حوار مع الباحث المغربي عبد الرحيم العلام: العَلمانية لم تنطلق أو تَتَأسّس على العداء للدين


فئة :  حوارات

حوار مع الباحث المغربي عبد الرحيم العلام:  العَلمانية لم تنطلق أو تَتَأسّس على العداء للدين

حوار مع الباحث المغربي عبد الرحيم العلام:[1]

العَلمانية لم تنطلق أو تَتَأسّس على العداء للدين

ذكر الباحث المغربي عبد الرحيم العلام، أنّ العَلمانية لم تنطلق أو تَتَأسّس على العداء للدين بما هو شأن يتعلق بالإنسان وخالقه، أو ابتغت طرد الدين من المجتمعات، أو عزل الحياة البشرية، أو التدخُّل في الحريات الدينية للمؤمنين، ولكنها سعت إلى التمييز بين الميدان المدني (العلماني) وبين الشؤون الروحية لمعتنقي الديانات، والحد من التأويلات الدينية الرامية للهيمنة على كافة الشؤون الحياتية.

وأوضح الدكتور العلام في حواره مع مجلة "ذوات"، أن العَلمانية التي نظّرت لها التآليف الفكرية، لم تسعَ لقمع الدين أو هدم الكنائس وتعويضها بمنشآت مَدنية، كما يتأوّل ذلك البعض أو كما حاولت بعض التجارب "العَلمانية" الترويج له، وإنما كان شعار الفكر العلماني في الغرب هو، أنه لا مجال للكنيسة القويّة إلا داخل الدولة القوية، وأن استقلالية الدولة لا تتأتى إلا من استقلالية الدِّين، وأن التمييز بين العمومي والخصوصي وبين الدين والدولة، سيكون أكبر خدمة للدين والدولة بشكل مُتزامِن، مشيرا إلى أن تصورات بعض المدافعين عن الطرح العلماني قد أساءت للعلمانية، ولم تميز بين العلمانية واللادينية، ومزجت بين مخاصمة الدين وبين مخاصمة الذين يتوسلون بالدين من أجل الأهداف السياسية.

وأكد العلام أنه من أجل تبيئة مفهوم العلمانية ورفع التباساته، لا بد من امتلاك صورته الحقيقية، والإحاطة بنسخته الصلبة، وتوعية الناس بمخاطر الدولة التي ينشدها الإحياء الديني ليس على غير المتدينين، وإنما على المتدينين أنفسهم، لأن الدول التي تدير أنظمتها حكومات دينية تكون سماتها الأساسية هي الشمولية والتغول على المجتمع المدني.

وخلص إلى أنه مع الضروري التركيز على أن الدولة العلمانية، والتي يفضل تسميتها بـ "الدولة الحيادية"، هي نتيجة وليست منطلقا، وأن علمانية الدولة ممارسة عملية وليست شعارا يتم تضمينه في الوثائق الدستورية؛ لأن العلمانية تتضمّن: المساواة، وحرية المعتقد، والمواطنة المتكافئة، وحقوق الإنسان، والحريات السياسية، والتفاهم، والتعددية.

والباحث المغربي عبد الرحيم العلام، متحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية، كلية الحقوق، جامعة القاضي عياض. أستاذ القانون الدستوري والفكر السياسي، بنفس الجامعة، إضافة إلى كونه المدير التنفيذي لمركز تكامل للدراسات والأبحاث.

صدرت له مجموعة من الكتب الفردية والجماعية حول الشأن المغربي: "الملكية وما يحيط بها في الدستور المغربي المعدل"، و"الانتخابات التشريعية بين إنعاش الآمال وتكريس الإحباطات"، والعديد من الدراسات المنشورة في مجلات علمية محكّمة مغربية ودولية، في مواضيع متعلقة بالفلسفة السياسية والشريعة والقانون والفكر الدستوري، والعلمانية والدولة المدنية. من بين مؤلفاته المنشورة، نذكر: "العلمانية والدولة المدنية: تواريخ الفكرة، تطبيقاتها وسياقاتها"، و"الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة جغرافية مذهبية".

عزيز العرباوي: في إطار اهتمامك بالفكر الديني وبقضايا العالم العربي والدولة المدنية، صدر لك كتاب بعنوان "العلمانية والدولة المدنية" عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، فهل يمكنك إعطاءنا لمحة مختصرة عن الكتاب؟ وكيف تقدم العلمانية كمفهوم وأسلوب سياسي لمجتمع تقليدي مازال لم يبرح بعد ماضويته وتراثيته على جميع المستويات؟

عبد الرحيم العلام: يهدف الكتاب للإجابة عن عديد الأسئلة من قبيل: ماذا يُقصد بالدين؟ ولماذا تتعدّد فهومات البشر لأمور الدين؟ وهل يخضع الفهم الديني لمقتضيات التاريخانية؟ وما تأثير كلّ ذلك على تقبّل المجتمعات المسلمة للمبدأ العلماني؟ وكيف نشأت الفكرة العَلمانية في الدول العربية-الإسلامية؟ وكيف كانت ردود الفعل إزاءها؟ وما مدى تطابق التجارب "العَلمانية" في بعض الدول الإسلامية مع العَلمانية الغربية؟ وهل اصطلاح الدولة المدنية مجرّد التفاف على مفهوم الدولة العَلمانية؟ كما تساءلت في الكتاب عن تاريخ نشأة الدولة؟ وهل جميع أشكال الكيانات السياسية تتوافر فيها شروط الدولة؟ وما علاقة الدولة بالمجتمع؟ وما تأثيرها على الحريات؟ ومن أين تتحصّل الدولة على مشروعيتها؟ وكيف نميّز بين أنواع الدولة: الدينية، والثيوقراطية، والأوتوقراطية، والمدنية؟ وهل الدولة قابلة للتَعلمُن أو للتّديُّن؟ وما علاقة الاستعمار الأجنبي ببناء الدول القطرية التي خلفها؟ وهل الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية بِنتُ بيئتها، أم هي ظاهرة مستورَدة ومهجّنة؟

