كيركغارد في أضحية إبراهيم (القسم 2) أو فنّ إغواء الله بوسائل بشريّة


فئة :  مقالات

كيركغارد في أضحية إبراهيم (القسم 2) أو فنّ إغواء الله بوسائل بشريّة

تكمن المفارقة في هي أنّ الإيمان يشير إلى تجربة تقع خارج أفق الفلسفة، لكنّها في المقابل ليست تجربة يمكن تبخيسها أخلاقيّا. ولذلك يكرّر كيركغارد، في كتابه الخوف والارتعاد، اعترافَه بأنّه "لا يمتلك الإيمان"(ص41) وبأنّ شجاعة التفكير التي لديه "ليست من شجاعة الإيمان ولا هي تشبهها" وبالتالي أنّه "لا يستطيع القيام بحركة الإيمان"(ص43). ومع ذلك، فإنّ "لياقة فلسفية" ما هي التي تمنع الفيلسوف من "مواراة" الإيمان أو إخفائه وكأنّه "لا شيء" أي كأنّه نوع من العدم الأخلاقي. ولكن أيضا لياقة فلسفية ما تفرض على الفيلسوف أن يقف عند نوع "المستحيل" الذي يشير إليه الإيمان ومواجهته؛ هذه المواجهة مع الإيمان بوصفه مفارقة هي بالتحديد "بهجة" الفيلسوف (ص44). وتبدو البهجة الفلسفية هنا بوصفه تلك القدرة غير الدينية، وبالتالي "التراجيدية فقط" على احتمال "المسافة" التي تفصل الفلسفة عن الإيمان، إذ إنّ هذه "المسافة" هي ما به تنقاس حسب كيركغارد "عظمة" الإيمان (ص45). لا يجوز للفيلسوف حسب كيركغارد أن يذهب في احتمال الإيمان إلى أبعد ممّا يحتمله "البطل التراجيدي".

لكنّ امتياز إبراهيم المرعب هو أنّه "آمن بفضيلة المحال (l’absurde)، وذلك لأنّ كلّ حساب بشري قد تمّ التخلّي منذ أمد طويل"(ص48). يمتاز إبراهيم بكونه تخلّى عمّا يحكم به العقل الأرضي ولكن من أجل أن يستردّ ما تخلى منه فقط بفضل المحال (العبث، السُّدى، اللامعقول، الخُلف، السُّخف...) الذي يقضّ مضجع روحه. الإيمان بفضيلة المحال يعني هنا "قفزة الانطلاق نحو اللانهاية"(ص49). وحده نوع ما من المحبّة المستحيلة هو الذي يجعل المحال ممكنا؛ لكنّ الإيمان بفضيلة المحال هو موقف لا يمكن فهمه. قال كيركغارد: "لا يمكنني أن أفهم إبراهيم"(ص50). ادّعاء الفهم يجرّد المحال من مفارقته. ويمكن أن تجد كثيرا من المعاصرين "يزعم أنّه استقى من المفارقة قاعدة للحياة"(نفسه).

طرافة موقف كيركغارد تبدأ في الترائي عندما نلاحظ رغبته الملحّة في أن نكتفي بالإيمان بوصفه مفارقة، أن نتمترس أمام هذه السمة المرعبة، وألاّ نتجاوزه إلى أمر آخر. ويتساءل مرارا: "حين نرفض اليوم، ونفصح عن ذلك بطرق شتى، بألاّ نكتفي بالمحبّة، أين نظنّ أنّنا ذاهبون؟ "(ص50-51). الإيمان مثل الحب لا يمكن تجاوزه إلى أمر آخر. هذه نكتة الإشكال لدى كيركغارد. ولكن لماذا؟

يفترض كيركغارد أنّ حركة الإيمان تقوم على مفارقة تتمثّل في الإيمان بفضيلة المحال. ومن ثمّ "أنّ حركة الإيمان يجب أن تتحقق دوماً بفضل المحال، ولكن، وهذا هو جوهر الأمر، على نحو حيث إنه لا يتمّ فقدان العالم المتناهي، بل الفوز به بأكمله"(ص51). كيف يمكن للإيمان بفضيلة المحال أن يجعلنا نفوز بالعالم؟ ما ينبغي استبعاده هنا هو الإيمان الذي تقترحه "الروح البورجوازية"، أي الإيمان باعتباره "كنزا" يمتلكه بعض الناس (ص52). إنّ الإيمان "حركة" وليس كنزا.

