في نقد إفلاس الفلسفة بين أيدي المتفلسفين العرب


فئة :  قراءات في كتب

في نقد إفلاس الفلسفة بين أيدي المتفلسفين العرب

"إنّ كون "خطاب اللغوى" ينبني على "التضليل" تحت مظاهر التفكير الفلسفي أمرٌ يوجب مواجهته بعمل نقدي يكشف سخْفه المنهجي وخواءه الفكري ويتيح، من ثم، إمكان تلمس طريق التفلسف كاجتهاد في إحكام النظر والقول، طلباً لمزيد من "الحكمة" وانفكاكاً عن أهم قيودِ "الغفْلة". ذلك أن حياة الفكر لا قيام لها من دون النقد المؤسس والمتجدد. ومن المؤسف جداً أنّ أشد ما يفتقده المجال العربي- الإسلامي، إنما هو تأسيس النقد منهجياً وتعليمياً بالشكل الذي يمكن من أنْ تصير الانعكاسية الفكرية ملازمةً، في آن واحد، للممارسة النظرية وللحركية الاجتماعية المتعلقة بإنتاج وتداول الخبرات الثقافية والقِيم الروحية".

بهذا التأطير النظري، افتتح الباحث المغربي عبد الجليل الكور أحد أهم مؤلفاته، ويحمل عنوان: "تساؤلات التفلسف وتضليلات اللغْوى"، والصادر مؤخراً عن دار "عالم الكتب الحديث" الأردنية، (إربد، ط 1، 2011).

جاء العمل موزعاً على مقدمة واثنى عشر فصلاً / مقالاً (أو دراسة)، تحت العناوين التالية: ما فائدة دراسة/تدريس الفلسفة؟ "الفِكْري" و"الطوبى" بعيداً عن تضليلات "اللغوى"؛ الوهم اللغوي لا يصنع حقيقة الفلسفة؛ في التضليل "باسم العقل"؛ فيصل التفرقة بين التحقيق والحذلقة؛ عوائد التقليد وعقبات التجديد؛ الكتابة بالعربية تجديدا موصولًا أم تقليدًا مدخولاً؟؛ إفلاس الفلسفة بين أيدي المتفلسفين العرب؛ تلك "الهوية" التي تهْوِي أهواء أو تطِير هواء؛ عن حراس "الهوية" والأوصياء على "الرعية"؛ توطئة تحت وطأة "اللغوى"؛ وأخيراً، هانئ في بسط لغواه : نقد "الفِكري" تحت وطأة الغواية الفِكْروِية.

في غضون عام 1996، تسبب ـ عن عمد طبعا ـ الفيزيائي الأمريكي الآن سوكال في ضجة فكرية من العيار الثقيل، هناك في المجال التداولي الغربي حصراً، عندما نشر مقالاً ملفقًا بعنوان "تعدي الحدود: نحو تأويلِيات تحويلِية في الجاذبية الكميْمِية"، قبل أن يعلن لاحقاً أنه تعَمّد اختبار مدى احتراز المجلة المعنية من التضليل، لينشر فيما بعد إلى جانب جان بريكمونت كتابهما القيّم الذي زاد من حدة النقاش (وخاصة في الساحة الفرنسية، والتي اتهِم كثير من فلاسفتها ومثقفيها بالتضليل، وبالتحديد فلاسفة ما بعد الحداثة، وتيار "الفلاسفة الجدد"...) وأعقبته عدة مقالات ودراسات وكتب من قِبل عدد من المتدخلين، ومن باب التذكير أيضاً، أن الفضيحة مرت مرور الكرام في المنابر الثقافية والفكرية العربية، وبالكاد نحصي متابعات على رؤوس الأصابع، هنا وهناك (مجلة "نزوى" العمانية، يومية "الحياة" اللندنية، ومنابر أخرى محدودة جداً).

استحضرنا هذه الواقعة، كما استحضرنا مؤلف الكتاب في معرض عروجه المهم، وتحديداً في الفصل الأخير من عمله النوعي، حيث ارتأى التوقف عند نموذج تطبيقي يُحيلنا على ظاهرة "تضليلات اللغوى"، من خلال نقد ما حرره الكاتب المغربي إدريس هاني، الذي يُمارِس، في رأي المؤلف، خطاب اللغْوى، (في مقابلla logologie بمعنى كلمات إلى جانب كلمات من دون إفادة تذكر) كخطاب لا يخضع لأهم الضوابط المتعارفة لغوياً وفِكْرياً ومنهجياً. وأكيدٌ أنه سيغضب من هذه الملاحظات كما لو كان صاحبها لا يحركه سوى الحقد والكراهية وإرادة الاستفزاز، أو باعتبار أن الكاتب المعني هنا، يُمثل نموذجًا ممثلاً لِما تصِح تسميته بخطاب اللغْوى كخطاب قائم على الباطل من الكلام : الباطل على المستوى التعبيري والتفكيري في آن.

