، وهي أصلا مؤسسة على المحاضرات التي كنت قد ألقيتها في جامعة كولومبيا في عام 1980. كذلك قد تصدر لي في نهاية المطاف ثلاث مقالات أضفتها إلى مقالاتي السابقة. وبالنسبة إلى الكتابين فهما من الطول نفسه تقريبا. هذا كل شيء. يأتي حين من الوقت عليك أن تتوقف فيه عن الكتابة ولعله قد حان.

هل تعتزم التدريس في هارفارد العام المقبل؟

نعم، سوف أقدم درسًا واحدا في العام القادم. حسنا، سأفعل إذا تحمّلت صحتي ذلك. لكن لم أُقرر بعد أيّ درس بالضبط. وعلى الأرجح سوف أدرس 171

هل كان استخدام كتاب إعادة الصياغة الموجزة في القسم مفيدا لتطويره؟

نعم بالتأكيد، لقد بدأت استعماله في شكل مطبوعات، وذلك في مرات عدة حتى الآن، وفي كل مرة يكبر حجمه. في الواقع لقد كتبت الكتاب بالطريقة نفسها، وكانت هناك نسخ منه كتبت في وقت مبكر في عام 1963. أعتقد بأنني لا أستطيع القيام بذلك في أي مكان آخر ما عدا جامعة هارفارد. وأنا جدٌ مقدٌر لموقف الطلبة فهم أبدا لم يتذمروا من ذلك.

كيف تنتقي الكتٌاب، ما عدا شخصك، وتطلب من طلبتك في الفلسفة السياسية (فلسفة171) قراءة مؤلفاتهم؟

حسنا، لقد درّست أربعة فلاسفة العام الماضي، حيث أحاول إبراز إرث الفكر الديمقراطي الموجود في ثقافتنا السياسية منذ أمدٍ طويل. وتوجد طريقة واحدة للقيام بذلك، تتمثل في قراءة بعض النصوص التاريخية في الفلسفة السياسية، فالمرء ينظر كيف يمكن استثمار الأفكار الواردة في هذه النصوص بطريقة جادة من أجل إعادة الصياغة الراهنة. ومع أن هذه الأفكار قد تغيرت بطرق معينة، إلا أنها ما تزال موجودة. تلك أحد طرق ممارسة الفلسفة السياسية. عند قراءة هذه النصوص القديمة والتمعن فيها بطريقة جدية سوف نكتشف كيف أمكن لإرث من الفكر أن يتطور عبر الزمن. بطبيعة الحال، يمكن أحيانا وبالطريقة نفسها أن تقرأ لكتّاب معاصرين وهذا ما لم أكن أفعله في أغلب الوقت، رغم أن ذلك أفضل. ربما أفعل العام القادم. لقد اتبعت في معظم الأحيان طريقة المقاربة التاريخية ولا أدري كيف راقت للطلبة. لا أنكر أن الفلاسفة الأربعة الذين انتقيتهم العام الماضي (جون لوك، جان جاك روسو، جون ستيوارت ميل، وكارل ماركس) هم بوضوح مهمين لكن أربعة آخرين قد يكونون مهمين أيضا. لقد اخترت ماركس لأنه حاليا هناك ميل إلى عدم أخذه على محمل الجد، فمن المهم معرفة تفكيره، فلا يخفى أن نقده للرأسمالية يعد جزءا مهما من الإرث الديمقراطي. وأنا أحاول تقديمه بطريقة تعاطفية قدر استطاعتي. لا أعرف إذا كان ذلك يحدث بمحض مصادفة، ولكن أنا أحاول فعل ذلك. كما أحاول تناول كل هؤلاء الفلاسفة بطريقة جدية، فهم أهل للدراسة إلى حد بعيد.

هل اهتممت يوما بخوض غمار السياسة؟

لا لم أكن أبدا مهتما بذلك؛ حسنا، أنا مهتم بالسياسة لكن لست مهتما بأن أشغل منصبا سياسيا، لأنني أعتقد أنني لست صالحا لذلك.

تبدو نزيها للغاية.

لا أدري هل هذا صحيح، فقد أتعلم أن أكون غير نزيه. إن امتهان السياسة لا يلائم مزاجي البتة، وبإمكان المرء أن يمتلك مواهب مختلفة.