وفي معرض معالجة هذه الأسئلة وغيرها، ابتعد الكتاب ما أمكن عن التعريفات الجاهزة، والتصريحات الحدّية، ولأن المفاهيم والموضوعات لا تتعيّن بالأفكار وحسب، بل بالتحوّلات التاريخية أيضا، فإننا عدنا، من أجل بحث وفهم علاقة الدين بالدولة والسياسة راهنا إلى التاريخ الإنساني، قصد تتبّع مسار التحول الذي يمكن عَبره بناء قنطرة للتواصل بين الماضي والحاضر مرورا بالعصور الوسطى والحديثة. وهكذا ركّز الكتاب على تجاذبات المقدس والدنيوي من جهة، والديني والسياسي من جهة ثانية، في المجالين التداوليّين الغربي(المسيحي) والشرقي (الإسلامي)، حدّدنا المجال الأول ابتداء من اللحظة التي تم فيها التلاقي بين الدين المسيحي والإمبراطورية الرومانية إبّان القرون الأولى قبل وبعد تمسُّحها، مرورا بالعصور الوسطى وتفاعلاتها، وصولا إلى عصر النهضة الأوروبية وبعده الحقبة الأنوارية وثوراتها، وانتهاء إلى ما يُعتمَل راهنا في مجموعة من الدول الغربية (في أوروبا وأمريكا)، مع عقد مقارنات بين نماذج سياسية، محاولين التنبيه إلى أن التطبيقات العَلمانية تتعدّد وتتنوّعُ حسب السياق التاريخي لكل تجربة، وهذه إحدى فرضيات البحث. وهذا ما رُمنا التعبير عنه في العنوان الفرعي للبحث بـ "السيّاقات" (Les contextes)، بهدف بحث مختلف الظروف والعوامل التي أسّست لفكرة العَلمانية. أما المجال الإسلامي، فقد افتتحناه بالتجربة النبوية في مكة والمدينة، وما تلاها من فترات وحقب تنوّعت بين ما يُطلق عليه "خلافة راشدة" و"سَلْطنة" و"دولا شخصية"، بلوغا إلى الواقع الذي خلّفته موجة الاستعمارات الأجنبية والصراعات الإثنية والدينية. فالرجوع إلى هذا التاريخ (التواريخ) هو من قبيل التقاط لحظة التحول والتطور اللّذين عرفتهما البشرية فيما يخص جدلية الديني والسياسي، وعلاقة الدين بالدولة فيما بعد، بهدف الربط بين التطورات التاريخية باللحظة المعاصرة للعَلمانية في الغرب، ورِهانات الصراع في الشرق الإسلامي. ولأن التطورات السياسية التاريخية ليست وحدها التي نحتَتْ مضمون العَلمانية في الغرب، ولا نظَمت العلاقة بين الدين والسياسة في الشرق، فإنه كان لزاما على بحث "العَلمانية والدولة المدنية"، ألاّ يُغفل قراءة نصوص الفلسفة السياسية في كِلا التجربتين (رغم طغيان الآداب السلطانية في التجربة الإسلامية). فهذه النصوص أدّت دورا مهما في صياغة الذهنية الجَمْعية وتشكيل الهُويّة السياسية لكثير من الشعوب. لم تكن العلاقة بين الدين والسياسة وحدها ما شكّل محور الكتاب، ولكن تم ربطُ ذلك دائما بالدولة، سواء الدولة كما عرفها التاريخ أو الدولة كما نظّر لها الفكر السياسي، سيما أننا بصدد دراسة مجالين سياسيّين مختلفين من حيث طبيعة التكوين والمآلات التطبيقية، ممّا جعل الكتاب مؤطَّرًا بسيلٍ من الأسئلة، من قبيل التساؤل عن تاريخ نشأة الدولة؟ وكيف نشأت؟ وما الحاجة إليها؟ وهل جميع أشكال الكيّانات السياسية تتوفر فيها شروط الدولة L’ETAT؟ وكيف يتمثَّل المجتمع الدولة؟ وما علاقة الدولة بالمجتمع؟ وما تأثيرها على الحريات؟

أما الشق الثاني من السؤال، فهو كان بشكل أو بآخر أحد أسباب التفكير في كتابة الكتاب، لأن مرام بسط أسباب سوء التفاهم الحاصل حول موضوع العلمانية، ما دامت علاقة المقدّس بالدنيوي أو الديني بالسياسي يحيطها الكثير من اللّبس والغموض، سواء بالنسبة إلى المتحمّسين للفصل بين الدين والدولة، أو بالنسبة إلى الطّامحين إلى الوصل بينهما. وكل فريق يجتهد في بسط حُجَجِه وبراهينه للتّدليل على أطروحته، لكنها في الأغلب الأعمّ تكون براهين وأدلة صادرة عن أفكار مسبقة، بينما يأتي الاحتيَاجُ إلى الدليل في مرتبة تالية؛ فالعلماني مقتنعٌ بصوابية طرحه بشكل أقرب إلى الأيديولوجيا، بينما ينطلِق الذي يرفُض العَلمانية من أحكام مسبقة استخلصها من قراءات سياسية أو أيديولوجية أو مُفتقِدة للموضوعية والعِلمية، أو من ممارسةٍ لا تمتّ بصلة لأصل المبدأ والمراد منه.