وعلى الرغم من أن خطاب اللغْوى، يضيف المؤلف، من حيث إنه يمثل من الممارسة الاحترافية القائمة على التضليل والتدجيل، يوجد في كل الميادين على مستوى كل المجالات القومية أو الوطنية، وتعد "فضيحة سوكال" سالفة الذكر خير مثال، فإن تفشيه في المجال العربي - الإسلامي قد يصعب العثور على نظير له في العالم كله، بسبب كون هذا المجال لا يزال يعْرِف هشاشةً تمس كل القطاعات بشكل يمنع من قيام حقول مستقِلة تضبِط اشتغالها قواعد واضحةٌ وصارمةٌ تفرِض نفسها، بهذا القدر أو ذاك، على الفاعِلين في كل حقل على حِدة.

ولعل مصطلح "خطاب اللغْوى"، كما سطره الباحث عبد الجليل الكور في كتابه هذا، يُلخص بامتياز أسباب صمت المنابر والأسماء الثقافية في المنطقة العربية عن الخوض في الفضيحة الثقافية.

في معرض الإجابة على عنوان المقال الأول: "ما فائدة دراسة/ تدريس الفلسفة؟"، يخلُصُ المؤلف إلى أن التفلسف لا يتخذ جدارته الكاملة إلا بِتعْيِينِهِ في سيرورة تاريِخية واجتماعية، لِتيْسير قيام فضاءات لممارسة نوع من التنْسيب المتبادلي كل مجالات الفِكْر والْخطاب، على نحو يسمح بتأسيسِ وصول جماعِي إِلى امتيازات الثقافة، من خلال نشر ما يسميه بيير بورديو أدوات (أو أسلحة) مقاومة العنف الرمزي في عالم لا يتميز بشيء بقدر ما يتميز بكونه يزداد بطلان سحره.

نأتي للفصل الثاني من الكتاب، وقد خصصه بشكل كامل للخوض في مأزق ترجمة مفهوم "الإيديولوجيا"، وينطلق المؤلف هنا مما يُشبه مٌسلمة، مفادها أنه من السخْف البحث عن ترجمة دقيقة للمصطلح أو الاكتفاء بترديد المصطلح المعرب من دون نقد مفهومي يحدد الحقول الدلالية التي يشتغل فيها، وهي المُسلمة التي تُخولُ له أيضاً التعبير عن الأسى من إصرار معظم المترجِمين والكتاب العرب على تناول هذا المصطلح بتساهل كبير وتجاهل أكبر للشروط التاريخية واللغوية والثقافية التي أنتجته وأكسبته القوة الدلالية والنجاعة التداولية المعروفتين، مضيفاً في الهامش أن الاستثناء الخاص والمتفرد جاء مع عبد الله العروي وطه عبد الرحمن: الأول من خلاله كتابه "مفهوم الإيديولوجيا" (1980)، والثاني من خلاله تحفته "تجديد المنهج في تقويم التراث" (1994).

تنويه الكاتب باجتهاد طه عبد الرحمن اللصيق بترجمة الإيديولوجيا إلى الفكرانية، تطلب منه توجيه بعض النقد لهذا الاجتهاد، مؤكداً أن كون لفظ "فِكْرانية" نسبا إلى "فِكْر" بواسطة لاحقة المبالغة "ـآنية" يجعله أدل على النزعة التي تغلب "الفكر المجرد على الواقع الفعلي. ولهذا، يُخالف المؤلف الأستاذ طه عبد الرحمن فيما ذهب إليه، حيث جعل الكاتب لفظ "فِكرانية" دالاً على معنى اللفظ الأجنبيidealism، الذي شاع في مقابله لفظ "مِثالية"؛ في حين أن لفظ "مثالية" هذا أجدر به أنْ يدل على "الطابع المِثالي" أو "الأمْثلِية". (هامش ص 21)

ويخلصُ عبد الجليل الكور إلى أن اللفظ المعرب "إديولوجياّ" لا يمكن أنْ يستساغ إلا من قِبل من صار مفتتِنًا بالمصطلحات الأجنبية الرنانة إلى حد الِاستهانة باللسان العربي كلسان له إمكاناته الخاصة وقواعده الناظمة في الاستعمال والاشتقاق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللفظ المعرب الشائع "أوتوبيا"، حيث تبين أن هناك أكثر من إمكان في ترجمة ذيْنك المصطلحين الأجنبيين بشكل يحفظ البِنْيات الصوتية - الصرفية في العربية، ويتيح أداء المعاني المطلوبة من دون التباس، لولا أن المتعجمين ومن يصفهم بالمضللين بين ظهْرانيْنا يأْبوْن إلا أنْ يستعملوا كل ما يقع بين أيديهم أو يطرق أسماعهم من الكلمات الرنانة والمفخمة المرتبطة بالألسن الأجنبية، حرصًا منهم على التميز بالرطانة الخادِعة ووقوعًا منهم تحت وطْأةِ التضليل بممارسة خطاب اللغْوى كخطاب قائم على الباطل من الفِكْر والكلام.