إنّ "فارس الإيمان" ينبغي أن يكون "فارس اللانهاية"(ص54). اللانهاية ليست عبقرية بالضرورة؛ ما يتمسّك به فارس الإيمان هو أن يؤمن بفضيلة المحال. وبالتالي، هو يمكنه أن يتخلّى تماما عن أيّ شيء من هذا العالم. "هو في كل لحظة يقوم بحركة اللانهاية" (ص56). هو يتخلى بشكل لانهائي عن أيّ شيء. لكنّه يستطيع دوما أن يستردّ ما تخلى عنه من العالم المتناهي فقط بالاعتماد على إيمانه بفضيلة المحال. "إنّ فرسان اللانهاية هم راقصون لا تنقصهم الخفة والعو"(ص57). يشبه الإيمان بالمحال نوعا من الرقص بواسطة اللانهاية. هو رقص وحده ينصّب الجلالة في صلب اليومي، وهي نعمته الوحيدة.

ما هو طريف تحت قلم كيركغارد هو جرّ اللامتناهي إلى داخل الانفعال البشري. يشبه اللامتناهي علاقة بين الحب والمجازفة: لن تكون شجاعا إلاّ بقدر انفعالك. الانفعال هو التقاط الحياة بأكملها في نظرة. أمّا اللقاء باللامتناهي، فهو يحدث في تلك اللحظة الفارقة عندما يكتشف الانفعال أنّه مدعوّ إلى مستحيل.

قال: "كلّ حركة للامتناهي هي تتمّ من خلال الانفعال، ولا يستطيع أيّ تفكير أن ينتج حركة ما. هذه هي القفزة الدائمة داخل الحياة، التي تفسّر الحركة، في حين أنّ التوسّط هو، عند هيغل، وهمٌ يجب أن يفسّر كلّ شيء، وهو الشيء الوحيد الذي لم يحاول أبدا أن يفسّره. حتى من أجل وضع التمييز السقراطي بين ما نفهمه وما لا نفهمه، ينبغي أن نتوفر على الانفعال، وعلى شيء أكثر من ذلك من أجل أن نقوم بالحركة السقراطية بالمعنى الدقيق، نعني حركة الجهل. إنّ ما ينقص عصرنا ليس التفكير، بل الانفعال. وهكذا، فإنّ عصرنا هو بمعنى ما يمتلك قدرا من الصحّة أكثر من اللازم ولذلك هو يعجز عن الموت؛ إذْ إنّ واقعة الموت تمثّل واحدة من القفزات الأكثر تميّزا على الإطلاق."(ص60)

الإيمان هو حسب كيركغارد عمل فرسان. فارس عليه أن يجمّع كلّ جوهر الحياة وكل دلالة الواقع في "رغبة" واحدة. من دون هذه المجازفة سوف يعيش دوما متسلّحا بـــ"حذر الرأسماليين"(ص61). الإيمان مشكل غير رأسمالي بتاتا. الرأسمالي هو الذي يتميّز بأنّه يلاحق صفقات الحياة "من دون أن يدخل إطلاقاً في أيّة أبديّة". هو ذاك الذي يتراجع عن أبديّته في كل مرة.

المؤمن فارس؛ لكنّ فروسيّته من نوع خاص. إنّه لا يجهد نفسه من أجل أن يتجاوز نفسه أو أن يتغيّر أو أن يصبح إنسانا آخر. "هو لا يشعر بأيّ دافع كي يصبح إنسانا آخر.. وحدها الطبائع السفلى تنسى نفسها وتصبح شيئا جديدا" (ص62). يرتبط الإيمان حسب كيركغارد بنوع مخصوص من التذكّر: على خلاف الرأسمالي الذي ينسى نفسه في صفقة الحياة، الفراشة التي نسيت أنّها كانت سُرفةً، فإنّ المؤمن هو من تلك "الطبائع العميقة التي لا تفقد أبدا تذكّر نفسها، ولا تصبح أبدا شيئا آخر غير ما كنت عليه"(نفسه). تأخذ النفس "طابعا دينيا" إذن عندما تبني كلّ علاقتها بالحياة على تذكّر نفسها، نعني على "التصالح مع الحياة" بلا رجعة، وهو تصالح لا يوجد تعبير أفضل عنه مثل الحب: حبّ ما هو "أبدي" في الحياة. أن نتّخذ الأبدية موضوعا للحب، وهو حبّ يمتاز بأنّه لا يستطيع أبدا "توديع" من يحبّ: "من أجل أنّ له عنه ذكرى أبدية" (ص64). ولكن في معنى مزعج: أنّه حب يقع خارج النسيان البشري. هو يقوم على فهم هذا السرّ: "أنّه حتى حين نحبّ، يجب علينا أن نكتفي بأنفسنا"(نفسه).

