العنف في فلسفة اللغة عند هابرماس


فئة :  ترجمات

العنف في فلسفة اللغة عند هابرماس

العنف في فلسفة اللغة عند هابرماس([1])

بقلم: سامانثا أشيندن

ترجمة: حسن احجيج[2]

سجّل العديد من الباحثين أنّ السلام ابتكارٌ حديث العهد، فلا يتجاوز عمره (200) سنة، وأنّ إيمانويل كانط هو أبرز الفلاسفة الذين قاربوه[3]. ويمكن أن ننسب هابرماس بشكل مباشر إلى كانط؛ فهما معاً يقتسمان المسلّمة القائلة بوجود انسجام أصلي (ومستقبل مثالي) ينحدر منه العنف والشر. يرى كانط، كما يرى هابرماس، أنّ السلام أو الإجماع له أولوية على العنف من الناحية الكرونولوجية والأنطولوجية. ويمكن ملاحظة هذا التصوّر في مذهب الرعاية الإلهية[4]، الذي يتضمّنه عمل كانط (السلام الدائم)، وفي مقاربته الاشتقاقية التي تُرجِع مصدر الشر إلى اعتباط الإرادة الحرة (Willkür)[5]· في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل)[6]. ويبدو هذا التصوّر واضحاً في فلسفة اللغة عند هابرماس، التي يضع فيها التواصلَ المشوَّهَ بشكل نسقيّ في المرتبة الثانية، ويجعله مشتقّاً من أفق الإجماع التواصلي؛ وكذا في مقاربته السوسيولوجية للطريقة التي ينفصل بها النسق عن العالم المعيش، وفي مقاربته للإمكانية المستقبلية للكوسموبوليتانية. وبالفعل، يعلّق هابرماس بصراحة، وهو يتفكّر في (السلام الدائم) لكانط، بأنّ هناك حاجةً إلى إعادة صياغة فكرة كانط في ضوء «الوضع العالمي المعاصر»؛ حيث تصوّر السلام كعملية يجب تحقيقها من خلال التمييز الصحيح بين السياسة والقانون والأخلاق بطريقة يمكن أن تساعد على «تحوّل عالمي لحالة الطبيعة بين الدول إلى نظام قانوني»[7]. يحظى السلام لدى الكاتبين معاً بأولوية كرونولوجية وأنطولوجية، بينما يعتبران العنف حرماناً أو نقصاً.

هكذا يمكن وضع هابرماس في مصاف أولئك الفلاسفة، أمثال: هوبس وشميت، الذين تنطلق دراساتهم من مسلمة العنف الأصلي، والذين تميل استدلالاتهم إلى الارتباط بالواقعية السياسية والرومانسية[8]. لكن يمكن أيضاً أن نضع أعمال هابرماس في تعارض مع أعمال علماء الاجتماع التاريخي الذين يعترفون للعنف بدور مركزيّ ليس في خلق شروط السياسة فحسب، بل في إدامتها أيضاً[9]. وعلى الرغم من حساسيّة هابرماس السوسيولوجية إزاء الشروط الضرورية لنشأة الدول، يظل العنف بالنسبة إليه، في آخر المطاف، إحدى خصائص السياسة، وليس أحد أشكال تجسيده. إنّ هدفي، في هذا المقال، هو دراسة تأثير هذا التوجّه إلى الانسجام، وما يستتبعه من تآكل للعنف، في أعمال هابرماس. تكتسي هذه النقطة أهمية كبيرة نظراً إلى أنّ هابرماس، بصفته أبرز منظّر نقديّ في جيله، ألهم دراسات كثيرة في النظرية القانونية والسياسية والعلاقات الدولية والتخصصات المعرفية ذات الصلة. يدّعي العديد من المفكّرين أنّ أعمال هابرماس هي التي تحتوي على أقوى إمكانيّة للنقد الاجتماعي المتنوِّر، وإعادة توجيه السياسة العالمية نحو اتجاهات أكثر سلمية.

جاء هذا المقال نتيجة قلقٍ صاحبني لمدة طويلة وأنا أقرأ أعمال هابرماس، ولم تفعل كتاباته المتأخرة حول المذهب الدستوري والقانون الدولي غير تأجيج هذا القلق. لقد حاول هابرماس بجديّة وثبات نزع طابع التعالي عن النقد الاجتماعي؛ إذ يؤكّد أن الميتافيزيقا لم يعد لها مكان في العالم الحديث، وخصوصاً بعد كانط[10]. وأنا أميل إلى هذا الاعتقاد؛ ذلك أنّ المحاولات المعاصرة لضمان مبررات ميتافيزيقية أو أسباب أنطولوجية للاستدلالات يبدو لي أنّها تجاوزت ما يمكن أن ندّعي بشكل مشروع أنّنا نفهمه، ما أدى إلى اللحظات الدوغمائية والمهدوية التي تعيد ابتكار النقد الاجتماعي من الزاوية الدينية. ومع ذلك، بقدر ما نجح الانتقال ما بعد الميتافيزيقي عند هابرماس[11]، يسلّمنا رفض الميتافيزيقا والأنطولوجيا للمذهب الإجرائي الضئيل جداً على مستوى التبرير. إنّ الاستدلال، الذي أريد تقديمه هنا، هو أنّه إذا قبلنا حجج هابرماس المتعلقة بالوضع ما بعد الميتافيزيقي للعقلانية التواصلية والإجرائي الخالص، فإنّ عمله سيواجه المعضلة نفسها التي واجهها عمل كانط في ما يخص العلاقة بالشر. إنّ محاولةَ كانط التعرّف إلى المقاربة الإجرائية الخالصة، ومن ثَمَّ الكونيّة، للتفكير الأخلاقي موجهةٌ لإنتاج معيار للاستقلالية كذاتٍ تعطي نفسها قانونها الخاص. لكنّ هذا الاستدلال الإجرائي الخالص يمكن عكسه؛ حيث إنّ كانط نفسه لاحظ السيناريو المخيف للذات الراغبة في الشر الجذري[12]. ليس هدفي في هذا المقال اقتراح أن هابرماس خاطئ بالمعنى الكلي، تماماً مثلما لا يمكن اعتبار كانط خاطئاً جملة وتفصيلاً، بل إنّ هدفي بالأحرى هو تسليط الضوء على المأزق الذي يكشف عمل هابرماس عن أنّه «مأزقنا». إن الدعوى التي أريد تقديمها أنّ تركيز هابرماس على القانون الإجرائي الخالص والديمقراطية التشاورية، على الرغم من أنّه يبدو الطريقة الوحيدة التي تستجيب بشكل ملائم للتعددية ونهاية الميتافيزيقا والدين باعتبارها استراتيجيات تبريرية، له في الواقع جوانبه المظلمة: إنّ إجرائية هابرماس تفتح نفسها لمشاكل انحرافها الممكن دون أن تتمكّن من التغلّب على مشاكل التأسيسية السياسية.

ومن أجل القيام بهذا الاستدلال، سيقوم المقال أولاً بتحديد موقع عمل هابرماس في النقاشات الدائرة حول العنف، موضحاً أنّه بينما يتصوّر السلام شيئاً سابقاً للعنف، فإنّه من الغرابة أن يفسّر العنف كظاهرة من المحتمل أن تكون منتشرة في كلّ مكان. وسأناقش في القسم الثاني محاولة هابرماس فصل السلطة عن العنف من أجل تأسيس مشروعيّة القانون على إمكانيّة التوصّل إلى إجماع في الآراء بما هو مختلف نوعياً عن الإكراه. ومن أجل القيام بذلك، يدافع هابرماس عن فصل جذري بين استخدام اللغة للكشف عن العالم واستخدامها لحلّ المشاكل؛ وأحاجج بأنّ هذا التمييز لا يمكن الدفاع عنه. وسأقدّم في القسم الثالث بعض الأفكار حول التداعيات القانونية والسياسية لمقاربة هابرماس للغة، ولاسيما ما يتعلق بمحاولة الفصل بين القوة والإجماع العقلاني. وأنتقل إلى كانط لأوضح أنّ الحجة الإجرائية الخالصة غير قادرة على الحيلولة دون انقلابها على ذاتها، مع احتمال إنتاج آثار منحرفة، قبل تعقب آثار هذا المذهب الإجرائي في عملية تخليص هابرماس للغة السياسية من السياسة. والحجة المقدّمة هي أنّ هابرماس يقدم معالجة منقّحة للسلطة السياسية المشروعة، التي تخلص الصراعات السياسية من السياسة، وتقيّد بشدة دور العصيان المدني، وتتركنا عُزَّلاً في مواجهة غياب الإجماع. وفي الأخير، يتناول المقال التناقضات التي يحتوي عليها تقديم هابرماس للمشاكل المعاصرة من أجل مساءلة استدامة مقاربته الإجرائية الخالصة.

هابرماس يتحدث عن العنف:

يبدو، للوهلة الأولى، أنّ أحد أبرز ملامح عمل هابرماس عدم وجود مناقشة صريحة ومستمرة للعنف؛ وهذا أمر غريب بالنسبة إلى «نظرية نقدية» كما يقول أونيل[13]. في الواقع، يتصوّر هابرماس العنف في شكله الأقصى، باعتباره «تواصلاً مشوهاً بشكل نسقي»[14]، بيد أنّ هذا التصور يستند إلى فكرة منطقية سابقة للإجماع، يمكن أن يقاس عليها التشويه، حيث يُدرَكُ العنفُ على أنّه مشتق. ومعنى ذلك أن فكرة الانسجام العقلاني، وإمكانيّة التوصل إلى إجماع عقلاني، يَعدّها هابرماس سابقة للعنف من الناحية المنطقية والكرونولوجية، وتوجه، في الوقت نفسه، تصورَه للعقلانية التواصلية كقدرات عقلانية موجهة إلى المستقبل. يمكن أن نوضّح الطابع الواسع والثانوي في الوقت نفسه لمفهوم العنف في فكر هابرماس من خلال العودة إلى النقاشات الأخيرة حول العنف. إنّ واحداً من التمييزات الأساسية هو التمييز بين أنصار التعريف الضيق للعنف كأذى جسدي، وأولئك الذين يوسعون المفهوم ليشتمل على الأبعاد الرمزية والبنيوية. يقدّم معجم أوكسفورد تصوراً ضيّقاً للعنف يرتكز على الأذى المادي: «إنه ممارسة القوة المادية لإحداث إصابة أو ضرر لشخص، ممتلكات... إلخ؛ إنّه سلوك أـو معاملة عنيفين جسدياً... إنّه الممارسة غير المشروعة للقوة المادية»[15]. يحظى التعريف الضيق بدعم مؤلفين أمثال: جون كين، وشان أونيل[16]؛ اللذين يركّزان على أهمية جعل مفهوم العنف يقتصر على القوة المادية، وإلا فإن توسيعه سيجعله يفقد طبيعته النقدية. وفي الطرف الآخر من الطيف، يوجد أولئك الذين يركزون على الطابع الرمزي والبنيوي للعنف، ومن بينهم: بورديو، وباتلر، وغالتونغ، وهاريس، ولوكس، وجيجيك[17]. ويمكن أيضاً تقسيم هذه المجموعة الأخيرة؛ فمن جهة، هناك من يرى أنّ «العنف يحدث عندما يخضع بعض البشر لقوّة مؤثرة تجعل إنجازاتهم الجسدية والعقلية الفعلية أقلّ من إنجازاتهم الممكنة»[18]. ومن بين هؤلاء: غالتونغ، وبورديو، ولوكس. ومن جهة أخرى، هناك من يشدّد على «العنف المعياري» أو «العنف البنيوي»، الذي يدعون أنّه مرتبط باللغة، ومن بين هؤلاء باتلر وجيجيك. يرتكز هذا الأخير على مقاربة هيغل للعنف التي تأخذ الترميز بعين الاعتبار: «تبسط اللغة الشيء المشار إليه، حيث تختزله في خاصية واحدة. إنّها تفكك الشيء، وتدمّر وحدته العضوية، وتتعامل مع أجزائه وخصائصه كأشياء مستقلة. إنّها تدرج الشيء في حقلٍ للمعنى هو في نهاية المطاف خارجي عنه».[19]

هذا النوع من العنف يحاول تسمية كلّ ما أشار إليه أدورنو في مناقشته المنطق الهوياتي للعقل الأداتي. يرى أدورنو أنّ مفهوم العنف لا يستنفذ الشيء المدرَك؛ بل يبقى هناك شيء يشير إلى بهتان الهوية.[20] وبالمثل، تشير باتلر إلى وجود «العنف المعياري»، وهو عنفٌ يمكن العثور عليه في قلب اللغة طالما أنّ اللغة تفرض تصنيفاً بالضرورة. وتؤكّد الباحثة أنّ عنف التصنيف هذا يسمح بممارسة العنف المعترف به بسهولة كبيرة، وهو عنف القوّة المادية، ويمحو في الآن ذاته هذا الشكل من النظر من خلال إضفاء الطابع المعياري عليه.[21]

يمكن أن نستعمل هذا التمييز بين العنف المادي من جهة، والعنف الرمزي والبنيوي من جهة أخرى، للشروع في مقاربة تصوّر العنف الذي يخترق أعمال هابرماس. يتميّز تصوّر هابرماس للعنف بتنوّع بنيوي واسع، لكنّه مؤطّر بنقد الشروط الاجتماعية التي تحول دون التحقيق الكلي للحياة البشرية. لا يتطابق هذا التصوّر مع التصوّر البنيوي الواسع للعنف الذي يقدّمه باتلر وجيجيك من بين آخرين، ولاسيما أنّ هابرماس لا يعترف بقوّة الاستدلال ما بعد البنيوي الذي تفرضه اللغة. إنّ هذه المقاربة الاشتقاقية أو الثانوية للعنف هي التي تمكّن هابرماس من أن ينتصب خلفاً لكانط، بصفته فيلسوف السلام تحديداً. ويظهر ذلك في نظريته السوسيولوجية وفلسفته اللغوية، حيث يسمح له بتصوّر المجتمعات الحديثة أنظمةً ذات سلام داخلي، واللغة وسيطاً لتواصل غير مشروط محتمل.