افتتح المؤلف الفصل المخصص لموضوع الكتابة بالعربية، بمقولة ليروسلاف ستيتكفيتش، جاء فيها أن "كون العربية استمرتْ باقيةً ولا تزال تحتفظ بحيويتها للازدهار من جديد قد يرد إلى عوامل دينية واجتماعية، لكن قدرتها الكمية على التوسع وقدرتها الكيفية على بلوغ الكمال وحفظ خصائصها الأساسية ترجعان حصرًا إلى حقيقتها بما هي لغة".

الفصل مُخصص للرد على بعض من أدعياء الحداثة في المجال التداولي العربي، والذين يزعمون أن الكتابة بالعربية لا تكون مجددةً وتجديديةً، إلا إذا قطِعتْ، بهذا القدر أو ذاك، عن التقليد الكتابي المعروف والمتعارف فيها. فتراهم ينْبرون لوصف كل مكتوب يخالِف مدعاهم هذا بأنه قديم ومتقادم، بل لا يتردد بعضهم عن وصْمِ صاحبه بأنه مقلدٌ ومتبعٌ لِما عفاه الزمان بِنحو يجعله - حسب ظنهم- أوغل في القدامة وأبْعد عن الحداثة.

يؤسس المؤلف أولى مقتضيات التجديد على الأرضية التالية : ليس كل من تحدث أو أكثر من الحديث في التجديد والحداثة،وأيضاً في العقل والتنوير، يُعد بالضرورة مجددًا وحداثياً، ومن ثم، عقلانيا وتنويريا؛ لأن هناك طريقةً مغالِطةً تتمثل في إظهار نسبة شيء ما إلى النفس بالحرص على ادعائه أو إبداء الِانتساب إليه بالتركيز عليه والدوران حوله والإكثار منه، حتى لو كان المدعي أو المتشهي لا يد له في ما ينْسبه لنفسه أو ينتسب إليه، بل قد لا يكون عند التمحيص سوى دعِي تابع أو مستهلِك ـ مجْتر.

وبالنسبة للنظر في التجديد، فالأمر يقتضي تقرير أربع مسلمات:

أ- أنه لا سبيل إلى الإبداع كإنشاء من لا شيء وعلى غير مثال سابق، لأن الإبداع بهذا المعنى حق لله وحده وممتنعٌ على البشر بإطلاق، فلا يدعيه إلا المتألهون الذين لا يستطيعون - في الواقع- أنْ يخلقوا ذبابًا، وهم يخلقون من حيث لا يشعرون.

ب- أن الأصل في فعل الإنسان نوعٌ من التقليد المرتبط بكونه لا يكتسب القدرة على التصرف إلا بمحاكاةِ ومتابعةِ من هم أسبق وأقدر منه الذين يلقنونه، بشكل مباشر أو غير مباشر، كيفيات السلوك التي تصير عادات له من خلالها تسوى طباعه اجتماعياً وثقافياً كـ"ملكات" أو مهارات في هذا المجال أو ذاك؛

ج- أن كل أصل موروث ثبتتْ فائدته في الحاضر، فهو واجب الِاتباع حتى لو بدا تقليدياً، من حيث إن التردد في قبول أي أصل لِمجردِ أنه موروث من الماضي من شأنه أن يوقِع، إما في العطالة (لاستحالة العمل مطلقًا من دون أصل) وإما في التبعية أخذًا بأصل آخر مورث في الحاضر (بفعل وراثة اجتماعية وثقافية مجهولة أسبابها داخل وخارج نفس الفاعل الاجتماعي)؛

د- أن كل ما لم يبْن على أصل معروف أو معقول، فهو بِدْعةٌ مردودةٌ على صاحبها (أو أصحابها)، لِأن كل ما لمْ يبْن على شيء من "المعارِف المشتركة" يبقى أقرب إلى الباطل المهزوز، وكل ما لم تشهد له أسانيد مدركة لا يستقيم في العقول.