ساهم في هذا اللبس والغموض، عدم الحسم في مجموعة من الإشكالات والتحديدات، من قَبيل تحديد المقصود من الدين والسياسة والدولة، وغياب التمييز بين الحكم والقضاء، وبين الشريعة والقانون، وبين رجال الدين ورجال السياسة، وبين الفضاء العام والفضاء الخاص، وبين الحرّيات الفردية والحرّيات السياسية، وبين رفض الدّين ورفض التفسيرات الدينية، وبين ثُنائِيَتيْ: دين ودولة ودين ودنيا، وبين تديُّن المجتمع وعلمنة الدولة أو مدنيّتها، وبين ما يَصلُح أن يكون العقلُ مرجعية له، وما يصلح أن يكون الإيمان مرجعية له... وغيرها من التحديدات المفاهيمية، التي من شأن التفاهم حولها أن يقود إلى الاستيعاب الصحيح، أو على الأقل ردم الأسوار المَانعةِ للمعرفة الصحيحة، والمساهِمَة في التوافق على أرضية يمكن الانطلاق منها لبناء فضاء عمومي يسمح بالتداول الحر المؤسَّس على الاستعمال العمومي للعقل، والمؤسِّس لعقلانية التشريع وتكريس مبدأ التسامح بما هو قيمة عُليا، وليس مجرد ادّعاء لحظي لا تستضمره الأنفس ولا تستوعبه الأجيال.

عزيز العرباوي: يرى الفيلسوف الفرنسي جان لاكروا، أنّ العلمانية ليست المقابل المعارض لفكرة الدين، ولكنها تستدعي على الأقل "التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس"؛ فإلى أي حد يمكن الاتفاق مع هذا الرأي؟

عبد الرحيم العلام: أستحضر للإجابة عن هذا السؤال، عبارة عميقة لمفكر فرنسي آخر هو مارسيل غوشيه، يقول فيها: "نحن الآن بصدد تعلم سياسة الإنسان من دون السماء، وليس مع السماء، وليس مكان السماء، وليس ضد السماء". ما أعني أن الدولة العلمانية والتي أفضل وسمها بـ "الدولة المحايدة" لا تهدف إلى تعليم الناس الدين أو تسعى إلى دفع الناس إلى الجنة، لكنها في نفس الوقت تسمح للناس بأن يتعلموا أديانهم، كما تتيح لهم حرية البحث عن جنّاتهم كل حسب دينه ومذهبه. إنها إذن، دولة لا يمكن أن تكون مستقلة إلا إذا كان المعبد مستقلا، حيث لا مجال لقوة الدين من دون قوة الدولة، حيث يتمايز فيها "أهل" الدين عن أهل السياسة، ولا يتم الخلط فيها بين ما هو سياسي وما هو ديني. كما أنها لا تسعى إلى فصل المجتمع عن هوياته، أو تَحول بين المرء وثقافته وعاداته، ما لم تحمل في طياتها أضرارا ضد المجتمع أو الذات (التقاليد التي تؤدي إلى قتل البنات مثلا أو تعريضهن إلى صنوف من التمييز أو حرمانهن من التعليم أو إجبارهن على البغاء أو الزواج...). كما أن حياد الدولة لا يلزمها بمنع وجود المذاهب والطوائف الدينية أو الفلسفات الحياتية، وإنما يجبرها على التدخّل بكل قوة وعنف وعدل ضد كل احتراب طائفي أو عرقي أو أيديولوجي. فهي التي تتعايش فيها كل الأقليات بجانب الأغلبيات، فضلا عن أنها لا تسمح بأن تسيطر أقلية أو أغلبية على حساب باقي المجتمع، وهي التي تحمي المؤمنين وتحفظ معابدهم، كما تحمي غير المؤمنين وتحفظ فلسفاتهم.

لذلك أحاول التركيز على الدولة أولا، ثم على نعوتها في مرتبة ثانية، لأن الدولة بطبيعتها لا يمكن عَلمنتها ولا تَدْيِينُها، بل هي عنصر مستقلٌّ ومحايدٌ ومنفصلٌ عن السياسة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن الدين لا يتعارض مع القول السالف، وإنما يتعارض مع الرؤى الدينية التي كوّنها الإنسان عن العَلمانية وعن الدولة نفسها، وأن هذه الرؤية قد لا تتناقض مع العَلمانية التأسيسية ذات الطّرح غير المُتضادّ مع المضمون الديني، وإنما تتناقض والمسار التطّوري لمفهوم العَلمنة، سيما نسختها الشائهة في الغرب والشرق. وهذا ما يمنحنا إياه الارتكاز على أولوية التجربة والتاريخ في فهم العديد من الظواهر، لأن التاريخ كما يُفرِزُ الفكرة فإنه أيضا يكون نِتاجًا لها في بعض الأحيان. والواقع أن كل المنظومات الفكرية والثقافية والفلسفات الأرضية والأديان الوَحيانية قد أفرزت قراءات وتأويلات متعددة لنصوصها التأسيسية، قراءات ما لبثت أن تحولت إلى أيديولوجيات ومتون وهوامش تلوكها الألسن دون نقد، تُمارسها أنظمة الحكم أو الجماعات الدينية إلى درجة الانغلاق. وبالتقاطع، ومع مرور الأزمنة، تُضْحِي الأيديولوجيات الحاكمة والمسيطرة محطّ أنظار حركات اجتماعية، تَعتمد قراءات وتأويلات مغايرة، وتهدف إلى إزاحة النخب الحاكمة من أجل تكريس رؤاها وتفسيراتها، التي غالبا ما تكون نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية مغايرة للواقع المعاصر.