الإيمان، مثل الحب، لا يكون حقيقيا إلاّ في شكل مفارقة: لا نؤمن إلاّ بقدر ما نتصالح مع أنفسنا؛ ولا نحبّ إلاّ بقدر ما نكتفي بأنفسنا. - معنى المفارقة هنا أنّ الإيمان نوع من الحب الذي يقوم على "الاستسلام"، ولكن باعتباره حركة نحو اللامتناهي فينا. ذلك بأنّ "من استسلم بشكل لامتناه هو قد اكتفى بذاته"(نفسه). الاستسلام لا يعني نقل قانون وجودنا إلى الغير. وحدها الطبائع الضعيفة تأخذ الغير قانونا لها. والحب هو نمط الاستسلام اللامتناهي، حيث يكون الفارس مثل الأميرة في مقام واحد "حيث لا فرق بين الرجل والمرأة"(ص65). "الاستسلام اللامتناهي" نوع من "الاتحاد بواسطة الأبدية"(نفسه) بين محبّين. على هذا المستوى لا معنى لأيّ شعور بالخيانة. "وحدها الطبائع الضعيفة تتخيّل أنّها تُخان" (نفسه). الاستسلام اللامتناهي يؤمّن "السلام والسكينة"(ص66)، ولكن من خلال "حركة مؤلمة". ليست الأبدية راحة العقل. بل هي، حسب مثال ساقه كيركغارد، تشبه قميص الحكاية القدية، حيث إنّ خلط النسيج بالدموع يحوّلها إلى مادة أقوى من الحديد والنحاس.

ليست دموع اليائسين بل دموع النسّاجين. من ينسج حياته بأوجاعه يحوّلها إلى قطعة من الأبديّة. وهذا هو في تقدير كيركغارد المعنى الأصيل للثقافة: "الثقافة هي الدورة التي يقطعها الفرد من أجل البلوغ إلى معرفة ذاته؛ ومن يرفض اتباعها هو لا يحقّق إلاّ استفادة هزيلة من كونه قد وُلد في العصر الأكثر استنارة."(ص67). لا يفيد التنوير حين يكون بلا ثقافة. نعني حين يكون من دون قدرة على معرفة الذات. لكنّ معرفة الذات تشبه نوعا من الاستسلام اللامتناهي. وحسب كيركغارد هو ذاك الذي "يسبق الإيمان"(ص68). حين أستسلم للحياة أنا أكتشف "قيمتي الأبدية"، وعندئذ أنا أستطيع الدخول في حركة لامتناهية مع ذاتي، حيث لا أحد ينتظرني. نعني حيث لا آخر بإمكانه إنقاذي.

يشبه فارس الإيمان فارس الحب: إنّه يستسلم بشكل لامتناه. لكنّه يتخلّى نهائيّا عن جوهر حياته، نعني عن "محبوبه"، كي ينتمي إليه بلا رجعة. - ما يسكّن المستسلم اللامتناهي هو "الألم" الخاص. وهو ألم من نوع مثير: إنّه مؤسّس على الشعور بالمحال كثروة تتخطّى المتوقّع. سوف يقول فارس الإيمان عندئذ: "أنا أعتقد رغم ذلك أنّني سوف أحصل على من أحبّ، بفضل المحال، بفضل إيماني بأنّ كل شيء ممكن عند الله"(ص68).