يقارب هابرماس، في دراساته السوسيولوجية، الدولة الحديثة كنتيجة لعمليات التمايز والعقلنة، ويحاجج خاصةً على أنّ الدولة والاقتصاد انفصلا بفعل العقلنة عن سياقات العالم المعيش للتفاعل التواصلي، وأصبحا أنظمةَ تواصلٍ منظمةً أداتياً من خلال المال والسلطة[22]. يستند هابرماس إلى فيبر ليصف الدولة الحديثة كبنية إدارية معقلَنة تتميّز بمطالبتها باحتكار مشروعية استعمال القوة، ويستند إلى بارسونز ولومان في وصف السلطة كوسيط تواصلي أداتي «متحرر من اللغة». وهكذا يبدو للوهلة الأولى أنّ سوسيولوجيا الدولة الحديثة عند هابرماس تتناغم مع علماء اجتماع التاريخ والسياسة الذين عرّفوا الدولة بصفتها تنظيماً يطالب باحتكار مشروعية استعمال العنف، وعرّفوا السلطة المنظَّمة بصفتها وسائل عملها العادية[23]. لكنّ دراسات هابرماس لا تقوم بشيء يُذكر لإبراز دور العنف في عملية تكوين الدولة واشتغالها؛ بل إنّه يركز بالأحرى على التغيير الداخلي الناتج عن تطوّر تقسيمات أعقد للعمل وأنظمة تواصل معقلَنة[24]. وفي هذا الإطار، يكون للإكراه المنظَّم إدارياً دور إيجابي وتقدّمي في الحفاظ على الأنظمة المعقدة؛ فبحسب هابرماس، إنّ تطور السلطة الإدارية في الدولة الحديثة ضروريّ لتعقد النظام.

إلا أنّ هابرماس يعترف بأنّ إمكانيّات ما يمكن تسميته العنف الرمزي تشكّل جانباً مهماً من جوانب اشتغال السلطة الإدارية. بالفعل، يُظهِر الجزءُ الثاني من كتاب نظرية (الفعل التواصلي) انشغالَ هابرماس بهذا النوع من العنف المدرَك من خلال الوصف الإداري المغلوط لممارسات العالم المعيش؛ وقد لخّص هذا الموضوع في أطروحته (استعمار العالم المعيش)[25]. يطلق هابرماس، مثل فيبر، على القوة الإدارية مفهوم (Gewalt) (العنف)؛ إلا أنّه، على خلاف فيبر، يساوي القوة الإدارية واستعمال القوة بالسلطة (Macht)، التي يتصوّرها شكلاً مميزاً للسلطة التواصلية التي يَعدّها سلطة «تشريعية»، والتي تنبثق من سياقات العالم المعيش للفعل التواصلي. يستعمل هابرماس هنا تمييز حنّة أرندت بين العنف والسلطة من أجل التمييز بين القوة التواصلية من جهة، والقوة الإدارية المدرَكة أداتياً من جهة أخرى.

تميّز أرندت بين السلطة والعنف بطريقة تجعل منهما مفهومين متعارضين: «إن السلطة والعنف متعارضان؛ فعندما يمارس أحدهما حكماً مطلقاً يغيب الآخر»[26]. تعتقد أرندت أنّ العنف أداتية صامتة، بينما تنشأ السلطة عندما يجتمع الناس لممارسة السياسة. يستخدم هابرماس هذا التقسيم بالضبط، ليشير إلى الفرق بين القوة التواصلية والقوة الإدارية؛ إذ يؤكد هابرماس أنّ السلطة (Macht) «تشريعية»، ويجب أن تكون متعارضةً بقوّة مع العنف (Gewalt). يعترف هابرماس بأنّ القوة المشروعة للسلطة الإدارية، التي يشير إليها لفظ (Gewalt)، تشكّل جزءاً من السياسة، لكنّ ذلك يعني التنظيم الإداري لآلة الدولة، الذي يتعارض مع القوة التواصلية للناس الذين يتصرّفون معاً[27]. ويدّعي هابرماس أنّ هذا التمييز يسمح له بعزل العنف أو الإكراه. إنّ العنف في هذا النموذج لا ينتمي إلى السياسة، ويعبّر عن فشلها، هذه السياسة التي ينظر إليها هابرماس على أنّها النشاط العملي للبشر الناتج عن الاتفاقات في اللغة.

وعليه، إنّ العنف في رأي هابرماس مقولة مشتقة، وذلك بمعنيين: أولاً، إنّه مشتقّ بالمعنى الكرونولوجي، حيث إنّ الدولة وأنظمتها الإدارية مفصولة عن سياقات عالمها المعيش بفعل عملية التطور الاجتماعي، علماً بأنّ هابرماس يتصوّر العالم المعيش في المقام الأول سياقاً للمعنى المشترك والتفاعل وليس سلطةً؛ ثانياً، إنّه مشتقّ بالمعنى المفهومي، بما أنّ الإجماع العقلاني هو أفق الطابع المفهومي للتواصل، وبما أنّ العنف الرمزي، المعرَّف بصفته «تواصلاً مشوهاً بشكل نسقي»، يمثّل انحرافاً طفيلياً للتواصل[28]. وهكذا إنّ العنف واللغة بالنسبة إلى هابرماس متناقضان من حيث المبدأ؛ إذ يمكن استخدام اللغة بطريقة عنيفة، لكن كـ «تواصل مشوّه» فحسب. إنّ الحجاج العقلاني، الذي يمكن للإمكانيات التي يحتوي عليها أن تجعل استعمالنا للغة بما هي كذلك استعمالاً منطقياً، يمكن وصفه بـ «لغة صورية بحتة»: إنه «يقصي القوة برمتها... باستثناء قوة الحجة الجيدة»[29]. ولكي نفهم كيف يتصوّر هابرماس لحظة «التشريع» في سلطةٍ منفصلة عن القوة بفضل «القوة التلقائية» (unforced force) الخاصة بالحجاج، ولكي ندرس تأثير هذا التصوّر في مقاربته للسياسة، أرى أنّ من الضروري فحص التمييز المفهومي الذي يقيمه بين استعمال اللغة من أجل الكشف عن العالم، واستعمال اللغة من أجل حلّ المشاكل. وهذا ما سنقوم به في القسم التالي.

التمييز بين الإكراه والإجماع: فصل هابرماس بين استعمال:

اللغة لكشف العالم واستعمال اللغة لحلّ المشاكل:

تقوم فكرة «القوة التلقائية» للحجّة على نموذج اللغة، باعتبارها حلّاً لمشكلة، حيث يتمّ تطبيعها بواسطة مسلماتِ نظريةِ فعل الكلام. يستعير هابرماس مقاربة جون أوستن لشروط الملاءمة (felicity conditions)، ويستند عليها ليقارب اللغة باعتبارها حلاً ثابتاً وشفافاً لمشكلة، مع إحداثيّات سياقية واضحة[30]. لقد أثّرت نظريّة أفعال الكلام بقوّة في مناقشات هابرماس السياسية والقانونية، كما سنلاحظ في القسم الثالث. إنّ فصل لغة الحجاج («الفلسفي» أو لغة «حل المشكلة») عن الأشكال الأخرى (التي تبدو أقلّ شفافية)، بما هو فصل ضروريّ لكي يتحقّق التمييز بين السلطة والعنف (Macht/Gewalt)، يوفّر بدوره الأساس لسياسة سلميّة خالية من العنف. من المعروف أنّ هابرماس يستخدم فلسفة اللغة العادية للدفاع عن أولوية الاستعمال التواصلي للغة. تقترح هذه الحجة أنّ أساس اللغة هو محاولة الوصول إلى التفاهم، وأنّ استعمالات أخرى للغة استعمالاتٌ مشتقةٌ من هذا الاستعمال الأساسي ومتطفّلة عليه[31]. إن المقاربة الشاملة لاستخدام هابرماس النقدي لفلسفة اللغة العادية تتجاوز نطاق هذا المقال[32]. لذلك إنّ هذا القسم يعتمد على انتقادات معروفة وُجِّهت إلى استعمال هابرماس فلسفة اللغة العادية؛ وذلك من أجل الكشف عن الآثار الخاصة لهذه الفلسفة في سياسة هابرماس. وسيعالج هذا القسم خاصةً التمييزَ بين استعمال اللغة لحلّ مشكلة، واستعمال اللغة لكشف العالم، الذي يقوم عليه تصوّر هابرماس للغة باعتبارها حاملاً شفافاً للتواصل المستقلّ عن القوة. إنّ هدفي هو التساؤل حول اعتقاد هابرماس أنّه يمكننا معرفة ما يشكّل «مشكلة» ينبغي حلّها في إطار استعمالات اللغة لحلّ مشكلة، وتقييم اقتراحه القاضي بأنّنا قادرون على القيام بفصل دقيق بين اللغات والدين، وبين العلم والفن. سوف أقترح أنّ هابرماس يفترض أنّه بمقدورنا تحديد طبيعة المشكلة السياسية وطبيعة المشاكل الأخرى بطريقة محايدة، بينما يظل هذا الافتراض غير واضح.

يمكن أن نبدأ بالإشارة إلى أنّ الأهمية الكبيرة، التي يوليها هابرماس للغة حلّ المشاكل التواصلية، تدعم مناقشته لديريدا في كتابه (الخطاب الفلسفي للحداثة). يؤكّد هابرماس، في هذا السياق، أنّ ديريدا يقوم بـ «التسوية بين جنسَي الفلسفة والأدب»، حيث «يضعف قوة نقد العقل نفسه»[33]. لكنّ ديريدا يدّعي أنّه لم يقم بهذه التسوية، وإنّما أراد أن يوضح أنّ الفلسفة تستعمل لغة طبيعية، ومن ثَمَّ إنها أكثر غموضاً ممّا تدّعي ومما تبدو لنفسها. إنّ الفلسفة «تمارس الإنكار فيما يتعلق بلغتها»[34]. ليس هناك ولا يمكن أن يكون هناك تمييز راسخ ونهائي بين الأجناس. إنّ غرضي من التركيز على هذا النقاش هو توضيح الخصائص التطبيعية لفلسفة اللغة عند هابرماس، وهي خطوة ضرورية إذا أردنا أن ندرس تصوره للعلاقة القائمة بين العنف والسياسة.

يقبل هابرماس استناد نظرية أفعال الكلام إلى معايير الثبات والسواء للسياق الذي يحدث فيه المنطوق الإنجازي؛ أي ما يسمّيه جون أوستن «شروط الملاءمة»[35]. يطرح ديريدا تساؤلات جذريّة حول هذا التمييز الأساسي بين الشروط «الملائمة» والشروط غير «الملائمة» من خلال الإشارة إلى أنّه لا يمكن أبداً لسياق التلفظ أن يكون ثابتاً بشكل كليّ ونهائي. ويلاحظ أنّ تحليل أوستن يستلزم فكرة أنّه يمكن لسياق معين أن يكون «محدَّداً على نحو شامل»، حيث «لا تفلت أيّ بقية من التجميع الحالي»[36]. وكما سنرى لاحقاً، إن هذا الاعتماد على السياق المحدَّد بشكل شامل يميّز نمط اشتغال هابرماس أيضاً. ويمكن أن نبرهن على ذلك بتطوير تساؤلات ديريدا وتطبيق رؤيته على نصوص هابرماس.

يذكر هابرماس أنّ ديريدا يرى أنّ «اللغة بما هي كذلك تتقاطع مع الأدب، أو في الواقع مع ‘الكتابة‘. إن هذه النظرة الجمالية إلى اللغة، التي تتحقّق مقابل الإنكار المزدوج للأحاسيس السليمة للخطاب العادي والشعري، تفسّر أيضاً حساسيّة ديريدا من القطبية المليئة بالتوتر بين وظيفة اللغة كاشفةً للعالم ووظائفها المبتذلة الباطنية»[37]. علاوة على ذلك، «بالنسبة إلى ديريدا، تمثّل العمليات التي تتمّ بوساطة لغوية في العالم جزءاً لا يتجزأ من عالم يشكّل سياقاً يخترق حقّ كلّ شيء»[38]. إنّ ديريدا، بحسب مقاربة هابرماس، يساوي بين الفلسفة من جهة والأدب والنقد من جهة أخرى[39].