والمقصود بهذا القول بشكل أوضح هو إلحاحية التمييز بين المضامين الأيديولوجية للمفاهيم وبين النظرة الأيديولوجية للأشياء، فما لم تتحرّر الإنسانية والفكر الإنساني من رؤيةُ العالَمِ أيديولوجيًّا، فإنها لن تستطيع تقديم تصور موضوعي عن حقيقة الأشياء والموضوعات، ومن تم تضيع المصالح وتهتزُّ البُنى المؤسَّسِية والفكرية.

عزيز العرباوي: تفترض العلمانية جانبًا من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين؛ فهل يمكن حقيقة أن يقنع هذا الرأي أكبر عدد ممكن من الناس في عالمنا العربي، أم أن الأمر يحتاج من المفكر والباحث اللجوء إلى وسائل أخرى؟

عبد الرحيم العلام: من خلال دراستنا لموضوع العلمانية في مصادرها الفكرية وتطبيقاتها المتعددة، وسياقاتها المتنوعة، يمكن القول إن هناك سوء فهم كبير فيما يخص تصور المجتمعات المسلمة لمسألة العلمانية، مما جعل هذا المفهوم ملتبسا ومشحونا بالانفعالات والأحكام المسبقة، مما حدا بمفكر عقلاني من طينة المرحوم محمد عابد الجابري إلى المناداة بالاستعاضة عن مصطلح "العَلمانية" بمفهومي العقلانية والديمقراطية، وربما هو السبب نفسه الذي جعل تعبير "الدولة المدنية" في البلدان ذات الأغلبية المسلمة يطغى على التداول وخفوت الحديث عن الدولة العلمانية.

لكن لا يبدو أن هذا الالتفاف سيصمد طويلا، عندما يتحول العداء للدولة العلمانية إلى الدولة المدنية، أو يتم إفقاد التعبير الأخير مضمونه القيمي، وتتحول الدولة المدنية إلى مقابل للدولة العسكرية فقط، لذلك ربما يستحسن المزيد من التوعية بمضمون العلمانية وفك الالتباس المرتبط بها، سواء تلك التي ربطها بعض المتحمسين لها من دون علم أم تلك التي ألصقها بها خصومها عن سبق إصرار وترصد. نعم، إنه من الجيد أن يلجأ المدافعون عن العلمانية إلى الوقوف على ما أسميه نسختها التأسيسية والابتعاد عن صيغها الشائهة، فالعلمانية علمانيات بالجمع وليس علمانية بالمفرد، كما يستحسن تهييئ أرضية صالحة لتقبل المبدأ العلماني من داخل المنظومة الدينية نفسه، فلقد أظهر التعمق في تواريخ الفكرة العَلمانية، وإدراك سياقاتها المتعدّدة، أنه بقدر ما ساهم التأويل الديني في خلق التباسات كثيرة بين علاقة الدين بالسياسة، بقدر ما تمكنت بعض الفهومات الدينية، والتجديدات الفقهية في تطوير منظور مغاير للسياسة والدين. أخذا في الاعتبار أن هناك تباينا بين مساهمات علماء الدين في تطوير المنظومة الدينية، على صعيد التجربتين الغربية والإسلامية؛ فلئن استطاعت أفكار سانت أغسطينيس وطوما الأكويني ومارسليوس ولوثر وكالفن وسبينوزا وغيرهم من إحداث تغييرات كبيرة على مستوى رؤية الكنيسة للسياسة، فإن اجتهادات العديد من الفقهاء والفلاسفة والمصلحين المسلمين أمثال الغزالي والفارابي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، لم تقوَ على تحقيق ذات الأهداف، إما لأن أفكار هؤلاء لم تكن بالعمق الذي ينبغي أن تكون عليه، حيث ظلت رهينة للرؤية الأردشيرية للعلاقة بين الدين والمُلك، وإما لكونها لم تستفد من العوامل (العلم، الثورات، الاقتصاد...) التي ساهمت في نشوء الدولة في التجربة المسيحية/ الغربية.