لعل أهم فصول الكتاب، الفصل الثامن المخصص لتقييم الإنتاج الفلسفي للمتفلسِفين العرب، وجاء تحت عنوان "إفلاس الفلسفة بين أيدي المتفلسفين العرب"، حيث لا نعدم جرأة عبد الجليل الكور في وصف وتقييم السائد من إنتاج المنتسبِين إلى الفلسفة (ويصفهم بـ"أدعياء التفلْسف") بأنه في الغالب الأعم تفلسف أقرب إلى الثرثرة واللغو والتعقيد/ التكلف من حيث إن هناك كثيراً من المتفلسفِين يستغلون ما تحاط به الفلسفة الصناعية من صنوف التعقيد والتكلف والتعمق فيأْخذون في ممارسة نوع من الكلام النافِل والباطل والمستغلِق.

ليس هذا وحسب، بل إن بعض المتطفلين على التفلسف صاروا يتخذون من ضعف ملكتهم اللغوية في العربية موضوعًا للتفلسف بشكل يبْدِي، في الواقع، تحذلقهم ويؤكد استخفافهم بهذه اللغة.

ومن العجيب أيضاً، أن النقد المنْصب على التراث يؤول، بين يدي المتفلسف العربي، إلى نقْض يقوض البنْيان القِيمِي لتراث كان الأصل في حضارة عالمية استمرتْ عدة قرون، فإذا بهذا التراث يتحول، من خلال مهاترات أدعياء التفلسف، إلى لاشعور فِكْروي جماعي واقع، إما تحت وطْأةِ الاستعمال اللا تاريخي لآلية المقايسة ("قياس التمثيل") كما ما فتئ يكرره الراحل محمد عابد الجابري، أو لآلية المفارقة ("القياس الفاسد") كما زعم عبد الله العروي، وإما تحت نِيرِ مركزية لغوية وقومية تعرِض نمطها الخاص في العقل كشرْع كلي ومطلق خارج كل تحديد اجتماعي وتاريخي (كما ظل يجتره الراحل محمد أركون)، مختتماً نقده اللاذع في هذا الفصل بطرح جملة استفسارات: كيف يكون فيلسوفًا من لا يستطيع أن يبِين عن فكره إلا استسهالا للنثر أو استسلاما لِغواية الشعر؟ وكيف يكون فيلسوفا من لا يرى في الإحكام الأسلوبي والتشقيق البياني والتوليد الاصطلاحي إلا لعِبا لغويا يوصم في ظنه، لغوا وسهوا، بـ"اللغوانية"؟ وكيف يكون فيلسوفاً من لا يستطيع أنْ يرى في التحليل والتنسيق المنطقيين إلا وقوفا عند الصورة المنطقية للفِكْر، ليس بمعنى الوقوف الذي يستبدل - كما ثبت في نقد الراسخين- أشياء المنطق مكان منطق الأشياء، وإنما وقوفًا يكفي لوصفه - في ظن أدعياء التفلسف - نحْت صفة المبالغة لِنعْته بالمنطقانية؟ وكيف يكون فيلسوفًا من لا يحسِن سوى تمجيدِ القدامى من المقلدين أو محاكاة المشاهير من المحدثِين من دون الاقتدار على تجاوز الجميع نحو الإبداع المستقل؟

وعموما ـ حتى يكون ختامه مسكاً ـ إذا كان خطاب اللغوى ـ عنوان ورسالة الكتاب ـ ممارسة احترافية للخطاب تقوم على الِاستسهال المفْرِط في استعمال اللغة والمفرط في الانعكاسية النقدية، فإن المرء لا يعدم أن يجِد أمثلة عليه في كل بلد، حتى بين أشهر الكتاب على المستوى العربي - الإسلامي، حيث إن كثيراً من هؤلاء لا يترددون عن إتيان ممارسة الخطاب بشكل متساهِل، ليس فقط من جهة استعمالهم للعربية، بل أيضاً من جهة غياب التحقيق المعرفي والضبط المنهجي فيما يمارسونه من أشكالِ التفكير والتعبير؛ ذلك بأن أول ما يستطيع الملاحِظ تبينه، بخصوص الإنتاج الفكري في المجال العربي - الإسلامي المعاصر، إنما هو ضعف الملكة اللغوية لدى معظم الذين أخذوا يتعاطون الكتابة منذ نهاية السبعينيات.

ويبدو أن كثيراً من أدعياء الكتابة بين العرب والمسلمين، لم يظهروا بعد على الانقلاب الذي يمثله فن الكتابة، ليس فقط في التاريخ البشري (مثلاً، أعمال جاك غودي، إريك هافلوك، ولتر أونغ)، بل أيضاً في العمل الفكري (هيدغر، دريدا، فتغنشتاين، بورديو)، حيث باتت الكتابة صنْعةً فنية قائمة على الإحكام الأسلوبي وإجادة النظم.