يؤكد هابرماس، ضدّ هذه التسوية المزعومة[40]، الحاجةَ إلى تمييز صارم بين الفلسفة والأدب، بين المنطق والبلاغة، بين الاستعمال العادي والاستعمال غير العادي للغة. وعندما يميّز بوضوح بين اللغة الشعرية أو الأدبية واللغة الفلسفية، فإنّه يجادل بأنّ الأولى لغة «تولد العالم» أو «تكشف العالم» (وهو شيء يستلزم وضع القوّة الإنجازية بين قوسين)، بينما الثانية لغة «تحل المشاكل»[41]. ويعتقد هابرماس أنّنا نكتسب المعرفة، ونبني الهويات الشخصية، ونخضع للتنشئة الاجتماعية، ونعزّز الاندماج والاجتماع داخل نمطِ لغةِ حلّ المشاكل. إنّ ادعاء فصل أساسي بين استعمال لغة كشف العالم، واستعمال لغة حل المشاكل يرتبط بدوره بمقاربة هابرماس للتطوّر الاجتماعي كعملية للتمايز التدريجي لمجالات العقلانية ومجالات القيمة[42]. يحاجج هابرماس، حاذياً حذو كانط وفيبر، على أنّ العلم، والأخلاق والقانون، والفنّ المستقل، تشكّل في المجتمعات الحديثة مجالات متمايزة، وأنّ الأنساق الثقافية للفعل الخاصة بكلّ مجال منها تنتج قدرات على حلّ المشاكل بالنسبة إلى العلم والقانون والأخلاق، والتخصّص في كشف العالم بالنسبة إلى الفن والأدب[43]. وهكذا، إنّ الحجج التي تتعلّق على التوالي بالحقيقة القضوية، وصواب المعايير، والأحكام الجمالية، تتحقّق في أشكال حجاجيّة متخصّصة كجزء من ثقافات الخبراء. وبذلك تُسنَدُ إلى النقد الجمالي والفلسفة مهمّة الوساطة بين ثقافات الخبراء و«عالم الحياة اليومية».[44]

باختصار، تضع مقاربة هابرماس القانون والأخلاق والعلم في جانب، والفن والأدب والدين في جانب آخر[45]. يكتب هابرماس عن «تخصّص لغة الفلسفة والعلم لأغراض معرفية»، حيث «يتمّ تطهيرها من كلّ شيء مجازيّ وبلاغي خالص، ويتمّ تخليصها من الخلطات الأدبية»[46] عملياً، على الرغم من أنّه يعترف بأنّ العناصر البلاغية لا يمكن الاستغناء عنها، يؤكّد مع ذلك تبدّد هذه العناصر: «يتم في اللغات المتخصّصة للعلم والتكنولوجيا، القانون والأخلاق، الاقتصاد، العلم السياسي... ترويض العناصر البلاغية التي يتمّ محوها في كلّ الأحوال، ويتمّ تجنيدها لأغراض خاصة متعلقة بحل المشاكل».[47] هنا، بينما يبدو أنّ هابرماس يعترف بالعناصر البلاغية، التي لا يمكن استئصالها من العلم والفلسفة، يدّعي مع ذلك أنّ هذه اللحظات يتمّ احتواؤها، حيث لا تعود مزعجة[48] يبدو لي أنّ هناك على الأقل صعوبتين ملازمتين لمحاولة إجراء تقسيم أساسي بين استعمال اللغة لحلّ المشاكل، واستعمال اللغة لكشف العالم، اللذين يساهمان معاً في محو العنف من تفكير هابرماس؛ المشكلة الأولى تتعلّق بمسألة تعريف المشاكل، والثانية تتعلّق بفكرة الحدود بين مجالات المصداقية.

أولاً، يمكن معالجة الطرق، التي يتمّ بها «ترويض» اللغة البلاغية في استعمال اللغة لحلّ المشاكل المشار إليها أعلاه، على افتراض أنّنا نعرف من قبل حدود المشكلة الخاصة المطروحة للنقاش، وأننا متفقون عليها؛ ومن غير الواضح أنّه يمكن دعمها في ما يتعلق بالمشاكل المتنازع حول تعريفها. وهكذا، بينما يمكن للتمييز أن يكون طريقة مفيدة للتفكير مثلاً في الاختلافات بين دليل تعليمات كيفية إصلاح آلة غسل، ودليل تعليمات كيفية قراءة قصيدة شعرية، فما زلت أريد أن أعترض على الفكرة القائلة إنّه يمكن للمرء أن يستنتج على نحو مفيد تمييزاً تحليلياً صارماً بين لغة حل المشاكل ولغة كشف العالم كما يقترحه هابرماس. لإثبات الاختلاف المقولاتي بين هذين الاستعمالين للغة، يُفتَرَضُ أن صعوبة الحدود بين العلم والقانون والسياسة... إلخ، قد تمّ حلها، وأنّ المشاكل التي ينبغي طرحها موجودة. إنّ السؤال الأول إذاً هو: كيف نعرف متى حددنا وأوضحنا «مشكلة» معيّنة بما يكفي من الدقّة من أجل التوصل إلى «حلّها»؟ ما هو الوصف الملائم أو الكامل لمشكلة معينة؟ قد يكون ذلك بالضبط هو الرهان الذي يدور عليه صراع سياسي. فكر مثلاً في التمييزات المتنازع عليها بين لفظي «المكافح من أجل الحرية» و«الإرهابي» الموجودة في العديد من الحروب الأهلية[49]، أو فكر في إصرار الحكومة الأمريكية على استخدام عبارة «تقنيات الاستجواب المتقدمة» أو لاحقاً لفظ «التعسف» بدلاً من لفظ «التعذيب» لوصف المعاملة السيئة لسجناء «أبو غريب»[50]. إنّ المصطلحات الوصفية المحايدة غالباً ما تكون غائبة في السياقات المشحونة سياسيّاً.

إنّ هابرماس نفسه منتبه إلى ذلك إلى حدّ ما؛ ففي «حوار حول الحرب والسلم»، يعلّق بشكل نقديّ على ميل إدارة بوش وحلفائها إلى «محو التمييزات المهمة» من خلال محاكمة «الحرب على الإرهاب»، «كما لو أن القاعدة لا تختلف عن حملات حرب العصابات لحركات الاستقلال والمقاومة الإرهابية المقتصرة على مناطق ترابية خاصة»[51]. يبدو أنّ ذلك يعكس الاعتراف بأنّ اللغة في السياقات المسيَّسة يكون لها حتماً قوة بلاغية، ولا يمكن تهذيبها بشكل صريح لتحمل القوة التلقائية للعقل وحدها. ومع ذلك، إذا درسنا مناقشات هابرماس لخطابات التبرير والتطبيق في كتابيه (بين الوقائع والمعايير) و(التبرير والتطبيق)، يمكن أن نرى أنّه يعتمد على فكرة أوستن المتعلقة بإمكانية «الوضعيات النموذجية»، التي يمكن أن تتضمّن تعريفاً كاملاً للوضعية وتحديداً لمشكلة «تم وصف خصائصها الوجيهة بأكبر قدر ممكن من الكمال»[52]، وذلك بغية أن يتحقّق خطاب للتبرير أو التطبيق.

يلتقي هذا الطرح بتمييز هابرماس بين الاستعمالين «العادي» و«غير العادي» للغة المشار إليه سابقاً؛ إذ يعرّف الاستعمال العادي للغة بأنّه «منطوقات لغوية عادية نُقِّحَتْ من جميع الحالات المعقدة والمشتقة والطفيلية والمنحرفة»[53]. لكن كيف يمكننا أن نعرف مسبقاً، في السياقات العملية، «الحالات المنحرفة»؟ إنّها مشكلة مهمة تتعلّق بالصراعات السياسية، لكنها تتعلق أيضاً بالعلم؛ فليس من الواضح في هذا النموذج كيف يمكن أن يتحقّق التجديد العلمي والسياسي؛ هل يجب اختزال العلم في التكنولوجيا واختزال السياسة في الإدارة؟[54]. ومن جهة أخرى، ينتقل هابرماس إلى دعم مناقشته للاستخدام العادي للغة بالقول: «طالما أنّ ألعاب اللغة تشتغل، وأن التصورات المسبقة المكوِّنة للعالم المعيش لم تُدَمَّر، فإنّه من حقّ المشاركين أن يعوّلوا على الشروط العالمية التي تُعدّ «عاديةً» في مجتمعهم العالمي»[55]. يبدو هنا كما لو أنّ المعنى يقوم، إلى حدّ كبير، على التحيّز، لكن لا يزال ممكناً أن يكون ثابتاً بشكل موثوق تماماً.

حاول هابرماس أن يحاجج بعد ذلك على أنّ اللغة، في جانبها المتعلق بـ «نمط حل المشاكل»، تتميز بالحياد في ما يخصّ عمليات وصف العالم؛ إنّها مجرّد تقنية خالصة متاحة للتواصل العلمي. لكن هابرماس لا يستطيع أن ينجح في حجاجه إلا إذا كان يتصوّر أنّ الفلسفة والعلم وغيرهما تشتغل على مشاكل قائمة سلفاً. وبما أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّني أغامر بالقول إنّ المشاكل التي تطرحها السياسة والقانون والاقتصاد تتشكّل بفضل طريقة وصفها، وإنّ الموارد البلاغية غالباً ما تكون بعيدة عن «الترويض»، أو متضمّنة في طريقة الوصف. لذلك إنّ الحدّ الفاصل بين الكشف عن العالم وحلّ المشاكل، وبين قدرة اللغة على كشف العالم وفرض خطاطات تفسيرية، ليس واضحاً ولا آمناً.

الصعوبة الثانية، التي تعترض مقاربة هابرماس، تتعلق بمكانة مختلف مجالات المصداقية. يقدم هابرماس مقاربة تطورية لتقدم المجتمعات المتمايزة الحديثة من خلال عمليات العقلنة. ويجادل بأنّ الرؤى إلى العالم الأسطورية والدينية والميتافيزيقية كانت وحدة إجمالية تمّ تقسيمها في ما بعد بواسطة العقلنة مع الاقتراب من «عتبة الحداثة»[56]. يعبّر هابرماس عن هذا التطوّر الأخير بمصطلحات عمليات نزع الطابع السحري عن العالم أو «إضفاء الطابع اللغوي على المقدس»[57]، حيث يتمّ إضفاء الطابع الكلي على أساليب التفكير من خلال الأشكال الإجرائية للعقلانية. ومن ثَمَّ إنّ العقلانية تنتج التمايز بين الدين (الأخلاق والقانون) والعلم (المعرفة) والفن (الجماليات) حيث يضع كلّ واحد منها معاييره الداخلية الخاصة للمصداقية[58].

يؤكّد هابرماس، في مقاله «الفلسفة باعتبارها بديلاً أو مترجماً»، أنّ البنيات المتمايزة الحديثة للعقلانية ليس في حاجة إلى تبرير فلسفي؛ بل إنّها تتطلّب فحسب الوصف والتحليل. يقول: «انقسم العقل على ثلاث لحظات: العلم الحديث، والقانون الوضعي والأخلاق ما بعد التقليدية، والفنّ المستقل والنقد الأدبي والممؤسس؛ لكنّ تعامل الفلسفة مع هذا التفكك كان قليلاً جداً»[59]. ثم يؤكّد هابرماس بعد ذلك أنّ «أبناء وبنات الحداثة» تعلموا كيف يتعاملون مع أبعاد العقلانية (الحقيقة والعدالة والذوق) على مراحل، وليس في وقت واحد. وينتقل إلى القول إنّ هذه «التوجهات نحو التقسيم، التي تشكّل السمة المميزة للحداثة، يمكن أن تشتغل بشكل أفضل دون تبرير فلسفي»، على الرغم من أنّها تطرح «مشاكل الوساطة»[60]. ويحدث ذلك، بحسب هابرماس، عندما تقوم الفلسفة بدور «المترجم لحساب العالم المعيش»، حيث «يمكن بعد ذلك أن تساعد على تحريك التفاعل بين الأبعاد المعرفية-الأداتية والأخلاقية-العملية والجمالية-التعبيرية التي بلغت اليوم الطريق المسدود».[61]

يبدو هنا أن هابرماس يقدم الحجة التالية: إنّ الانقسامات بين التفكير العلمي، والقانون والأخلاق، والفن والجماليات، لا تحتاج إلى تبرير، نظراً إلى أنّها تطوّرت من خلال عمليات التمايز الاجتماعي. فهي بديهية بذاتها. لكنّه سرعان ما ينتقل إلى إسناد قيمة معيارية إلى هذا التمايز باعتباره «تطوراً» تدريجياً، ويضيف ادعاءات جوهرية حول لحظات العقل هذه من خلال ربطها بسياقات خاصة. هذه هي القوة الكامنة خلف انتقاداتٍ لأولئك المفكرين، أمثال ديريدا، الذين يتّهمهم بالتراجع عن إنجازات الحداثة:

«إنّ نقل المعرفة المتخصّصة بدون وساطة إلى المجالات الخاصة والعامة لعالم الحياة اليومية يمكن أن يعرض للخطر استقلالية الأنظمة المعرفية ومنطقياتها المستقلة من جهة، ويمكن أن ينتهك سلامة سياقات العالم المعيش من جهة أخرى. إن معرفةً متخصصةً ذات علاقة بادعاء واحد للمصداقية، وتقفز إلى طيف المصداقية برمّته دون مراعاة سياقها النوعي، تؤدّي إلى خلخلة توازن البنية التحتية التواصلية للعالم المعيش. إن اقتحامات من هذا النوع غير المعقد بما فيه الكفاية تؤدي إلى إضفاء الطابع الجمالي أو العلمي أو الأخلاقي على مجالات معينة من الحياة»[62].