يقلّب كيركغارد هنا معنى "المحال" كي يميّزه بدقة عن "غير المحتمل" و"غير القابل للتصديق" و"غير المنتظر" و"غير المتوقع"... هذه الأطراف القصوى لا تزال تقف داخل دائرة العقل. أمّا ما يتميّز به المحال، فهو علاقته بالمستحيل. "المحال لا ينتمي إلى الفروق المتضمّنة داخل الإطار الخاص بالعقل"(نفسه). حتى يدخل المؤمن في علاقة أصيلة بالمحال ينبغي عليه أن "يقتنع بالاستحالة حسب الرؤى الإنسانية". ولكن مع التنبيه إلى أنّ الاقتناع باستحالة شيء ما هو حساب عقلي؛ هو لا يزال يفكّر من وجهة نظر العقل؛ نعني أنّ الاقتناع باستحالة فهم معنى الحياة لا يكفي كي ندخل في علاقة أصيلة مع معنى المحال.

لا تصبح العلاقة بالمحال ممكنة إلاّ عندما نجرؤ على اتّخاذ اللامتناهي وجهة نظر. لا يصبح الإيمان ممكنا إلاّ من وجهة نظر اللامتناهي، إذ "من وجهة نظر اللامتناهي، يبقى الإمكان مفتوحا، بواسطة الاستسلام؛ لكنّ هذا الامتلاك هو في نفس الوقت ضرب من التخلّي"(نفسه). يقف العقل عند دائرة المتناهي، حيث من حقه اعتبار شيء ما مستحيلا. والمؤمن يعرف أيضا أنّ ما يقوله هو شيء مستحيل. ولذلك، فما ينقذه ليس التشبّث بالمستحيل، فهذا يبقيه تحت قوانين العقل، بل "إنّ الشيء الوحيد القادر على إنقاذه هو المحال، نعني ما يتصوّره بواسطة الإيمان. فهو يعترف إذن بالاستحالة، وفي نفس اللحظة، يؤمن بالمحال؛ إذ لو تخيّل أنّه يمتلك الإيمان من دون الإقرار بالاستحالة بكلّ قلبه وبكلّ انفعالات نفسه، إذن لكان يخدع نفسه، وشهادته لا تُقبَل، بما أنّه لم يبلغ فيها حتى إلى الاستسلام اللامتناهي."(ص69).

أمّا النتيجة الحاسمة هنا، فهي قصد فلسفيّ مثير للفصل بين الإيمان والجمال. - "الإيمان ليس انفعالا من نوع إستطيقي" (نفسه). ولكن بأيّ معنى؟ - كلّ دين يقيم مع الحواس علاقة ملتبسة. يوشك الإيمان أن يكون مشكلا حسيّا. لكنّه يعزف عن ذلك، يوشك الإيمان أن يكون معركة مع الحواس. لكنّه يمسك. يوجد الإيمان في تلك المنطقة، حيث يتعلق بسياسة الحواس (بمشكل "إستطيقي"، من الأيستزيس) أو آداب الرغبة، ولكن لغايات حسيّة أو "متعيّة". الله ليس متعة. والدين ليس مذهباً في السعادة. المؤمن ليس دُنْجُوَان "ماجن إشبيليا". قال كيركغارد: "ليس الإيمان دافعا من نوع إستطيقي؛ بل هو من نوع أكثر سموّا، وذلك تحديدا لأنّه يفترض الاستسلام؛ هو ليس غريزة مباشرة للقلب، بل هو مفارقة الحياة "(نفسه). تقول الترجمة الفرنسية "مفارقة الحياة" (paradoxe de la vie)؛ وتقول الترجمة الألمانية "مفارقة الكيان" (das Paradox des Daseins)، والترجمة الإنجليزية تجمع بينهما على هذا النحو: "مفارقة الحياة والوجود"(the paradox of life and existence).

ما معنى أن يكون الإيمان مفارقة (paradoxe) الحياة بما هي كذلك؟ - المفارقة تعني هنا تناقضاً المطلوب هو أن نعيشه لا أن نفكّر فيه. المفارقة هي علاقة مع المستحيل أو مع ما لا يمكننا فهمه. معنى المفارقة هو أن نوجد بجوار "العقل" الحجاجي، أقلّ أو أكثر منه. والإيمان يشبه طبيعة الحياة: إنّه أقلّ أو أكثر ممّا يمكننا أن نبرهن عليه بشكل سببي. الإيمان له معنى ولكن ليس له سبب. يشير الإيمان إلى تناقض رهيب بين وجودنا وبين الأبديّة لا يمكن لنا أن ننتصر عليه إلاّ بأن نعيشه، أي أن نحوّله إلى حياة تخصّنا. المفارقة هي أن نعيش حقيقة أبديّة بواسطة حياة زائلة. هذا هو الأمر الذي لا يمكن فهمه، وهو مجال الإيمان.