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى ملاحظتين: تتعلق الأولى بكون العلمانية المعاصرة متجذرة في التاريخ، وأنها مفهوم يزخر بالأحداث والسيرورات، وأن المسألة لا تتعلق بكلمة تلوكها الألسن أو تحفل بها القواميس، وإنما مضمون العَلمانية نحته التاريخ وصقلته المجتمعات المتعاقبة، إذ ليست العَلمانية محض تأمّل منعزل عن الواقع، أو هي نِتاجٌ لطبقة أو فئة أو قبيلة أو دين معيّن، وإنما العَلمانية تَراكُمٌ من الأحداث وطبقات من الفكر، تمخّض، ليس عن تاريخ محدد، وإنما عن تواريخ وحضارات وثقافات، كل حضارة أسهمت فيه بفعلٍ أو فكرة أو ممارسة، حتى ولو كانت هذه الأفعال سلبية، أو تضمنّت الأفكار بعض الارتكاسية، إلا أنها مع ذلك أفضت إلى خلق توتّرات اعتُبرت ضرورية من أجل دفع مسار التاريخ ورفده. بينما تتصل الملاحظة الثانية، بتطبيقات العَلمانية المتعددة والمتنوّعة، إذ بيّنت بعض النماذج الدراسية أن الممارسة العَلمانية، إن صحّ التعبير، تختلف من بلد إلى آخر، بل وداخل الدولة الواحدة. وحينما نتحدّث عن الاختلاف فالقصد ليس بعض التفاصيل الصغيرة، وإنما هناك فوارق دالّة؛ فرغم أن جميع الدول الغربية، تقريبا، تُعلن عن كونها علمانية، إلا أن دولا قليلة جدا هي من أعلنت في دستورها كونها علمانية، في الوقت الذي أقرّت فيه دساتير أخرى "الكنيسة المقررة" (اليونان مثلا)، أو أناطت برئيس الدولة رئاسة الكنيسة، أو فرضت على الدولة جَمْع الضرائب لصالح الكنيسة (ألمانيا مثلا)... إلخ.

عزيز العرباوي: يمكن وصف قواعد العيش المشترك المقبولة من جماعة ما بالعلمانية، إذا لم تشر إلى أي معتقد ديني خاص، وبالتالي لا يمكن لهذه القواعد أن تصدر سوى من البحث عن فهم أفضل لحياة البشر الواقعية، وأن محاولة الفهم هذه هي ما يشكل أساس تطوّر العلم عبر التاريخ. في هذا الإطار، كيف يمكن لفئات أخرى لا تدخل في إطار الأولى أن تقبل مثل هذه القواعد أو على الأقل أن تقبل بها وتحترمها وتتعامل معها على أساس الحرية في الاختلاف؟

عبد الرحيم العلام: في هذا السياق، لا يمكن الرهان كثيرا على الأبحاث النظرية والحجج العقلية من أجل إقناع المجموعات الدينية بسلك نهج مدني، يقبل بقواعد العيش المشترك التي كرستها التجربة العلمانية في الغرب، لأن التاريخ قد أبان على أنه من الصعب أن تقتنع البشرية وإنما تألف؛ فكما الإيمان تجربة ذاتية، فإن تدبير العيش وفق مبادئ المواطنة، يحتاج إلى تجارب متعددة، من شأنها أن تبرهن بالملموس على أن لا سبيل للجماعات المتعايشة من حد أدنى من التوافق، إذا ما أرادت أن تحيى ضمن نفس الرقعة الجغرافية. فالتجربة أو التجارب العلمانية الغربية نفسها لم تنطلق من الحجج العقلية فحسب، وإنما ساهمت فيها عدة عوامل بدت أحيانا أنها متناقضة من قبيل الإصلاح الديني الذي اجترحته مجموعة من المصلحين الدينيين والفلاسفة، التطور العلمي الذي ساهم في تغيير رؤية الإنسان للعالم، ورفع الطابع السحري عن الكون والطبيعة أو ما يطلق عليه ماكس فيبر "انهيار جدران الدّير"، الصراعات الطائفية بين أتباع الأديان التي فرضت القبول بحيادية الدولة حيال جميع العقائد أو ما يسمى بـ "العَلمانية الإجرائية"، إضافة إلى الدور الذي قام به الحكم المطلق في سبيل التأسيس للدولة الوطنية، من خلال انتزاعه لعديد من الأقاليم من سيطرة الحكم الديني الإمبراطوري، وصولا إلى التطور الاقتصادي الذي ساعد على خلق نظرة مغايرة للدنيا، حيث تحول الإنسان من زاهد فيها إلى مُقبل عليها، ويبقى أهم عامل ساهم في التأسيس للفضاء الحر والمستقل، هو عامل الثورة. فلقد أسهم عصر الثورات في التأسيس للحريات بشتى أصنافها: السياسية، الدينية، المدنية... ولم يكن الثوار يهدفون إلى إقامة حكم علماني، وإنما كان صراعهم مع رجال الدين لأنهم تحولوا إلى حكام سياسيين أو مدافعين عن الإقطاع. أما في الدول التي لم يكن فيها لرجال الدين دور في الحكم ولم يُشرعنوا للديكتاتورية، فإن الثورة تحالفت مع هؤلاء ولم تدخل في صراع مع الدين (الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية، وفي إسبانيا في المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية).

ومن المتوقع أن لا يحيد المجال التداولي العربي الإسلامي عن هذا المسار، فلقد أشّرت الكثير من الحروب الطائفية التي تعرفها المنطقة، والصراعات غير المنتهية التي تعيشها البلدان ذات الأغلبيات المسملة، على تحول عميق في بنية الاجتماع السياسي، ربما من شأنه أن يسفر على إمكانيةــ على الأقلــ مناقشة الطرح العلمانية/ المدنية للأزمة المستفحلة. فلئن رفرف شعار "الإسلام هو الحل" لعقود متواصلة، حاشدا خلفه جموعا من الناس المتأملين في الحل الإسلامي ردا على موجات الفقر المستدام والطغيان السياسي والتفاوت الطبقي، ظنا منهم بأن المشكل يكمن في البعد عن الدين، فإن نفس الشعار سيتسبب في صراعات مستجدة ومتكررة ليس بين المذاهب المختلفة وحسب بل داخل المذهب الواحد نفسه، مثاله ما يحدث في الصومال وأفغانسان وباكستان بالنسبة إلى المذهب السني، والعراق (الصراع بين الفصائل الشيعية) ولبنان (الخصومة القديمة بين حزب الله وحركة أمل)، كما تعرف العديد من الدول المغاربية خلافات شديدة بين الحركات الإسلامية وصلت في أحايين كثيرة إلى درجة استعمال الأسلحة النارية.