نرى هابرماس يؤكّد، في هذا الاستشهاد، الحاجة إلى حدود واضحة بين العلم، والقانون والأخلاق، والفن، حيث إنّ هذه الحدود، على الرغم من أنها لا تحتاج إلى مبرّرات نظراً إلى أنّها «السمة المميزة للحداثة»، تحتاج إلى مراقبة «الاقتحامات غير المعقدة بما فيه الكفاية» عبر حدودها، التي تؤدي إلى «اختلال توازن» عالم الحياة[63]. باختصار، إنّ افتراض هابرماس لخطاطة تطوّرية يمكّنه من ربط التطور الواقعي للتمايز بالتقييم المعياري لهذا التمايز بأنّه تقدّمي وينبغي الدفاع عنه، في حين أنّ الحاجة المستشعرة إلى مراقبة هذه الحدود تشير في الآن نفسه إلى التوتّرات التي تعتري النسق الفلسفي لهابرماس. إنّ الاعتراف بخصوصيّة مختلف أنواع الأحكام مهمّ بطبيعة الحال: ليست الأحكام الجمالية أحكام فائدة، ولا هي حجج إبستمولوجية. ومع ذك، إنّ مقاربة هابرماس للغة المقسمة بصرامة بين الاستعمال لحلّ المشاكل والاستعمال لكشف العالم، بما هي نموذج تواصليّ حول المشاكل السياسية والعلمية وغيرها، لا يمكن الدفاع عنها طالما أنّها توصي بنموذج للتواصل يتم فيه تجريد اللغة من مهمتها ضمن مجال خاص فقط، وجعل الفلسفة وسيطاً ضرورياً بينها وبين العالم الوسيط. ولكن طالما يجب على الفلسفة أن تتنقل بين ثلاثة مجالات مختلفة من العالم المعيش، فإنّه لا يمكن تحديد لغتها في وقت مبكر، ويجب أن تكون نفوذةً أكثر ممّا يسمح به التمييز بين كشف العالم وحل المشاكل. فضلاً عن ذلك، إذا كانت النظرية والممارسة السياسيتان عاجزتين عن إنتاج العوالم وكذا الحجج، فإنّهما ستكونان من المؤكّد غير قادرتين على «الإقناع»، لكنّهما تظلّان إمّا ضعيفتين وإمّا تنتميان إلى الحساب التقني. ويكتسي ذلك أهميّة خاصة في ما يتعلّق بمحدوديّة قدرة هابرماس على الاعتراف بإمكانيّة وجود نزاعات سياسيّة حقيقية قد تكون عاجزة عن اتخاذ قرار عقلاني.

في كتابه (الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي)، يتضمّن تحديدُ هابرماس لقواعد الحجاج التنبيه التالي: «قد لا يستعمل متحدّثون مختلفون العبارة نفسها بمعانٍ مختلفة»[64]؛ بل يمكن القول بالأحرى إنّ النظرية والممارسة السياسيتين لا يمكن أن تُوجدا إلا مع إمكانيّة تحويل المعاني المتوافرة؛ وكما يقول جيمس تولي، يقتضي التحرّر استعمال الكلمات نفسها بمعانٍ مختلفة[65]. إنّ تأكيد الانفصال الصارم بين استعمال اللغة لكشف العالم واستعمال اللغة لحلّ المشاكل، والأمر بتقوية الحدود الفاصلة بين العلم والقانون والأخلاق والجماليات، يبدو أنّهما يؤدّيان إلى نتيجة (غير منتظرة) هي حرمان المعرفة النظرية والاستدلال الأخلاقي-العملي من كلّ قدرة على النقد، باستثناء توضيح المفاهيم. لذلك لمّا كان تصور هابرماس للغة الفلسفية تصوراً لنسق من الشفرات التقنية أو لوغاريتم، فإنّه يبدو وكأنّه يلغي أكثر المسائل السياسية أهمية.

سأحاول في القسم التالي، توضيح أنّ محاولة الفصل الصارم بين كشف العالم وحلّ المشاكل، والتصور الإجرائي الخالص للتواصل الذي يعد به ذلك الفصل، يسدّان التكافؤ المتعدّد للغة. ويشكّل هذا الانسداد أساس حجج هابرماس القانونية والسياسية على أنّ الخطاب العقلاني يقضي على القوة. إنّ اللغة الفلسفية الإجرائية الخالصة ضرورية لتعزيز التمييز بين السلطة (Macht) والعنف (Gawalt)، الذي تعبّر عنه مقاربة هابرماس المميَّزة لمشروعيّة السلطة السياسيّة المتحرّرة من كلّ أثر للعنف؛ إلا أنّ ذلك يؤدي إلى حرمان مقاربته من إمكانية النظر بشكل صحيح إلى دور القوة في السياسة.

اللغة السياسية: الإجرائية والانحراف:

يقول هابرماس في كتابه (بين الوقائع والمعايير)[66]: من أجل التوصّل إلى الإجماع، يجب على التشاور العقلاني أن يقضي على القوة؛ ففي الوقت الذي يعترف فيه بدور الصراع والتفاوض والفعل الاستراتيجي كأبعاد حتمية للحياة السياسية، وبأنّ النظام القانوني لا يمكنه سوى أن يطالب من يتوجّه إليهم بأن يتصرفوا بطريقة قانونية[67]، فإنّه يحرص على تأكيد أنّه لا يمكن للتشريع المشروع في المجتمعات الحديثة أن يقوم إلا على توافق متوصّل إليه عقلانيّاً[68]. وهذا ما يدعم حجّته القائلة إنّ إواليات التشاور الديمقراطي قادرة على إنتاج قرارات سياسيّة مختلفة نوعيّاً عن القرارات الناتجة عن التفاوض حول المصالح. وعلى هذا الأساس، إن مقاربة هابرماس للحجاج، كعملية تشاور عقلانيّ مؤدّية إلى الإجماع، تؤدي دوراً رئيساً في نظريّته المعيارية للديموقراطية.

إنّ الفكرة، التي مؤدّاها أنّ الإجماع العقلاني يلغي القوّة، تقدّم مقاربة متميزة ومهذّبة للسلطة السياسية. ولكي نتعرّف إلى انعكاسات هذه الفكرة، يجب أن نطور بشكل مقتضب مقارنة هابرماس بفيبر التي أشرنا إليها من قبل. إنّ الدولة، بحسب التعريف الكلاسيكي لفيبر، «جماعة بشرية تطالب بنجاح باحتكار الاستعمال المشروع للقوة المادية داخل مجال ترابي معين»[69]، بينما لا يشير فيبر إلى أنّ الاستعمال الفعلي للقوة هو طريقة اشتغال السلطة السياسية، فإنّ هذه القوة تظلّ في الاحتياط. لذلك يرى فيبر أنّ السلطة المشروعة نفسها ملزمة بممارسة العنف. وبهذا المعنى، فإنّ العنف مرتبط بالدولة ارتباطاً بنيوياً وحتمياً. ويمكن القول إنّ فيبر يرى أنّ العنف يضمن شكلاً اجتماعياً مقنّناً من خلال الدولة؛ إذ لا يتم استئصال العنف بواسطة إواليات الإجماع؛ بل يصبح ممارسة روتينية بفضل الوسائل القانونية والسياسية. وكما أشرنا من قبل، إنّ المفهوم الألماني (Gewalt) يشير إلى ذلك؛ ذلك أنّه يعني العنف عادة، لكنّه يشير أيضاً إلى السلطة أو النفوذ (السلطة المشروعة). رأينا من قبل أنّ هابرماس يضع موقفه في تعارض مع موقف فيبر؛ إذ يفترض وجود سلطة سياسية مستقلة عن العنف: السلطة التواصلية (Macht)، التي يمكن تمييزها بإمكانات الإجماع العقلاني الكامنة في الفعل التواصلي[70]. عندما يطرح موقفُ هابرماس لحظةَ سلطةٍ تواصليةٍ بعيدةً عن تداخل السلطة والعنف (Gewalt) في السياسة، فإنّه يستند إلى إمكانيةِ وجودِ لحظةِ القوة الخالصة (التلقائية) للإجماع العقلاني باعتبارها المسلمة الأساسية والمثالية للتواصل.

يلاحظ هابرماس أنّ حنة أرندت تتصوّر السلطة والعنف كشيئين متناقضين، حيث تُدرك السلطة كإمكانية ينتجها البشر الذين يتصرّفون متضافرين بشكل عمومي[71]. يعيد هابرماس بناء هذا التصوّر كمقاربة لإرادة مشتركة ناتجة عن التواصل غير القسري، ويفتح بذلك تمييزاً بين السلطة (Macht) والعنف (Gewalt)، وهو التمييز الذي يميّز مقاربته عن مقاربة فيبر[72]. وفي الوقت نفسه، يفصل هابرماس هذا البعد لمقاربة أرندت عن تصوّرها الأوسع للسياسية، حيث يدّعي أنّ فصلها بين العمل والشغل والنشاط ينتج مقاربة للسياسة يتمّ بواسطتها استبعاد جميع الأبعاد الاستراتيجية باعتبارها عنفا[73]. وبدلاً من ذلك، يتمسك هابرماس بمفهوم أرندت التواصلي للسلطة باعتباره مفتاحاً لتوليد السلطة السياسية؛ أي ما يسميه «تشريع» السلطة السياسية، لكنّه يلحّ على أنّ الفعل الاستراتيجي أيضاً يشكّل جزءاً من السياسي[74]. وهذا ما يسمح له بتطويرِ تصوّرٍ للسلطة السياسية متجذّرٍ بعمق في فكرة الفعل التواصلي، لكن دون أن يتعارض ذلك مع الأبعاد المنظّمة إدارياً بالضرورة الخاصة بالدولة الحديثة.

إنّ مناقشة هابرماس لأرندت موجزة لكنّها محورية؛ فقد انطلق من هذه المناقشة لإبراز الفروق بين النظرية الحديثة للقانون الطبيعي، التي تدعي أنّ السلطة والعنف مترابطان، وموقفه الخاص الذي يعارض بين السلطة والعنف ويربط بين السلطة والقانون. إنّ الهدف من ادعاء هابرماس أنّ السلطة التواصلية سلطة «تشريعية» هو محاولة التغلب على مشكلة اعتباط الأسس السياسية، الذي يُوجد في تقليد القانون الطبيعي[75]. وهكذا، إنّ خطاب هابرماس وإمكانيّة الإجماع العقلاني التي تشكّل لبّ هذا الخطاب يحلّان محلّ اعتراف أرندت بالحاجة إلى نوع من «القانون الأسمى»؛ وهذا ما ينسجم مع قوله:

«تقوم الدولة الدستورية بمهمّة مزدوجة: يجب عليها ألا تقسم وتوزّع بالتساوي السلطة السياسية فحسب؛ بل أيضاً أن تحرّر هذه السلطة من مضمونها العنيف عن طريق عقلنتها. ويجب ألا تُعتَبَرَ هذه العقلنةُ القانونيةُ للسلطة ترويضاً للهيمنة شبه الطبيعية التي يكون جوهرها العنيف دائماً، ويظلّ عرَضِيّاً تصعب السيطرة عليه؛ بل بالأحرى من المفترض أن يحلّ القانون ذلك المضمون اللاعقلاني، وأن يحوله إلى «سيادة القانون» التي فيها وحدها يمكن للتنظيم الذاتي المستقل سياسياً للمجتمع القانوني أن يعبّر عن ذاته»[76].

إذا تساءلنا «من أين يأتي القانون؟»، فسيكون الجواب «من اللغة»، أو على الأقلّ من شكل العقلانية التواصلية المطروحة في الخطاب. لكن ينبغي أن نلاحظ أنّ صيغة هابرماس لا يمكن أن تقاوم إلا بافتراض نموذج للغة يكون فيه للتوجّه إلى الإجماع الأولوية على استعمالات أخرى للغة، وحيث يكون قد تم «ترويض» العناصر البلاغيّة من أجل تحقيق إجماعٍ مُؤَجْرَأ. لذلك نرى أنه يجب على فلسفة اللغة عند هابرماس أن تقوم بعمل حيوي هنا للتغلب على مشكلة اعتباط البداية. إن فكرة (أو مثال) الإجماع العقلاني باعتباره الهدف المحايث للتواصل توفر بنيةً معياريةً ملازمةً تسمح لهابرماس بأن يدعي التغلب على مشكلة الأسس السياسية. هكذا يُقامُ التعارض بين العنف والسياسة من خلال مقاربة للغة الحجاجية بصفتها ناقلاً شفافاً للمشروعية.

بهذه الخطوة يكون هابرماس قد أفرغ العنف السياسي من أحد معانيه الأساسية، الذي يحظى بأهمية مركزية عند فيبر؛ إذ يستعمل فيبر لفظ العنف في شكله المعتاد، وليس كعنف لغوي أو قوة الحجة، وإنما كصراعات بين لاعبين تضبطهم الدولة بالقانون، ولكن أيضاً بالسلاح عند الضرورة. إنّ الدولة تحتكر وسائل العنف بالمعنى الحرفي للكلمة، في شكل جيش وشرطة، وكذلك سلطة إصدار القوانين. إنّ حجة هابرماس في أنّ الإجماع العقلاني يبرّر مشروعية القوانين تحجب معنى العنف هذا المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدولة؛ إذ يبدو أنّ العنف يعني في رأي هابرماس شيئاً مثل ممارسة العنف على الحقيقة، أو سوء التواصل أو التشويه المقصودين. أظنّ أنّ رؤية فيبر أكثر واقعية وفائدة من رؤية هابرماس في ما يتعلّق بمقاربة السياسة وتشكّل الدولة واشتغالها. لكن بدلاً من مجرّد إعادة تأكيد موقف واقعيّ معياري ضد هابرماس، أريد أن أطوّر بشكل أكبر آثار هذه الحجة، وأن أقترح أنّ خطر إصرار هابرماس على الفصل بين العنف والإجماع العقلاني يتمثّل بشكل مفارق في انحراف أو فساد ممكنين لنسقه الخاص.