علينا أن نقف عند معنى الاستسلام. المؤمن ليس بطلا إلاّ عرضاً. لا تهمّه ثقافة المجد الوثنيّة. ولذلك، فإنّ استسلامه يتطلّب في الواقع قوّة أو "حريّة" من نوع خاص: هي حريّة "الحركة غير المتناهية للاستسلام"(ص70). الاستسلام نوع من التفاوض مع المستحيل: أن نطمع في استنباط كلّ شيء من المحال. يتعلق الأمر بتجربة مثيرة جدّا لأنّها تقع على خطّ التماس بين "إعجاب بلا تحفّظ يكتنف الأنا" بما لا يمكننا فهمه وبين "قلق مرعب" يقضّ مضجع النفس من هذا اللقاء باللانهاية. الإيمان هو مجرّد تفاوض بين الإعجاب والرعب. قال كيركغارد ملخّصاً كلّ ملامح التجربة اللامتناهية: "ما معنى إذن أن نغوي/ أن نجرّب /أن نحاول / أن نبتلي الله (tenter Dieu)؟" (ص71). هذه العبارة تعني في الفرنسية: أن نجرّب ما يفوق قدرة البشر. لكنّ الترجمات لا تأخذ الأمر مأخذا استعاريّا. تقول الترجمة الإنجليزية

"(..)for what is it to tempt God?)،

وتقول الترجمة الألمانية:

"was heißt denn das: Gott versuchen?"

ليس الإيمان فسحة أخلاقية مأمونة العواقب؛ ولا سياسة حواس أو مذهبا في السعادة. بل هو منطقة رعب يسقط تسقط فيها النفوس التي تتجرّأ على الدخول في علاقة مع مفارقة الحياة، الحياة بوصفها كياناً زائلا. الإيمان هو جرأة على "غواية" الله أي على تجريبه بوسائل بشرية. هو اختبار محفوف بالمخاطر لإمكانية الله في أفق البشر. ولذلك ليس الإيمان "عقيدة" مكرّسة إلاّ عرضاً. وربما لا ينبغي له. الإيمان ليس مؤسسة بل هو حركة تشكيلية. وذلك لأنّ الله ليس صنماً، بل هو إمكانية تجريب لما لا يمكن فهمه لكنّه يتخلّل وجود البشر من الداخل. يقول كيركغارد: "هذه الحركة هي حركة الإيمان، وهي ستكون ذلك دائما، حتى ولو أرادت الفلسفة، في سعيها إلى خلط المفاهيم، أن تجعلنا نعتقد أنّها تمتلك الإيمان، حتى ولو كان اللاهوت يريد أن يدفع ثمناً مناسبا له"(ص71).

ثمّة إذن فرق مزعج بين الإيمان ومجرّد الاستسلام. لا يكفي أن نجرؤ على تعطيل العلاقة السببية بأنفسنا حتى نؤمن. العقل ليس عدوّ الإيمان. بل هو يقف على صعيد آخر من علاقتنا بالعالم. يظلّ العقل دائما فلسفيّا. نعني جرأة على القيام بحركة ما تتخطّى الرأي اليومي حول العالم الذي نعيش فيه. ولذلك بإمكان الفيلسوف أن ينجز حركة الاستسلام المقصودة هنا؛ أي الكفّ عن الطمع في إدراك ما لا يُدرك ومعاملته بما هو كذلك؛ أي بوصفه مُحالاً أو شيئا غير قابل للفهم علينا التعامل معه. لكنّ الفلسفة تصبح مجرّد "خلط للمفاهيم" عندما تريد أن تكون مؤمنة. لا يؤمن الفلاسفة إلاّ عرضاً، أي وفقا لحاجات غير فلسفية. الفلسفة هي مؤسسة العقل، وسوف تظلّ كذلك حتى وهي تحاكمه أو تؤرّخ له أو تقوّمه أو تفكّكه أو تكتب سيرته الخاصة. ترتبط الفلسفة دوما بقدر من "الشجاعة"؛ هي حركة شجاعة لوضع الأنا البشري في مقام معيّن. لكنّها لا تستطيع أن تعده بأيّ مضمون دعويّ. قد تحرّره من أوهامه لكنّها لا تقدّم له أيّ مضمون جاهز حول ذاته العميقة.