ومن هذا المنطلق، يمكن استخلاص أن صراع "رايات لا إله إلا الله" في أكثر من منطقة، يشبه كثيرا الصراع الذي عرفته أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك، والذي أدى في آخر المطاف إلى القبول بالآخر، وبروز فكرة "التسامح" ليس من منطلق مبدئي، وإنما فقط بالنظر إلى التسامح كوضع مؤقت، وكان معنى هذا أنه إذا استطاع أي طرف السيطرة على المجتمع كما يحلو له، فسوف يفرض مذهبه الديني على أنه الإيمان الوحيد المسموح به. فصحيح أن يوجد في منطقتنا اليوم ما يشبه هذا الوضع، إذ ساهمت وستساهم الحروب الأهلية الجارية في ظهور دعوات التسامح ونبذ العنف، والقبول بالآخر بصرف النظر عن حجمه أو دينه. لكن هذه الدعوات ينبغي أن تتحول إلى مبادئ صليبية تتربى عليها الأجيال، أو كما أشار إلى ذلك المفكر الأمريكي "جون راولز" في كتابه القيم "قانون الشعوب"، عندما نصح بأن يتخلى وإلى الأبد عن الأمل في فكرة انتظار فرصة من أجل تغيير الدستور، حيث نفرض هيمنة عقائدنا الدينية على غيرها من الأديان والمذاهب دينية كانت أو غير دينية، أو نجعل التزاماتنا مشروطة، حيث نضمن لعقائدنا نفوذا ونجاحا، مثل هذه الآمال والأهداف لا تتفق بحال مع فكرة الحريات الأساسية المتساوية لمواطنين جميعهم أحرار ومتساوون". فلكي نعيش في حالة سلم، رغم أن هذه الحالة أصبحت شبه معدومة مما دفع أحد العلماء إلى طرح سؤال: لماذا يوجد السلم؟ بدل سؤال: لماذا توجد الحرب؟ بما أن الحرب أصبحت هي الأصل بينما أمسى السلم استثناء. أقول، لكي نتعايش فيما بيننا رغم اختلافنا، لا بد من العمل على تقوية المشترك، تكريس مبادئ المواطنة الجامعة، وتنمية ثقافة الحوار ضمن الفضاء العمومي الحر، والكف عن أن يعتقد البعض بأنه مأمور بتديين مواطنيه أو مسؤول عن إخراجهم من الدين، وإنما من الأفضل أن يراهن الجميع على بناء حكومات سياسية تميز بين مجال الدين ومجال السياسة، وأن يكون هدفها إيجاد "الجنة في الأرض" لجميع المواطنين بصرف النظر عن أجناسهم وأديانهم وفلسفاتهم، دون أن تحول بينهم وبين البحث عن “جناتهم في الحيوات الأخرى” كل حسب دينه وفلسفته، لكن ضمن أجواء السلم والحوار وعدم الإكراه.

عزيز العرباوي: نعيش في العقود الأخيرة العديد من المظاهر التي تؤكد بالملموس عودة قوية إلى الدين ومظاهره السلوكية والثقافية، في حين نرى تراجعاً واضحاً للعلمانية سواء على مستوى الخطاب أم على مستوى الكتابة والاهتمام الفكري، فهل يمكننا القول إن هذا الحضور الديني كان على حساب العلمانية، أم كان وفق منطقها، حيث صار يؤدي إلى علمنة الدين بطريقة أو بأخرى؟