قلت في البداية إنّه لا يمكن اعتبار أنّ التشاور العقلاني يقصي القوّة إلا إذا قبلنا ادعاءات هابرماس أنّه يمكن أـن تكون اللغة ناقلاً شفافاً للعقل، وأنّه يمكن استعمالها في نموذج «حل المشاكل»، وأنّ الاستعمال التشاوري للغة يمكن من ثَمَّ أن يؤثّر في الحلول العقلانية للمشاكل السياسية دون أن يترك رواسب. تقوم نزعة هابرماس الإجرائيّة على هذه الفكرة القائلة بشفافية اللغة، وبأنّ اللغة قادرة على الاشتغال كشفرات محايدة للقرارات السياسية. إلا أنّ لهذه النزعة الإجرائية جانباً مظلماً. ولدراسة هذا الجانب يمكن الاستعانة بإيمانويل كانط. ولكي أوازي بين كانط وهابرماس، ومن ثَمَّ أن أطوّر نقدي، يبدو لي مفيداً النظر إلى محاولة كانط المماثلة لإنتاج شكل إجرائي خالص للحجاج، ومعيار للحكم الأخلاقي، وذلك في دراسته للأمر القطعي وفي كتابه (الدين في حدود مجرد العقل). إنّ الغرض من إجراء هذه المقارنة هو الإشارة إلى وجود مشكلة لا يستطيع كلاهما حلّها (أو ربما حتى الاعتراف بها)، لقد تركاها كثغرة، وذلك لأسباب متماثلة تلازم مقاربتهما.

يشير هابرماس إلى أنّ «الفلسفة الكانطية تمثّل ولادة نمط جديد من التبرير»[77]. وعلى الرغم من أنّه يخلص إلى أنّ التأسيسية الإبستمولوجية ومحاولة التبرير المتعالي الموجودين عند كانط لم يعد لهما أيّ تأثير، فإنّه يؤكد مع ذلك أنه توجد في أعمال كانط «نظرية للحداثة»، وطوّر مقاربته الخاصة كشكل من «الكانطية اللغوية»[78]. هذا يعني أنّ كانط رفض عقلانية ثابتة موجودة في الرؤى الكونية الميتافيزيقية والدينية، ورسّخ عقلانية إجرائيّة في علاقة بمجالات المعرفة الموضوعية والتبصر الأخلاقي العملي والحكم الجمالي[79]. إنّ تصوّر هابرماس للتحديث، كعملية بواسطتها تزيح العقلانية المؤجرأة بشكل تدريجي طرائق التفكير الراسخة، يدين بشكل مباشر للاستدلال الكانطي المُخلَّص من التعالي.

يهدف الأمر القطعي عند كانط إلى توفير معيار صوري وكوني للحكم الأخلاقي؛ إنّه متمركز حول الاستقلالية؛ أي حول فكرة أنّ الذات حرّة في صنع قوانينها الخاصة: «تصرف فقط وفقاً لهذه المسلمة التي يمكنك بواسطتها أن ترغب في الوقت نفسه في أن تصبح قانوناً كونياً»[80]. إن الأمر القطعي «أمرٌ» نظراً إلى أنّه ضروري؛ وهو «قطعي» نظراً إلى أنّه لا يتوقف على أيّ هدف، ولأنّه معنيّ فقط بشكل فعل معين (بخلاف الأوامر الشرطية). إنّ هذا البعد الصوري هو ما يضمن كونيته: تمّ إنتاج الأمر القطعي الكانطي كمعيار إجرائي خالص للصواب، ومن ثَمَّ كإثبات للقانون الأخلاقي. هكذا أخذنا من كانط مقاربة الكلي الإجرائي التي تنتج معياراً للاستقلالية كذات تعطي نفسها قانونها الخاص. وكما أشرنا أعلاه، خلّصَ هابرماس استدلال كانط من التعالي، وحوّله من نموذج للعقل متمحور حول الذات إلى نموذج للعقل متمحور حول التواصل والتذاوت[81]، لكنه يحتفظ بتشديده على التبرير الإجرائي الصوري الخالص، وهذا ما أريد أن أناقشه هنا.

دعونا نواصل مع كانط للحظة: إذا كان الأمر القطعي يعني معياراً صورياً للفعل الصحيح، فإن مقاربته لـ «الشر الجذري» هي عكس الأمر القطعي. يقول كانط إننا لا نَعدّ الإنسان شريراً نظراً إلى أنه يقوم بأفعال شريرة (على خلاف القانون)، وإنّما نظراً إلى أنّ هذه الأفعال تسمح باستخراج مسلّمات الشر منه. يشير كانط هنا إلى الأرضية الذاتية لممارسة الحرية البشرية السابقة منطقيّاً لكلّ فعل يقع في نطاق الحواس. بعبارة أخرى، إنّ مصدر الشرّ مسلمة، إنّه قاعدة صنعتها الإرادة من أجل استعمال حريتها الخاصة. إن هذا الشرَّ «جذريٌّ» نظراً إلى أنه يفسد أرضية كلّ المسلمات ويمس جذورها، وهو «شر» نظراً إلى أنه يقوم على قدرة الذات على الحرية[82]. إنّ حرية الاختيار (Willkür)، في بنية الاستدلال الكانطي، ضرورية للذات باعتبارها ذاتاً أخلاقية، ومع ذلك إنّ الشر هو إمكانيّتها الملازمة، ويكمن في هشاشة الإنسان ونجاسته وخبثه، وفي عدم تنصيبه الواجبَ دافعاً كافياً للسلوك. يقول كانط: «يمكن أن نفترض أن الشر ضرورة ذاتية في جميع البشر، بمن فيهم الطيبون»[83]. ومع ذلك، يحاجج كانط بأنّه يجب أن تكون هناك إمكانية التغلب على هذا الشر بما «أنّه موجود في الإنسان الذي يتصرف بحرية»[84]. ثمّ يرفض فكرة الشر الشيطاني قائلاً إنّ هذا الأخير «ينبغي أن يُسمّى شذوذ القلب»، مضيفاً أنّ «القلب الشرير يمكنه أن يتعايش مع الإرادة التي تعتبر طيبة من الناحية المجردة. إنّ مصدره هو هشاشة الطبيعة البشرية»[85].

هناك شيئان ينبغي تسجيلهما بخصوص مناقشة كانط. أولاً، يمثّل الشرّ الجذري في صوريته مجرّد قلبٍ للأمر القطعي. إنّ صورية هذا الاستدلال ضرورية لمحاولة كانط الحفاظ على كونيته، وتقتضي هذه الصورية، في الوقت نفسه، أن يكون الأمر القطعي والشر الجذري متشاكليْن؛ فقد أشار لاكان إلى أنّ الأمر القطعي والنظام الساديّ صور مرآوية[86]. الشيء الثاني، المترتّب على الصورية، هو أنّ مقاربة كانط للشر مقاربة اشتقاقية؛ إنّ الشر خطأ مرتبط بهشاشة الطبيعة البشرية، ومن ثَمَّ هو ليس مبدأ إيجابياً في حد ذاته[87]. يلاحظ بيرنشتاين أنّ مقاربة كانط للشر «أكثر من مجرد طريقة لتعيين ميل (نزوع) البشر إلى عصيان القانون الأخلاقي»[88]. وهذا هو سبب إحباط حنّة أرندت مع كانط، الذي أشرنا إليه في ملخّص هذا المقال: أرادت أرندت استعمال مصطلح «الشر الجذري» للإشارة إلى نوع خاص من الشر الذي «نشأ في علاقة بنظام أصبح فيه جميع الناس متساوين في كونهم غير ضروريين»، لكنها وجدت أن كانط يعقلن الشر كخطأ[89].

يمكن مقارنة شكوى أرندت بملاحظة ديريدا حول الطريقة التي ينظر بها أوستن إلى انعدام الملاءمة كأخطاء، وليس كخصائص بنيوية لأفعال الكلام. يعلق ديريدا:

«تتمثل طريقة أوستن في الاعتراف بأنّ إمكانية السلبي (في هذه الحالة انعدام الملاءمة) تُعدُّ في الواقع إمكانيّة بنيوية، وبأنّ الفشل خطر ملازم للعمليات المدروسة؛ وتقوم طريقة أوستن، في الوقت نفسه تقريباً، وباسم نوع من التقنين المثالي، باستبعاد هذا الخطر باعتباره شيئاً عرَضِيّاً وخارجياً، شيئاً لا يعلّمنا أيّ شيء عن الظاهرة اللغوية المدروسة»[90].

هكذا، وتبعاً لديريدا، يتّسم «العادي» باستبعاد ما يُعدّ «طيفيلياً» و«شاذاً»[91]. يلاحظ ماتوشتيك، وهو يتأمل الحدود نفسها، أنّ مقاربة كانط تجعل من الشر ضعفاً وليس قوة يمكن إثباتها بصورة إيجابية. يقول: «لا يتصور كانط أيّ شيء لا يغتفر»، مضيفاً أنّه «إذا كان الشر الجذري يمثل الذنب الأخلاقي، فإن الجماعة الأخلاقية والإجراءات الديمقراطية والمحاكم العادلة يمكن أن تعوّض يوم الكفارة أو صلاة الغفران أو التأملات البوذية في العدم»[92]. توجد تشابهات قويّة بين هذه السمات الخاصة باستدلال كانط والمأزق الذي يواجهه تحديد هابرماس لتبرير خطابي إجرائي خالص لادعاءات المصداقية.

ماذا يصبح الشر الجذري في نسق هابرماس عندما يتحول العقل الحواري والمتمركز حول الذات عند كانط إلى تعددية أصوات التواصل التذاوتي (كما طرح الموضوعَ أحدُ مراجعي هذا المقال طرحاً بليغاً)؟ هنا يلازم الطلبُ على الإجماع العقلَ التواصليَّ، ويبني استدلالَ هابرماس بطريقة تجعله موازياً لاستدلال كانط. يجب أن نسجل أولاً أنّ إصرار هابرماس على التمييز الصارم بين لغة حل المشاكل ولغة كشف العالم، وهو الإصرار الذي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من إمكانيةِ لغةِ تبريرٍ إجرائية خالصة، يمحو الفرق كما تمحو مقاربةُ كانط لذات القانون الأخلاقي التفرّدَ. يرى كانط أنّ الذات تقتضي الحرية (الإرادة الحرة= Willkür) لكي يتمّ اعتبارها ذاتاً قادرةً على ممارسة الأخلاق، على الرغم من أنّ الأخلاق لا تكمن في اختياراتها الفردية والمتمايزة؛ بل في ارتقائه إلى القانون الأخلاقي واعترافه به. وبالمثل، حتى وإن كنا نجد في نسق هابرماس تعدّد الأصوات، فإنّ لغة التبرير تتجاوز الفارق حيث تكون الأصوات في التواصل، من الناحية المنطقية، قابلة للاستبدال[93]. إن التعددية البشرية ملغاة في هذه اللحظة.

لكنّ هناك توازياً آخر وربّما أكثر أهمية. يمكن تقدير أنّ «الشر الجذري» الكانطي يوجد في خطاطة هابرماس في شكل «تواصل مشوّه بشكل نسقي»، وهو تشوّه يمكن تبينه بسهولة في سياق الأنظمة الكليانية. ويمكن أن نحدّد ذلك من خلال تسجيل أنّ هابرماس، على الرغم من تعديل التزامه السابق بنظرية الإجماع حول الحقيقة ودعوته إلى «واقعية إبستمولوجية براغماتية»[94]، لا يوجد في مقاربته للديمقراطية التشاورية ما يجب أن يتصرّف بالضرورة ككابحٍ للتوافق الثمين حول المعايير الأخلاقية والقانونية. إنّ تأكيده أنّ مقاربات الحقيقة التناسبية والصواب المعياري مقاربات «متشابهة» لا يقدم أيّة مساعدة نظراً إلى أنّه يمكن، كما يسجّل هابرماس نفسه، اختزال مفهوم «الصواب المعياري» كلياً إلى تبرير عقلاني تحت ظروف مثالية. إنّه يفتقر إلى التضمين الأنطولوجي للإحالة إلى الأشياء التي نشير إلى وقائعها[95]. إنّ الوضعية القصوى، التي يؤدي إليها إضفاء الطابع الكلي المحتمل على التواصل المشوّه بشكل نسقي، تعني أنّ الإجماع لا يمكن أن يساوي الصواب؛ بل إنّ هابرماس يقول بوضوح في نظرية الخطاب إنّه ليس هناك شيء يوجد خارج التواصل. وقد سجل آخرون أنّ هذه الفكرة تضع استدلال هابرماس في موقفٍ ضعيف عندما يتعلّق الأمر بإرساء الحقوق الضرورية لحماية الاختلافات الفردية وتعزيز تعبيرها[96]. ومن شأن ذلك أن يفسد أهداف هابرماس، لكنّه يظلّ إمكانية محايثة لموقفه ويظهر محدودية الاستدلالات الإجرائية المتعلقة بالعنف والشر.