قال كيركغارد: "الاستسلام لا يقتضي الإيمان؛ ذلك أنّ ما أكتسبه من الاستسلام هو وعيي الأبدي؛ وهذا بمثابة حركة فلسفية بحتة امتلكت الشجاعة على القيام بها عندما تطلّب الأمر ذلك، والتي أستطيع أيضا أن أفرضها على نفسي...من أجل أن أستسلم، لا يلزم الإيمان، إلاّ أنّه ضروريّ حتى أحصل على أدنى شيء ما وراء وعيي بالأبدية؛ وتلك هي المفارقة."(نفسه).

الفلسفة شُجاعة لكنّها لا تحتاج إلى الإيمان؛ والإيمان مفارقة لأنّه يعيش ما لا يمكن أن يفهمه. كلّ فلسفة رسميّة حول الدين عبارة عن خلط للمفاهيم بشكل يجعل الإيمان مشكلا تأمّليّا؛ والحال أنّ الإيمان هو مفارقة أية علاقة متناقضة ولكن حيّة بالله بوصفه يشير إلى إمكانية "الوعي بأبديّتي" (la conscience de mon éternité). ربّما يمكن لنا أن نجرّب الشعور بأبديّتنا من دون حاجة إلى تأليه. وهذا بالضبط هو المشكل: وحده الإيمان يحوّل الأبديّة (تجربة وثنية) إلى خلود (تجربة دينيّة).

أمّا الصيغة التي يضمّنها كيركغارد هذه النقلة المثيرة، فهي هذه: "إنّ الوعي بأبديّتي هو محبّتي تجاه الله" (نفسه).- في الترجمتين الألمانية والإنجليزية تأتي الصيغة مختلفة قليلا نحو هذا: "إنّ وعيي الأبدي (mein ewiges Bewusstsein، my eternal consciousness) هو محبّتي لله". ولكن ما هو المغزى الفلسفي هنا؟

أربع قضايا خطيرة هنا تتمّ الإشارة إليها: أ. الإيمان وعي بأبديّتنا أو وعي أبديّ يجتاحنا، وليس علاقة ضروريّة بالآخرة اللاهوتية؛ ب. أنّ الإيمان هو بذلك إمكانية عميقة داخل طبيعة البشر، وليس عزوفا عدميّاً عن مقام البشريّة؛ ج. أنّ الإيمان لا يتخطّى كونه "محبة الله" فحسب؛ د. أنّ الإيمان نوع من التجريب الحرّ الذي يدور حول إمكانية ترجمة "الوعي بأبديّتنا" إلى "محبّة لله" مجرّدة عن أيّ اعتبار آخر. - هذه القضايا هي تصريفات مختلفة لمعنى المفارقة: أنّ الأبدية لا توجد خارجنا؛ أنّ الإيمان يأتي من داخل الذات؛ أنّ الإيمان تجربة حبّ من نوع خاص؛ أنّ الإيمان تجريب أو ترجمة من دون أيّة ضمانات.

قد تكون الفلسفة هي أروع وعي بأبديّتنا؛ وهذا هو ما تجرّأ عليه الوثنيون اليونان. لكنّ مجرّد الوعي بالأبدية لا يكفي كي يدخل البشر في منطقة المفارقة. هنا يعوّل كيركغارد على مفهوم مثير عن "الاستسلام" أو "التسليم" حتى يمكن بلورة نمط الإيمان الذي يقترحه. إنّه عبارة عن "حركة يقوم بها الأنا نفسه، والثواب عليها ليس شيئا آخر سوى الأنا نفسه في وعيه بأبديّته"(ص72). الإيمان إذن مكافأة ولكن ليس من كائن آخر، بل هي مكافأة الأنا البشري لنفسه على طموحه لأن يكون أبديّا. قال: "ينبغي أن يكون لدينا شجاعة بشريّة بحتة كي نتخلّى عن كلّ زمانيّة من أجل أن نظفر بالأبديّة"(نفسه). ولكن ما هو موضوع هذا النوع من الشجاعة؟ - ليس الإيمان طمعاً في آخرة كسولة تقبع في عالم آخر لا يرانا، بل هو فقط، حسب تعبير كيركغارد، "الشجاعة المتواضعة على المفارقة من أجل إدراك كلّ الزمانية بفضل المحال، وهذه الشجاعة هي شجاعة الإيمان"(نفسه).