عبد الرحيم العلام: ربما من الأفضل عدم الجزم بغلبة الحضور الديني في مقابل تصحر الفكر والممارسة العلمانيين، لأن مؤشرات حضور كلا الجانبين متوفرة لا يخطئها العقل ولا تتيه عنها العين، فإذا كان صحيحا أن هناك اهتماما متزايدا بالدين واستهلاكا متواصلا للمنتوج الديني، سواء من حيث الخطاب الدارج أو طريقة اللباس أو إحياء بعض المراسيم الدينية أو فاعلية بعض الحركات الدينية أو نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية، فإن كل ذلك لا يدلل على رغبة من لدن المواطنين على الدمج بين الدين والسياسة، وإنما قد يفضي الأمر إلى نوع من العلمانية غير المعلنة، أو بالأحرى عن دنيوية التكفير، حيث يحرص الإنسان على الشعائر الدنيوية دون ربطها بالمجال السياسي. أما فاعلية الحركات الدينية المتطرفة، فهي لا تؤشر على بداية بروز الفكر الديني النازع نحو دمغ السياسية بالدين، وإنما قد تعكس انحصار هذا النمط من التدين، الأمر الذي دفعه إلى اللجوء إلى العنف في حده الأقصى. فوجود كم ألف من العناصر المنخرطة في الحركات المتطرفة، التي تخلق الحدث اليومي لا ينم عن انتشارها ومقبولية أفكارها، لأن هذه الأعداد لا تساوي الكثير في ظل أكثر من ملياري مسلم، كما من المفيد أن بعض التنظيمات اتخذت لها أسماء "لدولة الإسلامية" و"الخلافة الإسلامية"، لأن هذه الشعارات ظلت حلما لذا الكثير من المسلمين، اعتقادا منهم بأن إقامتها سيحل كل مشاكل "الأمة"، لكن الواقع المنقول عبر مختلف وسائل الإعلام المتاحة، أظهر نوع هذا الحلم الممزوج بالدم والإكراه والتفقير والتقييد. أردت القول بأننا لا نبتعد عن العلمنة، وإنما ننخرط فيها دون الإعلان عن ذلك، وأحيانا دون وعي منا، لأنه كما قلت لا يعني الإقبال على الدين من طرف المجتمع أن هذا الأخير يرفض العلمانية، ربما هذه المعادلة هي ما عبر عنه "دي توكفيل" قبل قرنين بقوله: "المجتمع الأمريكي أكثر تدينا والحكومة أكثر علمانية"، خذ معي مثلا مسألة الانتخابات التي تفوز فيها الأحزاب التي تتوسل بالشعارات الدينية، هل يمكن الجزم بالقول إن الناس تصوت عليها لأسباب دينية؟ أكيد أن الجواب هو بالنفي، لأن هذه الأحزاب عندما تنزل إلى الميدان السياسي، فهي تعد الناس بأوضاع اقتصادية جيدة، وتمنحهم آمالا بتحقيق طموحاتهم الدنيوية، وتبرز لهم جوانب النزاهة المتوفرة في أعضائها وبُعدهم عن الارتشاء والفساد وغيرها من المسميات، بمعنى أنها لا تعدهم بالجنة الأخروية، ومع ذلك فهي لا تنال إلا نسبة محدودة من الأصوات مقارنة مع عدد المواطنين الذين يحق لهم التصويت، كما أن نسبة مهمة من المصوتين والمتعاطفين، سرعان ما تبتعد عن هذه الأحزاب إذا لم تتوفق في تحقيق الوعود الدنيوية، انظر ماذا حدث في مصر بعد سنة واحدة من حكم الإخوان، وكيف انتقل التأييد إلى معارضة، والحديث هنا عما حدث يوم 30 يونيو (حزيران) 2012 وليس ما حدث يوم 3 يوليو (تموز) من نفس السنة.

يمكن استنتاج أن مظاهر التدين ومظاهر العلمنة يسيران بشكل متزامن، فبقدر ما يقبل الناس على دور العبادة واستهلاك للمنتوج الديني، وينتشر بينهم اللباس الموسوم بالديني، فإن إقبالهم على المهرجانات الفنية، والملاهي وباقي ملذات الحياة، وتفضيل طريقة اللباس العصرية يسير بنفس الوتيرة وربما أسرع، وبقدر ما تجد كيانات حزبية موسومة بالإسلامية تفوز بالانتخابات، تجد أيضا تيارات ليبرالية أو يسارية تحظى بالقبول في أكثر من بلد (التيار الليبرالي في ليبيا والتيار الإصلاحي في إيران مثلا)، وربما لم يكن الفكر المتطرف منبوذا بنفس الحجم الذي هو عليه اليوم، ولنا في تنظيمي: "القاعدة" و"داعش" خير مثال، فهاذين التنظيمين، وخاصة "القاعدة" كانا يتلقيان دعما متزايدا قبل سنوات، لكن التأييد انقلب إلى كره بعدما عاين الناس حجم الفظائع التي ارتكبت باسم الدين، ونلاحظ إعلانات متتالية عن "التوبة" المضادة.

كما تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنه حتى في المجال التداولي الذي وُسِم بـ "الغرب"، هناك بعض الديانات التي "تناضل" من أجل العودة إلى العمومية، و"الانعتاق" من المجال الخاص، الذي وضعتها فيه موجات العلمنة المتتالية.

عزيز العرباوي: يعتقد البعض أن تبني العلمانية في المجتمع العربي والإسلامي يعني التحرر الديني، فإلى أي حد هذا الكلام صحيح؟ وكيف يمكن إقناع المتدينين بصواب هذا الرأي أو بخطئه؟

عبد الرحيم العلام: لقد أبانت التنظيرات الفكرية والفلسفية، والتجارب السياسية، على أن مسألة العَلمانية لم تنطلق أو تَتَأسّس على العداء للدين بما هو شأن يتعلق بالإنسان وخالقه، أو ابتغت طرد الدين من المجتمعات، أو عزل الحياة البشرية، أو التدخُّل في الحريات الدينية للمؤمنين. ولكنها (العَلمانية) هدفت، من ضمن ما هدفت إليه، التمييز بين الميدان المدني (العلماني) وبين الشؤون الروحية لمعتنقي الديانات، والحد من التأويلات الدينية الرامية للهيمنة على كافة الشؤون الحياتية (السياسية، والأخلاقية، والثقافية، والعِلمية...). فالعَلمانية التي نظّرت لها التآليف الفكرية، لم تسعَ لقمع الدين أو هدم الكنائس وتعويضها بمنشآت مَدنية، كما يتأوّل ذلك البعض أو كما حاولت بعض التجارب "العَلمانية" الترويج له، وإنما كان شعار الفكر العلماني في الغرب هو، أنه لا مجال للكنيسة القويّة إلا داخل الدولة القوية، وأن استقلالية الدولة لا تتأتى إلا من استقلالية الدِّين، وأن التمييز بين العمومي والخصوصي وبين الدين والدولة، سيكون أكبر خدمة للدين والدولة بشكل مُتزامِن، وأن العَلمانية لم ترغب في سياسة الدنيا ضدا على الأديان، ولا معها، ولم تشأ الدخول في علاقة صراعيّة معها، وإنما حاولَت الفصل بين ما ينبغي أن يكون العقل الإنساني مرجعا له، وبين ما ينبغي أن يكون الدين مرجعًا له، مادام المجال الزمني المدني العلماني تسوده النسبية، بينما المجال الروحي المستنِد على الاعتقاد، يتميّز بالإطلاق. وأن الجانب الزمني يحتمل الإقناع والبرهنة والخطأ والصّواب، بينما لا يحتمل الاعتقاد والإيمان المُحاجَجة والتّخطيئ والتّصويب. وكون الدين (المطلَق) لا يتحرّك في الواقع إلا من خلال تأويلات الإنسان المعرّض لشتى صنوف التأثير والتأثٍّر.