وحتى إن غضضنا الطرف عن الإمكانية القصوى للتواصل المشوّه كلياً، هناك توازٍ ثالثٍ بين كانط وهابرماس. والملاحظ أنّ معالجة كانط لفساد الرغبة كابتعاد عن القانون الأخلاقي تجد صداها في مقاربة هابرماس لحدود الحجج السياسية التي تلح على فضائل السياسة المُدرَكة كإنجاز لتسوية أو صفقة براغماتية، وليس كتوافق تمّ التوصل إليه بواسطة التواصل. ويبدو أنّ هذه الصفقات، من وجهة نظر هابرماس، تسعى إلى المشروعية بطريقة يمكن مقارنتها بمقاربة كانط لضعف الإرادة البشرية وفشلها في الارتقاء (أو النزوع) إلى الابتعاد عن القانون الأـخلاقي؛ إنّ الصفقات البراغماتية (على الرغم من أنّها قد تكون تجسيداً للسلام المُدرَك على أنه غياب الصراع) عبارة عن فشل في تحقيق الإجماع/الانسجام، ومن ثَمَّ إنّها غير كافية لإرساء نظام مشروع.

يمكن أن نتناول انعكاسات هذه التوازيات بين كانط وهابرماس بالتحوّل مباشرة إلى حجج هابرماس السياسية. سنقوم بذلك أولاً من خلال دراسة واقعة كيف أنّ إصراره على فصل العقل عن القوة البلاغية ينزع الطابع السياسي عن اللغة السياسية. وثانياً من خلال التفكير في حدود العصيان المدني في مقاربته. وثالثاً من خلال تسجيل الموقف المتناقض الأخير لهابرماس من نزعته الإجرائية الصارمة الخاصة. وسيعيدنا ذلك إلى الدور المركزي لفكرة السلام الأصلي/السلام التي أنتجت بالنسبة إلى المنظّريْن معاً (كانط وهابرماس) بقعةً عمياء تتعلق بالعنف.

إن الفكرة القائلة إنّه يمكن للمرء أن يفصل بين العقل والقوة البلاغية، بين استعمال اللغة لكشف العالم واستعمال اللغة لحل المشاكل، فكرة غير مرغوب فيها بالتأكيد حتى وإن كانت قابلة للتحقيق؛ فمن شأنها أن تنتج لغة سياسية عقيمة تماماً، لغة سياسية منزوعة الطابع السياسي. وهذا واضح في وصف هابرماس للعنف الإرهابي بأنّه «تواصل مشوّه بشكل نسقي» في كتابه (الفلسفة في زمن الرعب)[97]. إنه يناقش هنا ما يسمّيه «العنف البنيوي»، الذي يعتقد أنّنا اعتدنا عليه. ويذكر «التفاوت الاجتماعي غير المعقول»، مشيراً إلى التمييز والتفقير والتهميش كأمثلة على هذا التفاوت[98]؛ إنه يستعمل هنا تعريفاً واسعاً للعنف. وينتقل هابرماس إلى تفسير هذا العنف كما يلي:

«تنشأ النزاعات من تشوّه في التواصل، ومن سوء الفهم وعدم الفهم، ومن الرياء والخداع. عندما تصبح آثار هذه النزاعات مؤلمة بما فيه الكفاية، فإنّها تهبط في قاعة المحكمة، أو في عيادة المعالج النفسي. تبدأ دوامة العنف كدوامة من التواصل المشوه التي تؤدّي عبر دوامة انعدام الثقة المتبادلة غير المتحكّم فيه إلى انهيار التواصل. هكذا، إذا بدأ العنف بتشوّه في التواصل، فيمكن بعد اندلاعه معرفة الخطأ، وما يجب إصلاحه»[99].

يمكن قراءة هذا المقطع بشكل أفضل كقصة حول النشأة؛ أي حول الطريقة التي يمكن بها للعنف اللغوي (التواصل المشوَّه) أن يتحوّل إلى عنف عميق؛ إنّه يكشف عن عدة أبعاد لفكر هابرماس. فكما لاحظنا من قبل، يُعرَّفُ العنفُ هنا بطريقة واسعة جداً، وبمعانٍ مختلفة عديدة، إلى درجة أنّه يمكن للمرء أن يعتقد أنّ المفهوم بدأ يفقد نفوذه. لكنّ العنف يتميّز أيضاً بكونه اشتقاقياً وطفيلياً وثانوياً بالنسبة إلى الفعل التواصلي. يفترض هابرماس هنا أولاً عالمَ مصداقيةٍ موحَّداً، وثانياً أنّ توجهنا الأساسي في العالم ليس هو الكراهية (كما اقترح فرويد)، وإنما هو التواصل. تقدم فكرة هابرماس حول الإجماع التواصلي أفقَ انسجامٍ يمكن أن يقاس عليه العنف والشر وما شابههما، لكن يتم على أساسه اعتبارهما اشتقاقيين وثانويين، ومن ثَمَّ يمكن التغلّب عليهما. هكذا تتركنا الخطاطة النظرية لهابرماس عُزَّلاً أمام الخلافات التي لا يمكن حلها عقلانياً. إن ملاحظته أن النزاعات تهبط في المحكمة، أو في عيادة المعالج، تعني في الحالة الأولى أن اعتراف الأطراف بالمحكمة متفقٌ عليه، وتعني في الحالة الثانية أنّ هناك استعدادات إيجابية للانخراط في مصالحة علاجية؛ ومعنى ذلك أنّ وحدة عالم المصداقية وإمكانية الإجماع مفترضان مسبقاً. وبالمثل، إن اللجوء إلى الفكرة القائلة إنّ النزاعات المستعصية على مرّ الزمان يمكن أن تخضع للتشاور والإجماع المعقولين[100]؛ لا تساعد على حلّ المشاكل هنا والآن، ولا تساعد على تحديد كيفية إنتاج أو حتى فرض السلام إلى الدرجة التي تحل فيها الحجج محل الأسلحة[101].

إنّ التعرّف إلى الطريقة التي يقوم بها أفقُ انسجامٍ مفترضٍ ببناء تفكير هابرماس يساعد أيضاً في تفسير موقفه من العصيان المدني. يجعل هابرماس العصيان المدني المشروع يقتصر على النشاط غير العنيف[102]؛ ومعنى ذلك أنّ العنف بالنسبة إليه لا يمكن أبداً أن يكون مبرراً[103]. ومع ذلك، عندما سُئِل هابرماس عمّا إذا كان يجب تمييز الإرهاب عن الجريمة العادية وأشكال أخرى من العنف، أجاب: «نعم ولا». من وجهة نظر أخلاقية، ليس هناك عذر للأعمال الإرهابية بغضّ النظر عن الدافع أو الوضعية التي تنفذ فيها. فلا شيء يبرر «تسامحنا مع قتل أو تعذيب الآخرين لأغراض شخصية»[104]. ومع ذلك، يمضي في التمييز بين «الرعب السياسي» و«الجريمة العادية» أثناء تغيير الأنظمة، وهي الحالة التي يمكن أن يصل فيها «إرهابيون سابقون إلى السلطة، ويصبحون ممثلين جيدين لبلدانهم». ويقترح هابرماس أن الإرهابيين السابقين في هذه الحالات يمكن أن يحصلوا على مشروعية بأثر رجعي على أفعالهم الهادفة إلى «التغلب على وضعية ظلم واضحة»[105]. وهكذا، إذا كان هابرماس يرى أن من المستحيل تبرير العنف السياسي أخلاقياً، فإنه ظل متناقضاً حول ما إذا كان من الممكن تبريره سياسياً وأخلاقياً (بأثر رجعي). ويشير هذا التناقض إلى أن مقاربة هابرماس ليست خالصة كما أراد لها أن تكون، وأنه يمكن أن نتبع بطريقة مثمرة استراتيجية جديدة هنا، مع التركيز على عدم نقاء مفاهيمه.

هذه هي الطريق التي سلكها في الواقع وايت وفار في مقال يؤكد دور السلبية في مقاربة هابرماس[106]. يستند المؤلفان إلى المقال الذي نشره هابرماس سنة (1985) حول العصيان المدني، ويدعيان أن تركيز هابرماس على «الصمت» يشهد على عدم كفاية العقل التواصلي ويبرهن على أن الخلاف متجذر أنطولوجياً في استدلاله. إن إعادة قراءة عمل هابرماس جعلته بالتأكيد يبدو أكثر انفتاحاً على التصورات الصراعية للسياسي، وأنتجت تصحيحاً مفيداً للقراءات المتعددة لمقاربة هابرماس باعتباره «آلة إجماع». إلا أن اقتراحهما أنّ تصوّره للفعل التواصلي يتضمّن السلبيةَ؛ أي «الصمت»، بطريقة تزيح أولوية الإجماع، اقتراحٌ مشكوكٌ فيه. فعلى الرغم من أنّ هابرماس يقترح فكرة أنّ العصيان المدني هو «حجر الزاوية» في الديمقراطية الدستورية الناضجة، فقد عبّر بوضوح تامّ عن أنّ هذا العصيان يحدث دائماً في إطار النظام القانوني، والأهم أنه ينطوي على الاعتراف بهذا النظام: «إنّ العصيان المدني لا يضع وجود النظام الدستوري ودلالته العميقة محط تساؤل»[107]. وهكذا، بينما هناك مجال واضح للتوافق في نسق هابرماس (وإلا فما كانت الديمقراطية الخطابية ستكون ضرورية؟)، فإن ذلك لا يقطع مع الأولوية الأنطولوجية والكرونولوجية الممنوحة للتوافق الذي ما زال يوفّر أفق عمل هابرماس.

إنّ هابرماس واضح هنا: إنّ العصيان المدني يقتضي مشروعية القانون، ولا يسعى إلى وضع النظام القانوني في محطّ تساؤل. ها نحن ما زلنا في إطار مخططه، كما هو الحال مع كانط، مع فكرة ضرورة القانون. هناك اختلافات مهمّة بطبيعة الحال: يشير هابرماس بإيجابيّة إلى حقّ المقاومة الذي يكرّسه الدستور الألماني لما بعد الحرب، بينما لا يسمح عمل كانط بمثل هذا الحق، ويفرض بالأحرى واجب طاعة ولو سلطة شريرة. تحاول مقاربة هابرماس أيضاً أن تملأ الصدع القائم بين متلقّي الخطاب ومرسله، وأن تقوّم «ضلعَ البشرية الأعوج»، وذلك من خلال تسويتنا بواسطة شرط المشاركة في الخطاب؛ بينما يفضل كانط ألا نطرح جميع الأسئلة المتعلّقة بأسس سلطة الدولة[108]، لكن كلاهما يبدو كمحامٍ طبيعي مشارك في نزعة إجرائية قسرية يمثّل القانونُ دوماً أفقها (ومن هنا ازدواجية هابرماس المزعجة حول مشروعيّة ما كان يُعدّ سابقاً أعمالاً «إرهابية»)[109].

إذا عدنا مباشرةً إلى معكوسيّة الأمر القطعي والشر الجذري عند كانط، وترجمتهما الممكنة في نسقِ هابرماس إلى الإجماع التواصلي في مقابل التواصل المشوَّه، فسنجد مشكلة أخرى. يقترب هابرماس نفسه من الاعتراف بذلك عندما يقول إنّنا لا نملك طريقة مناسبة لكي نميّز بشكل صحيح ما هو خاطئ عمّا هو شرير بعمق. فقد قدّم هذا التعليق، عندما كان يناقش تكنولوجيات إنتاجية جديدة في كتابه (مستقبل الطبيعة البشرية). هنا يحثّ هابرماس «الجانب العلماني» من الاستدلال على أن يظلّ «حساساً لقوة التعبير المحايثة للغات الدينية» إذا أراد ألا يتمّ فصل المجتمع العلماني عن «موارد المعنى المهمة»[110]. يطور هابرماس هذه الدعوة بالعودة إلى مقاربة كانط للاستقلالية، حيث يقول: بينما تقوّض هذه المقاربة «الصورة التقليدية للبشر كأطفال الله»، فإنها تضع مضامين دينية في فكرة «المصداقية غير المشروطة للواجبات الأخلاقية». ويواصل القول: إنّ «محاولة كانط ترجمة فكرة ‘الشر الجذري‘ من الاستعمال التوراتي إلى لغة الدين العقلاني تبدو أقلّ إقناعاً... إذ لا نزال نفتقد مفهوماً ملائماً للاختلاف الدلالي بين ما هو خاطئ أخلاقياً وما هو شر عميق»[111]. يضيف هابرماس: «إنّ اللغات العلمانية، التي تلغي، بلا زيادة ولا نقصان، ما أردنا قوله في أوقات أخرى، تعدّ مصادر تهييج. وعندما تمّ تحويل الخطيئة إلى شعور بالذنب، وخرق الأوامر الإلهيّة إلى اعتداء على القوانين البشرية، ضاع شيء ما»[112]. يبدو أنّ هابرماس يلمح هنا إلى شيء غير صحيح تماماً بصيغته الخاصة لأشكال التبرير الإجرائية الخالصة. يبدو من المؤكد أنّ هناك شيئاً مفقوداً في لغة حلّ المشاكل. يؤول ماتوشتيك ملاحظات هابرماس بأنّها تعبّر عن حاجة إلى «تدين نقدي»، مشيراً إلى أنّ الرغبة في مجتمع التواصل المثالي هو «الجزء الوهمي المتبقي من الحنين الديني»[113]. يبدو لي هذا التأويل صحيحاً؛ إنّ الفكرة القائلة إنّ الدين خزانات من المعنى لا يمكن ترجمتها في لغة علمانية وقواعد إجرائية دون التخلّي عن «التهييج»، تجعل من المؤكّد بحث هابرماس الخاص عن شكل فلسفي إجرائي مستقر بحثاً محفوفاً بالمصاعب. إنّها توحي بأنّ مقاربة هابرماس ليست مقاربة إجرائية خالصة تماماً كما يمكن أن تبدو.