ما يصبو إليه كيركغارد، المؤمن القلق، ليس الدفاع عن هذا التديّن أو ذاك؛ بل إدراك نواة الإيمان باعتباره مشكلا بشريّا بحتاً. ولذلك هو ينبّهنا إلى أنّ "كلّ المسألة تتعلق بالزمانية، بما هو متناه"(ص73)، وليس بأبديّة تأمّلية ينصبها العقل الحجاجي أينما يريد. الإيمان زمانيّ أو لا يكون. أي متناه أو لا يكون. إنّه معركة التغلّب على التناهي بواسطة المحال. لا يؤمن البشر إلاّ لأنّهم زائلون. الآلهة لا تؤمن. وهم يؤمنون من أجل الحصول على مكافأة ما أو ثواب ما. وهذا الثواب هو الوعي بأنّهم أبديّون، أيضا، وليس فقط دهريّين. يعرف المفكّر الذي يأخذ الإيمان محورا لقلقه أنّ الأمر لا يمكن حلّه بمجرّد استعمال المفاهيم، بل عليه أن يعيش قلق السؤال بقدر ما يفكّر في حلّه. يتعلق الأمر بتجربة معنى، وليس بصياغة تأمّلية. ولذلك قد يتعطّل القلق في مجرّد "أوجاع الاستسلام" أمام اللامتناهي. يؤكّد كيركغارد على هذا الجانب: يمكن التسليم بعبثيّة الكيان الإنساني، لكنّ ذلك لا يجعل منك إلاّ "متشرّدا" ميتافيزيقيا، أمّا الإيمان فهو قلق انتصر على أوجاع الاستسلام للمحال وانتصب أمام نفسه بوصفه "السعيد الوحيد، والوريث المباشر للعالم المتناهي"(ص73). وهذه هي النتيجة العليا: "العجيب هو أن تعيش في كل لحظة سعيدا ومبتهجاً بفضل المحال"(نفسه).

إنّ المكافأة الحقيقية للإيمان الحرّ إذن ليس السعادة الأخرويّة بل المحال، نعني الوعي بأبديّتنا بوصفها نمط الثواب الوحيد المتاح لطبيعتنا. الإيمان هو إعادة إدراك معنى الأشياء في العالم بواسطة المحال. ولذلك يبدو الإيمان لدى كيركغارد نوعا من سياسة المحال، ممّا يجعل "انفعال الإيمان" مختلفا تماما عن غيره، وذلك أنّه "حركة قائمة على مفارقة" (ص77) وليس حركة متاحة يمكن لأيّ كان من "المعاصرين الرافضين للوقوف عند الإيمان" (ص76) أن يقدم عليها. وهنا يميّز كيركغارد بين الممكن واللاممكن في على صعيد الإيمان: "ما يستطيعه كلّ إنسان هو حركة التسليم اللامتناهي...أمّا الإيمان فهو مسألة أخرى. ولكن ليس مسموحا لأيّ أحد أن يجعل الناس يعتقدون أنّ الإيمان شيء لا أهمّية له أو شيء يسير، في حين أنّه على الضدّ من ذلك هو أعظم الأشياء وأكثرها إزعاجاً"(ص78).

لم يؤوّل كيركغارد قصّة النبي إبراهيم إلاّ من أجل أن يكشف عن هذا الطابع المزدوج في تجربة الإيمان: أنّها تجربة قلق مرعبة، لأنّها تتطلّب قرارات بواسطة المحال؛ لكنّها في المقابل تجربة بشريّة بحتة، لأنّها منبثقة من زمانيتهم. كان إيمان إبراهيم مفارقة: عليه أن يذبح ابنه مرضاة لإلهه. ولذلك ما لبث كيركغارد يؤكّد على ضرورة أن "نتعلّم الارتعاب من المفارقة"(ص79) التي ينطوي عليها الإيمان، وألاّ نحصره في سياسة الذنب. وهي مفارقة تتجلّى حسب كيركغارد على أنحاء شتى: المفارقة التي "تجعل جريمةً ما فعلاً مقدّساً ومرضيّا لله"، "مفارقة لا يمكن لأيّ استدلال عقلي أن يختزلها"، مفارقة أنّ "الإيمان يبدأ حيث ينتهي العقل"(ص81).