بشكل عام، هل تتمعن في الأحداث الراهنة انطلاقا من بِنيةَ كتاب نظرية العدالة الموجودة في ذهنك؟

ليس تماما؛ حسنا شأني شأن أي شخص آخر أتفاعل مع الأحداث الراهنة والمشاكل الحالية بطريقة معينة. وأنا متأكد أن وجهة نظري لا بد أن تؤثر بطريقة ما في كيفية رؤيتي للأمور، لكني لن أكتفي بالسؤال عما عسى العدالة كإنصاف أن تقوله، لأن ذلك سوف يكون محدودا. لا أنظر إلى التصور السياسي للعدالة كشيء يحدّد لي ما أفكر فيه. إنه لخطأ كبير أن تعتبره أداة تقدم الأجوبة لمختلف أنواع الأسئلة ومتى تريد. وهذه أحد الأسباب التي تجعلني مترددا في الإجابة عن أسئلة متعلقة بموضوعات سياسية محددة. ذاك ينطوي على فكرة خاطئة مفادها: أنه يمكن أن يكون لدينا طريقة نظرية معينة لتقديم الأجوبة. غالبا ما يكون الأمر غير ذلك. أرى أن نطاق العدالة كإنصاف محدود، فهي تحاول الإجابة عن بعض الأسئلة المحددة لكنها أساسية. على أيّ حال من المهم أن تكون لديك نظرة معقولة لكنها في البدء لن تكون كافية في حدّ ذاتها، لأن الأمر يتطلب الحكم والرأي المعلن والاعتبار المستحق وأكثر من ذلك بكثير. أعتقد عادة أن أفضل شيء يمكن القيام به حينما يثير سؤال اهتمامي هو تكوين وجهة نظر حول ما له وما عليه، ثم النظر هل وجهة النظر هذه معقولة وما رأي الناس فيها. وباستثناء حالات خاصة فلن أسأل هل تتناسب وجهة النظر تلك مع نظرية العدالة. أضف إلى ذلك، من الخطأ تطبيق مبادئنا الخاصة في كل وقت. نحن في حاجة إلى فحص الأشياء بمعزل عنها وإلا فإننا نخاطر بأن نصبح إيديولوجيين. لا يمكن الوثوق بالناس الذين يستمدون آراء حول كل شيء انطلاقا مما يسمونه مبادئهم.

ماذا كان رد فعلك على الجدل القائم في الحرم الجامعي حول تعليق علم الكونفدرالية على شرفة مهجع الطلاب؟

لا أعتقد أنه لدي رأي مفيد فيما يخص تلك المسألة لأنني لم أطلع على ملابسات الواقعة. مع ذلك أرى أنه تصرف عدواني للغاية إزاء الطلبة السود. يكون الانفصال جائزا في بعض الحالات لكن لا بد أن يكون له مبرر معقول. أما في حالة الانفصال الجنوبي الذي سبّب الحرب الأهلية، فهو غير مبرر بالمرة لأن غرضه كان الحفاظ على العبودية. وبكل بوضوح ليس هذا مبررا معقولا. هذه الحقيقة تهيمن على الصورة. علينا أيضا أن نسأل ما هي أنواع الرموز التي يليق بالطلاب الجامعيين إبرازها. سوف أحاول تشجيع الطلبة الجنوبيين على إيجاد رمز آخر لثقافتهم الجنوبية، لأنه مهما قالوا لأنفسهم فإن معنى العلم الكونفدرالي قد حدد سلفا بواسطة تاريخنا، وبواسطة الانفصال كطريقة للمحافظة على العبودية. لقد حدد معنى الانفصال في وقت متأخر من القرن الماضي، وحتى ذلك الحين بوصفه انفصالا عن أقدم ديمقراطية في العالم، فمن المستحيل الآن تغيير معنى العلَم.

لو كنت مديرا للجامعة هل كنت ستتمسك بموقف الرئيس بوك الذي قال: "أنا لا أوافق على هذا لكنني لن أجبر أحدا على تنكيسه" أم أنك سوف تشعر أنه لا بد من إجبار الطالب المشترك في سلوك عدواني على التوقف.