خاتمة:

بالنسبة إلى كانط وهابرماس، إنّ للسلام والإجماع الأولوية الأنطولوجية والكرونولوجية على العنف والشر. إنّ الشرّ اشتقاقي، ويُعدُّ إخفاقاً في اتباع القانون الأخلاقي أو قانون اللغة. فكما «يفرغ كانط الشر من قوته»[114]. يلغي هابرماس إمكانيّة الاعتراف بالعنف داخل الغة. إنّ نموذج اللغة الهابرماسي نموذج يمنح الأولوية للإجماع؛ لذلك إنّ مقاربته لا توفّر أيّ طريقة لمعالجة العنف إلا كشيء اشتقاقي وثانوي. وهذا ما يترك آثاراً واضحة في كتاباته السياسية، حيث لا يستطيع أن يقدّم الخلاف كشيء محتمل الإلغاء، ومن ثم يتركنا بلا سلاح في مواجهة عدم الإجماع. وفي الوقت نفسه، يفترض موقفُه مشروعيةَ القانون: عندما يحاجج على أنّ العقل التواصلي يوفر مصدراً للتشريع، فإنّه يساوي بين السلطة والقانون، ويدعي أنه حلّ مشكلة المشرِّع. لكنّ ذلك لن يتحقّق إلا إذا استطاعت اللغة أن تشتغل كوسيط محايد، وهو أمر عارضناه بأمثلة «الإرهابي» و«المقاتل من أجل الحرية»، التي تبقى موضوع اختلاف؛ إنّ استعمال هذه المفاهيم يتوقّف على السياق، ولا يمكن تعريفها تعريفاً تاماً، كما تبرهن على ذلك «الحرب على الإرهاب» الراهنة.

يعلق هابرماس في كتابه (الفلسفة في زمن الرعب) على أولئك الذين يَعدّهم مجرّد منخرطين في إضفاء الطابع الأنطولوجي على التواصل، ويشتكي من أنّهم لا يجدون فيه شيئاً غير العنف[115]. لكن، أَحقاً يقوم أحد بذلك؟ من المؤكد أنّ خطوط التقسيم الواضحة التي يؤكدها هابرماس، والتي تمكّنه من الدفاع عن إجماع متوصّل إليه بواسطة التواصل وحده، تثير من الجدل والغموض أكثر ممّا يعترف به. إنّ محاولة هابرماس الفصل المفهومي بين لغة حلّ المشاكل ولغة كشف العالم تتضمّن إمكانية وجود لغة شفافة لذاتها تمثّل النقيض الخالص للقوة. لقد اقترح هذا المقال، أنّ هذا التصوّر ليس عقيماً سياسياً فحسب؛ بل من المرجّح أن ينتج أيضاً انحرافاته الخاصة. يعقلن هابرماس العنف، ويحاول إلغاءه من تصوّره للقانون واللغة؛ ذلك أنّ القانون واللغة يبدوان في عمل هابرماس كرموز للعقل. لكنّ عجزه عن الاعتراف بالطابع المفارق للغة والعقل يعمي عمله عن العنف الذي يحملانه بالضرورة. يمكن للنزعة الإجرائية الخالصة أن توجد حيثما ننتهي بعد نهاية الميتافيزيقا وموت الله، لكن ذلك في الواقع أمر محفوف بالمخاطر.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا

______________________________________________________________

[1]- المصدر الأصلي للنص:

Samantha Ashendon, “On violence in Habermas’s philosophy of language”, European Journal of Political Theory, 13 (4), 2014, 427-452

[2]- عالم اجتماع ومترجم مغربي.

[3]- انظر:

Otfried Höffe, (2006), Kant’s Cosmopolitan Theory of Law and Peace, Cambridge, Cambridge University Press; Michael Howard (2000) The Invention of Peace, London, Profile Books; William Rasch, (2008), “Kant’s Project of Perpetual Pacification”, Law and Critique, 19: 19-34.

[4] - Providentialism: مذهب يقول إنّ العناية الإلهية هي مبرّر الوجود. ويعتقد أنصار هذا المذهب بأنّ الإرادة الإلهية واضحة في كلّ حدث، وأنّ سلطة الله (أو عناية الله) كاملة تماماً إلى درجة أنّه لا يمكن للإنسان أن يفهم مشروع الله برمّته [المترجم].

[5] - Willkür: إنّها ملكة الرغبة المرتبطة بملكة الفعل من أجل إنتاج شيء ما. وبهذا المعنى، إن المسلمات مشتقّة من الإرادة، ولهذا تكون الإرادة عند الإنسان إرادةً حرةً، ولا يمكن إسناد الحرية إلا إلى إرادة [المترجم].

[6] - Immanuel Kant, ([1795] 1983), Perpetual Peace and Other Essays (trans. T. Humphrey). Indianapolis, Hackett; Immanuel Kant, ([1793] 1998), Religion within the Boundaries of Mere Reason and Other Writings (trans. and eds A. Wood, G. Di Giovanni, and Robert M. Adams), Cambridge, Cambridge University Press.

[7] - Juürgen Habermas, «Kant’s Idea of Perpetual Peace: At Two Hundred Years’ Historical Remove», in C. Cronin and P. De Grieff (eds) (1998) The Inclusion of the Other: Studies in Political Theory (trans. C. Cronin), pp. 166, 201. Cambridge: Polity Press. See also: Juürgen Habermas, (1970a), «On systematically distorted communication», Inquiry 13: 205-218. Juürgen Habermas, «What Is Universal Pragmatics», (1979), Communication and the Evolution of Society (trans. T. McCarthy), chapter 1, pp. 1-68. London, Heinemann. Juürgen Habermas, (1984), The Theory of Communicative Action, Volume 1: Reason and the Rationalization of Society (trans. T. McCarthy). Boston, Beacon Press. Juürgen Habermas, (1987a), The Theory of Communicative Action, Volume 2: Life world and System (trans. T. McCarthy), Cambridge, Polity. Juürgen Habermas, (2006), The Divided West, Cambridge: Polity.

[8] - Thomas Hobbes, ([1651] 1991), Leviathan, Cambridge, Cambridge University Press. Carl Schmitt, ([1932] 2005), Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty (trans. G. Schwab), Chicago: University of Chicago Press.

[9] - على سبيل المثال:

Ernest Gellner, «War and Violence», (1995), Anthropology and Politics, chapter 11, Oxford, Blackwell; Anthony Giddens (1985) The Nation State and Violence, Cambridge, Polity. John Hall, (1994), Coercion and Consent: Studies on the Modern State, Cambridge, Polity. Michael Mann, (1988), States, War and Capitalism: Studies in Political Sociology, Oxford, Basil Blackwell. Douglas C. North, John J. Wallis, and Barry R. Weingast (eds) (2009) Violence and Social Orders: A Conceptual Framework for Interpreting Recorded Human History, Cambridge, Cambridge University Press. Charles Tilly, (1992), Coercion, Capital, and European States, AD 990-1992, London, Blackwel .Max Weber, «Politics as a Vocation», in H. H. Gerth and C. Wright Mills, (eds) ([1919] 1991), From Max Weber: Essays in Sociology, pp. 77-128, London, Routledge.

[10] - Jürgen Habermas, (1992), Postmetaphysical Thinking, Cambridge, Polity.

[11] - ناقشت هذا الموضوع في مقال آخر، انظر:

Samantha Ashenden, (1998), “Pluralism within the limits of reason alone? Habermas and the discursive negotiation of consensus”, Critical Review of International Social and Political Philosophy, 1(3): 117-136.

[12] - Kant, ([1793] 1998), n. 3

[13] - Shane O’Neill, (2010), «Struggles Against Injustice: Contemporary Critical Theory and Political Violence», Journal of Global Ethics 6: 127-139

[14] - Habermas, (1970a), n. 4. Jürgen Habermas, (1970b), «Towards a Theory of Communicative Competence», Inquiry 13: 360-375.

[15] - Shorter Oxford English Dictionary.

لمعرفة دراسات حديثة حول العنف، انظر:

Vittorio Bufacchi, ed. (2009), Violence: A Philosophical Anthology, London, Palgrave Macmillan; and Hélène Frappat, (ed) (2000), La Violence, Paris, Flammarion.

الكتاب الأول يناقش العنف في الفلسفة التحليلية، بينما يعالج الكتاب الثاني العنف في الفكر القاري.

[16] - John Keane, (1996), Reflections on Violence, London, Verso. John Keane (2004) Violence and Democracy, Cambridge: Cambridge University Press. O’Neill (2010), n. 10

[17] - Pierre Bourdieu, (1991), Language and Symbolic Power, Cambridge, Polity. Judith Butler, (1997), Excitable Speech, London, Routledge. Judith Butler, (2004), Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence, London, Verso. Judith Butler, (2009), Frames of War, London, Verso. Johan Galtung, (1969), «Violence, Peace and Peace Research», Journal of Peace Research 6: 167-91, John Harris, (1980), Violence and Responsibility, London, Routledge and Kegan Paul. Steven Lukes, (1974), Power: A Radical View, London, Macmillan. Slavoj Zizek, (2008), Violence: Six Sideways Reflections, London, Profile Books.

[18] - Galtung, (1969), n. 14, p. 80

[19] - Zizek, (2008), n. 14, p. 52

[20] - Theodore Adorno, ([1966] 1973), Negative Dialectics, London, Routledge.

[21] - Butler, (1997, 2004, 2009), n. 14; Sam Chambers and Terrel Carver (2008) Judith Butler and Political Theory: Troubling Politics, chapter 4, London, Routledge.

[22] - Habermas, (1984) (1987a), n. 4

[23]- انظر من بين آخرين:

Gellner (1995), Giddens (1985), Hall (1994), Mann (1988), North et al. (2009), Tilly (1992), n. 6.

[24] - Gerard Delanty, (2001), «Cosmopolitanism and Violence: The Limits of Global Civil Society», European Journal of Social Theory 4: 41-52; Hans Joas (2003) War and Modernity. Cambridge, Polity.

[25] - Habermas, (1987a), n. 4

[26] - Hannah Arendt, (1969), On Violence, Florida, Harcourt Brace and Company, p. 56

[27] - Jürgen Habermas, (1983), «Hannah Arendt: On the Concept of Power», in Philosophical- Political Profiles (trans. F. G. Lawrence), pp. 171-88. Massachusetts: MIT Press; Jürgen Habermas (1996) Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy, Cambridge, Polity.

[28] - Habermas, )1970a(, n. 4; 1970b, n. 11; 1979, n. 4

[29] - Habermas, (1984), n. 4, p. 25

نلاحظ أنّ هابرماس لا يقصد أنّ الإجماع التواصلي يمكن أن يتحقّق؛ بل إنّه فكرة تنظيمية تجعل استعمالنا اليومي للغة استعمالاً منطقياً، ومن ثَمَّ إنّه ملازم للغة.

[30] - J. L. Austin, (1962), How to Do Things With Words, Oxford, Clarendon. J. R. Searle, (1969), Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language, CUP, Cambridge.

بالنسبة إلى استعمال هابرماس هذه الأفكار، انظر:

Habermas, (1979), n. 4; “Social Action, Purposive Activityand Communication” (1981), both of which are reprinted in (1998) On the Pragmatics of Communication (M. Cooke, ed), Cambridge, Polity.

للاطلاع على تطورات استعماله لفلسفة اللغة العادية منذ بدايتها، انظر:

Jürgen Habermas, (2003a), Truth and Justification, Cambridge, Polity.

[31] - Habermas, (1970a, 1979), n. 4; Maeve Cooke (1994) Language and Reason: A Study of Habermas’s Pragmatics, Cambridge, Massachusetts: MIT

[32] - من الممكن التساؤل حول الأولوية التي يمنحها هابرماس للفعل التواصلي، مثلاً بالرجوع إلى دور النكت والسخرية أو بواسطة المقاربات التحليلنفسية للاشعور. انظر على سبيل المثال:

Diana Coole, «Habermas and the Question of Alterity», in M. Passerin D’Entreves and S. Benhabib (eds) (1996) Habermas and the Unfinished Project of Modernity, pp. 221-44, Cambridge, Polity; David Held and John Thompson (eds) (1982) Habermas: Critical Debates, Cambridge, Polity. Jean-Jacques Lecercle, (1990), The Violence of Language, London, Routledge.

[33] - Jürgen Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity, Cambridge, Polity, 1987

[34] - Jacques Derrida, «Is there a philosophical language?», in E. Weber (ed), Points... Interviews 1974-1994 (trans. P. Kamuf), pp. 216-27, Stanford: Stanford University Press, 1995

[35] - Austin, (1962), n. 27

[36] - Jacques Derrida, «Signature Event Context», in Limited Inc (trans. S. Weber and J. Mehlman), pp. 1-23, Northwestern University Press: Illinois,[1972] 1988, at p. 14

[37] - Habermas (1987b), n. 30, p. 20.