من الوارد أيضا، أن بعض تصورات المدافعين عن الطرح العلماني قد أساءت للعلمانية، ولم تميز بين العلمانية واللادينية، ومزجت بين مخاصمة الدين وبين مخاصمة الذين يتوسلون بالدين من أجل الأهداف السياسية. والحال أن هذا الخلط ليس وليد تجربة المُسلمين لحظة اصطدامهم بقيَم الحداثة وحسب، بل هو نِتاج عملية خلط متواصل في بعض الفكر الغربي نفسه، بين مفهوم العَلمنة بما هو مسار تاريخي تكتنفه الأحداث والسيرورات، وبين نظرية العلمنة بوصفها رؤية للعالم مؤسَّسَة على العلم وطارِدَة للإيديولوجيا. وهنا يفيدنا علم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع الأديان في تلمّس بعض الأطاريح العلمية من أجل التفريق، نظريا على الأقل، بين العَلمانية بوصفها مفهوم والعَلمانية بوصفها نظرية. فبِدون هذا التمييز والاستيعاب ستبقى أية محاولة لتنزيل مسألة العَلمانية على بيئات جديدة مَحض مبادرة تأمّلية بالنسبة إلى الفكر، وعملية تشويه مطّرِد بالنسبة إلى الممارسة، سيما إذا ما ارتبطت عملية التنزيل هذه بأنظمة حكم مستبدة، تتوسّل بقضية العَلمانية بُغية فرض رؤية للواقع وهيمنة أكثر على المجتمع، مما يفرز ثيوقراطيات صاعدة توظّف المقدس من أجل الإجابة عن حاجيات سياسية ومجتمعية. وهنا نكون أمام أدْلجَة للعلمنة كمفهوم ونظرية، من قِبل الأطر الحاكمة، في مواجهة أدلجة الدين وتوظيفه، من قِبل الحركات الإحيائية أو الماضوية. الأمر الذي يؤدّي إلى التشويه المُمَأسس للعلمانية والدين في نفس الوقت.

لذلك، ومن أجل تبيئة مفهوم العلمانية ورفع التباساته، لا بد من امتلاك صورته الحقيقية، والإحاطة بنسخته الصلبة، وتوعية الناس بمخاطر الدولة التي ينشدها الإحياء الديني ليس على غير المتدينين، وإنما على المتدينين أنفسهم، لأن الدول التي تدير أنظمتها حكومات دينية تكون سماتها الأساسية هي الشمولية والتغول على المجتمع المدني، فهي دائما تدّعي الاستناد على مبررات علوية، ولهذا تلجأ في الغالب إلى النصوص الدينية، سواء التي وُضعت قبلا أو التي كانت من وضعها هي أو احتكرت تأويلها، وهذا الطابع الكلياني للدولة الدينية هو ما يدفع الطرح العلماني لرفضه، لا على أساس شكله، ولكن من حيث طبيعة موضوعه. ومن الأفضل للكتاب والمفكرين العلمانيين أن يبحثوا بشكل معمق في حجج مناهضي التصور العلماني، وأن يناقشوهما برفق وبأدب، وأن يردوا على الفكرة بما يدحضها، وربما من الأفضل لو تتم استعادة طريقة النقاش التي سادت خلال سجاليات الفكر النهضوي العربي حول الموضوع، ولاسيما تلك التي خاضها فرح أنطون وبطرس البستاني من جهة، ومحمد عبده والأفغاني ورشيد رضا من جهة ثانية، مع ضرورة الانطلاق من نقطة أساسية، وهي أن الدولة العلمانية والتي أفضل أن أسميها الدولة الحيادية، هي نتيجة وليست منطلقا، إذ لم يصادف التاريخ أن هيئة مدنية أو سياسية انبرت من أجل دولة علمانية كغاية في حد ذاتها، كما أن علمانية الدولة هي ممارسة عملية، وليست شعارا يتم تضمينه الوثائق الدستورية؛ لأن العلمانية تتضمّن: المساواة، حرية المعتقد، المواطنة المتكافئة، حقوق الإنسان، الحريات السياسية، التفاهم، التعددية. فالدول التي يعتقد الناس أنها علمانية لا تقول ذلك في دساتيرها (باستثناء عدد قليل جدا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة)، بل تمارس ذلك عمليا ولا تدخل في صراعات مع معتقدات الناس.

[1] - مجلة ذوات العدد49