لم أفكر في الأمر من وجهة نظر رئيس الجامعة. يمكن للمرء التمييّز بين النقاش الحر للأفكار الذي هو مهم بشكل خاص في الجامعة، وأشكال السلوك التي قد تعتبر حقا عدوانية ضد طلبة آخرين، ويتوجب معاقبتها بطريقة ما. لكن دعنا نفترض أن إظهار العلَم هو شكل من أشكال السلوك اللفظي أو خطاب ومن ثم عليك أن تقرر متى تصبح أشكال السلوك خطابا شرعيا. عليك إيجاد الحد الفاصل وذلك صعب المنال. أعتقد بأنني سوف أحاول إقناع الطلبة الجنوبيين بإيجاد رمز آخر. تُعدّ الهيئة الطلابية في حدّ ذاتها مجتمعا ديمقراطيا مصغّرا، حيث تُمارس أشكال من الخطاب تعتبرها بعض الجماعات عدوانية أو مهينة أو معادية نتيجة أسباب تاريخية وأسباب أخرى مهمة، وبالتالي ينبغي من باب اللياقة واللباقة المتبادلة ألا تقال. لكن من المحتمل أنني كنت سوف أقوم بالشيء نفسه الذي قام به بوك لو تؤخذ كل الأمور بعين الاعتبار، وذلك ريثما يكون هناك قانون للياقة وللسلوك المدني مفهوم بشكل ضمني لدى الطلبة الجامعيين، والذي نأمل أن يكون بمقدور الطلبة أنفسهم أن يؤكدوه ولا تفرضه الإدارة عليهم. كما نأمل أن يكون لديهم حس مشترك بما هو مناسب للمشاعر المشروعة للناس الآخرين.

ماذا تقول للطالب المهتم بالفلسفة في 1991؟ هل ستوصيه أن يتخذها مهنة؟

نادرا ما شجعت الطلبة على دراسة الفلسفة. وإن حدث وشجعتهم، فأنا أنبههم إلى العقبات التي يمكن أن تعترض طريقهم. ولكن إذا صممت بشدة على دراسة الفلسفة فذاك شيء آخر. باستثناء ذلك، ربما ينبغي عليك ألا تدرس الفلسفة نظرا إلى ما يكتنفها من مصاعب ومعاناة. ومعظم الذين سيكونون جيّدين فيها سيكونون أجود بكثير- على الأقل وفقا لمعايير المجتمع- في تخصص آخر. عليك أن تفهم أن الجزاء الحقيقي للفلسفة جزاء شخصي وخاص. أعتقد أن الفلسفة موضوع مميز جدا خاصة في مجتمعنا الذي يولي اهتماما ضئيلا لمعظم الفلسفة الجادة حتى إذا كانت منجزة بشكل جيد جدا، مع ذلك ليس هذا تذمرا بل قد يكون أمرا جيدا.

لماذا ندرُسُ الفلسفة؟

في كل حضارة يجب أن يوجد ناس يفكرون في هذه الأسئلة، ليس لمجرد أن هذا النوع من البحث جيد في حد ذاته. لكن أي مجتمع يخلو ممن يفكر بطريقة جدية في أسئلة الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والفلسفة الأخلاقية والسياسية، فهو بالفعل مجتمع ناقص. إن جزءا من كونك متحضرا هو أن تعي هذه الأسئلة وما تتحمله من أجوبة ممكنة، فهي تؤثر في طريقة رؤيتك لمكانك في العالم. وإن جزءا مما تقوم به الفلسفة إذا قامت به بشكل جيد هو تقديم أجوبة معقولة عن هذه الأسئلة، تكون في متناول الناس المفكّرة عموما وكذلك متاحة كجزء من الثقافة. إن الفلسفة مثل الفن والموسيقى، فإذا كنت ملحنا جيدا أو رساما جيدا فإنك سوف تسهم في توعية الناس، ولا تسألني كيف يتم ذلك بالضبط.

تأخذ الفلسفة السياسية على وجه الخصوص أشكالا متعددة. غالبا ما يعاني المجتمع مشاكل عميقة في حاجة إلى أن يفكر فيها بشكل جدي خاصة في مجتمع ديمقراطي، حيث توجد دوما صراعات بين الحرية والمساواة. علاوة على ذلك، أرى أنه يوجد سؤال ما يزال معلّقا بخصوص الأسباب الأكثر ملاءمة للتسامح وللتعددية الأساسية التي تميز مجتمعنا. إنه لأمر حيوي أن تكون لك آراء حول هذه المسائل. من المهم كذلك أن يكون لديك تصور للمجتمع ككل. أعتقد أن الناس أو على الأقل الكثير من الناس يحتاجون إلى مثل هذه التصورات، ما يُحدث فرقا في المحافظة على المؤسسات الديمقراطية مقارنة بما هي عليه. أعتقد أنه بمقدور الفلسفة السياسية أن تلبي تلك الحاجة.

* www.hcs.harvard.edu/hrp/issues/1991/Rawls.pdf