[38] - Habermas (1987b), n. 30, p. 205

[39] - Habermas (1987b), n. 30, p. 207

[40] - لمعارضة تأكيدات هابرماس على أن ديريدا يعتبر الأعمال الفلسفية كأدب، يبدو لي من المفيد الاعتراف بأهمية نصوص ديريدا مثل "ملحق للفعل الرابط: الفلسفة قبل اللسانيات" («Supplement to the Copula: Philosophy Philosophy before Linguistics», in Jacques Derrida (ed.), Margins of Philosophy, (yrans. A. Bass), pp. 177-205, Chicago: University of Chicago, 1982). ينتقد ديريدا في "الملحق" ادعاء بنفينيست أن تصور أرسطو لمقولات الفكر الأساسية كان محدَّداً بالبنية المقولاتية للغة اليونانية نفسها، وادعاءه أن لائحة المحمولات الأساسية عند أرسطو التي يمكن التنبؤ بها لموضوع ما هي نتيجة للقواعد النحوية. انظر: Emile Benveniste, Problems in General Linguistics, chapter 6, Miami: University of Miami Press, 1971. يوضح ديريدا أن المقولة المركزية التي أغفلها بنفينيست هي المقولة نفسها، أي أغفل أننا في حاجة إلة مقولة المقولة، وأن بنفينيست يستفيد هو نفسه من ذلك وينكره على الآخرين؛ هكذا يدافع ديريدا على استقلال الفلسفة. وانطلاقا من هذا المنظور إذن، يبدو أن غرض ديريدا ليس هو أننا لسنا في حاجة إلى الفلسفة، وإنما بالأحرى أنها لا تتوفر على النقاء الذي غالبا ما يسند لها.

[41] - Habermas (1987b), n. 30, pp. 200-201.

[42] - Habermas, (1984), n. 4, pp. 197-215.

[43] - Habermas, (1984), n. 4; (1987a), n. 4, p. 326; (1987b), n. 30, pp. 201, 207

[44] - من أجل شرح مستفيض لتصور هابرماس للمجالات القيمية للحداثة والطرق التي تقيّد بها الحكم الجمالي. انظر:

Habermas, (1987b), n. 30, pp. 207-8; Pieter Duvenage, Habermas and Aesthetics: The Limits of Communicative Reason, Cambridge: Polity, 2003, chapter 3

أمّا بالنسبة إلى الحجة القائلة إنّ الحكم الجمالي أصبح مجالاً قيمياً ثقافياً مستقلاً، وإنّ الدين يمكنه أن يحقّق مستوى مماثلاً من التمايز، ولكن «مقابل تحييد محتواه الاختباري فقط»، فانظر:

 Jürgen Habermas, Religion and Rationality: Essays on Reason, God and Modernity, Cambridge Polity, 2002, p. 84.

لكن قارن ذلك بتعليقات هابرماس في خاتمة مقاله «السيادة الشعبية كإجراء»، الذي يكتب فيه عن «نوع آخر من التعالي» في سلبية الفنّ الحديث المتمثّلة في «رفضه أن يتمّ إدراكه بواسطة مقولات معطاة مسبقاً».

Habermas, (1996), n 24, Appendix I, p. 490.

[45] - Jürgen Habermas, Between Naturalism and Religion, Cambridge: Polity, 2008. Jürgen Habermas, An Awareness of What Is Missing: Faith and Reason in a Post-Secular Age, Cambridge: Polity, 2010.

[46] - Habermas, (1987b), n. 30, p. 190

[47] - Habermas, (1987b), n. 30, p. 209

[48] - يوازي ذلك حجّة هابرماس بأنّ النقد الفني «ينقل المضمون الاختباري لعمل الفن إلى اللغة العادية» (1987b, n. 30, p. 208)، بمعنى أنه يجعل العمل الفني قابلاً للإدراك.

[49] - Ben Saul, Defining Terrorism in International Law, chapter 1, Oxford University Press, Oxford, 2006

[50] - Clive Stafford Smith, Bad Men: Guantanamo Bay and the Secret Prisons, London, Weidenfeld and Nicolson, 2007, p. 34. Sam Chambers, «Normative Violence After 9/11: Rereading the Politics of Gender Trouble», New Political Science, 29, 2007: 43-60, p. 59

[51] - Jürgen Habermas, «An interview on War and Peace», in The Divided West, (trans. C. Cronin), p. 98. Cambridge: Polity, 2006

[52] - Habermas (1996), n. 24, pp. 162, 172; Jürgen Habermas, Justification and Application, Cambridge: Polity, 1993, chapter 2.

[53] - Habermas (1987b), n. 30, p. 194

[54] - يلاحظ نيكولاس كومبريديس (Nikolas Kompridis, «On world disclosure: Heidegger, Habermas, and Dewey», Thesis Eleven, 37, 1994: 29-45) أن معارضة هابرماس بين الكشف عن العالم والقدرة على تقديم الأسباب تعني أنه يحدد التعلم التذاوتي حصرياً بواسطة ممارسات الحجاج وحل المشاكل، كما يلاحظ أنه لا يمكن لهذه المعارضة أن تقدم أي معالجة للتجديد الدلالي ومعنى التغيير.

[55] - Habermas (1987b), n. 30, p. 197.

[56] - Habermas, (1992), n. 7, p. 17.

[57] - Habermas, (1984), n. 4, p. 141.

[58] - Habermas, (1984), n. 4, pp. 197-215.

[59] - Jürgen Habermas, «Philosophy as Stand-In and Interpreter», in K. Baynes, J. Bohman, and T. McCarthy (eds), After Philosophy? End or Transformation? Massachusetts: MIT Press, 1987, p. 312

[60] - Habermas, (1987c), n. 56, p. 312

[61] - Habermas, (1987c), n. 56, p. 313

[62] - Habermas, (1987b), n. 30, p. 340. Habermas, (1987b), n. 30, p. 340

[63] - James Schmidt, «Habermas and the Discourse of Modernity», Political Theory, 17, 1989: 315-320

[64] - Jürgen Habermas, Moral Consciousness and Communicative Action, Massachusetts: MIT Press, 1990, p. 87.

[65] - James Tully, «To Think and Act Differently: Foucault’s Four Reciprocal Objections to Habermas’s Theory», in S. Ashenden and D. Owen (eds), Foucault contra Habermas, London, Sage, 1999, 90-142.

[66] - Habermas, (1996), n. 24

[67] - Jürgen Habermas, «Constitutional Democracy: A Paradoxical Union of Contradictory Principles», Political Theory, 29n 2001, 766-81, p. 779

[68] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 188, 282, 310, 313-4.

[69] - Weber, )[1919] 1991(, n. 6, p. 78

[70] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 147-8.

[71] - Arendt, (1969), n. 23, p. 40

[72] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 147-8.

[73] - Habermas, (1983), n. 24, p. 179

[74] - Habermas, (1983), n. 24, p. 180. Also: Habermas, (1996), n. 24, pp. 136-49

[75] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 136-49. J. Habermas, «Natural law and revolution», in Theory and Practice, (trans. J. Viertel), Boston, Beacon Press, 1974, 82-119

[76] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 188-189.

[77] - Habermas, (1987c), n. 56, p. 296

[78] - Habermas, (2003a), n. 27, p. 7

[79] - Habermas, (1987c), n. 56, p. 298

[80] - I. Kant, Grounding for the Metaphysics of Morals, trans. J. W. Ellington, Indianapolis: Hackett Publishing Company, [1785] 1981, p. 416

[81] - Habermas, (2003a), n. 27, chapter 2.

[82] - Kant, ([1793] 1998), n. 3, p. 59

[83] - Kant, ([1793] 1998), n. 3, p. 56

[84] - Kant, ([1793] 1998), n. 3, p. 59

[85] - Kant, ([1793] 1998), n. 3, p. 60

[86] - J. Lacan, (1989), «Kant avec Sade», October 51: 55-104, at pp. 59-60; A. Zupancic (2000) Ethics of the Real: Kant, Lacan, London, p. 90. Verso; Zizek ,(1993), Tarrying With the Negative: Kant, Hegel and the Critique of Ideology, Durham: Duke University Press.

[87] - Kant, ([1793] 1998), n. 3, pp. 58-9.

[88] - Richard J. Bernstein, (2002), Radical Evil: A Philosophical Investigation, Cambridge: Polity, p. 4.

[89] - تضيف أرندت: «هناك شيء متأصّل في تقليدنا الفلسفي بكامله، وهو أنّنا لا نستطيع أن نتصوّر ‘شراً جذرياً‘، وينطبق ذلك على اللاهوت المسيحي، الذي اعترف للشيطان نفسه بأصل سماوي، وعلى كانط الذي يُعدّ الفيلسوف الوحيد الذي اشتبه في وجود هذا الشر، وإن كان عقلنه بسرعة في مفهوم ‘إرادة منحرفة‘ يمكن تفسيرها بدوافع مفهومة».

Hannah Arendt, (1966), The Origins of Totalitarianism, New York, Harcourt, p. 459

[90] - Derrida, (1988), n. 33, p. 15

[91] - Derrida, (1988), n. 33, p. 16

[92] - Martin B. Matuštik, (2008), Radical Evil and the Scarcity of Hope, Indiana, Indiana University Press, pp. 92, 150-151.

[93] - انظر من بين آخرين:

Iris M. Young, (1990), Justice and the Politics of Difference, Princeton: Princeton University Press.

[94] - Habermas (2003a), n. 27, p. 7

[95] - Habermas (2003a), n. 27, p. 42

[96] - Carol Gould, «Diversity and Democracy: Representing Differences», in S. Benhabib (ed) (1996) Democracy and Difference: Contesting the Boundaries of the Political, pp.171-88. New Jersey: Princeton University Press.

[97] - Giovanna Borradori, (ed) (2003), Philosophy in a Time of Terror: Dialogues With Jürgen Habermas and Jacques Derrida, Chicago, Chicago University Press.

[98] - Habermas in Borradori (2003), n. 94, p. 35

[99] - Habermas in Borradori (2003), n. 94, p. 35

[100] - Jürgen Habermas, (1993), Justification and Application (trans. C. Cronin), Cambridge, Polity, pp. 59-60.

[101]- على الرغم من أنّ هابرماس دافع عن شيء مثل هذا بخصوص تدخل منظمة حلف شمال الأطلسي في كوسوفو سنة 1999. انظر (2006)، n. 4

[102] - Habermas, (1996), n. 24, pp. 382-4.

[103] - Habermas in Borradori (2003), n. 94, p. 34; W. Smith (2008) «Civil Disobedience and Social Power: Reflections on Habermas», Contemporary Political Theory, 7: 72-89.

يلاحظ أونيل (O’Neil (2010), n. 10, p. 133) أن هابرماس، في الدعوة إلى أعمال العنف ضد «جرائم» الظلم، يعتبر مشروعية القوانين القائمة مسألة بديهية، وهو أمرٌ يجده أونيل «مسلمة قانونية تنطوي على مشاكل معقدة». هناك أمثلة عديدة على أهمية العنف في توليد المجتمع السياسي. انظر مثلاً ملاحظات كاين حول انتفاضة ديبلن سنة 1916. انظر (1996, n. 13, pp. 76-79). وفي السياق نفسه، يناقش هوارد (2000, n. 2) الدور الذي تؤديه الحرب في تنظيم السلطة السياسية، وركز نورث وزملاؤه (2009, n. 6) على دور العنف في توليد الأنظمة الاجتماعية.

[104] - Habermas in Borradori (2003), n. 94, p. 34

[105] - Habermas in Borradori (2003), n. 94, p. 34

[106] - S. K. White and E. R. Farr, (2012), «No-Saying’’ in Habermas», Political Theory 40: 32-57.

[107] - Jürgen Habermas, (1985), “Civil Disobedience: Litmus Test of the Democratic Constitutional State”, Berkeley Journal of Sociology 30: 95-116, p. 105

[108] - Immanuel Kant, ([1785] 1996), The Metaphysics of Morals (trans. and ed. Mary Gregor), Cambridge, Cambridge University Press, 6: 318, p. 95

[109]- يقترح توماسن قراءتين ممكنتين لهابرماس توضحان ازدواجيته المتعلقة بهذا الموضوع. أولاً، تفترض مقاربة هابرماس للقانون العقلاني أنّه يمكن التوفيق بين الشرعيّة والمشروعية؛ ثانياً، تفترض قراءة هابرماس وجود «فجوة تأسيسية» بين الشرعية والمشروعية، بحيث لا يمكن تحقيق الاستقلالية والقانون العقلاني. إنّ استدلالات هابرماس ذات الطبيعة الفلسفية تميل إلى الإجماع مع القراءة الأولى، بينما تعليقاته السياسية أكثر انفتاحاً على القراءة الثانية.

[110] - Jürgen Habermas, (2003b), The Future of Human Nature, Cambridge: Polity, p. 109

[111] - Habermas, (2003b), n. 106, p. 110

[112] - Habermas, (2003b), n. 106, p. 110. Jürgen Habermas, (2008), Between Naturalism and Religion, Cambridge: Polity, chapter 5 «Religion in the Public Sphere».

[113] - Matuštik, (2008), n. 89, pp. 62, 70

يقترح ماتوشتيك أنّ الإمكانية البشرية للشرّ الشيطاني «تعيد النظر فينا كظاهرة دينية بعد موت الله». ويتساءل: «إذا لم يكن هذا الشر قد نشأ أبداً، فهل ستكون هناك حاجة إلى ترجمتها العقلانية؟ لم يكن باستطاعة كانط وهابرماس أن يوجدا في الاتجاهين معاً». ص 77

[114] - Bernstein, (2002), n. 85, p. 34

[115] - Habermas in Borradori, (2003), n. 94, p. 38