فتحي المسكيني: الذّات والهويّة: نحو أخلاقيّة جديدة (الجزء الثاني)


فئة :  حوارات

فتحي المسكيني: الذّات والهويّة: نحو أخلاقيّة جديدة (الجزء الثاني)

د. نادر الحمامي: نرحّب من جديد بالأستاذ فتحي المسكيني في حوارنا معه، ونشكره مجدّدا على قبوله هذا الحوار، وكنا قد تحدثنا في الجزء الأول منه في مسائل متداخلة، انطلاقا من ملامح جبران خليل جبران التي توجد في خلفية كتاباته. ولكن حينما يتتبّع القارئ ما كتبه فتحي المسكيني، ويتابع مسيرته المعرفية والعلمية يلاحظ أن تلك الخلفية تجمع بين جبران ونيتشه (Friedrich Nietzsche) (1844-1900) في لقاء متزامن، وقد وصلنا في حوارنا إلى مسألة الذات والهوية، مما يحيل على ما ذهب إليه نيتشه من تحديد "ذات الشعب" لتعويضها بـ"هوية الشعب" أو الإطار الهووي المغلق الذي بدأت تلك القولة في الخروج منه. ومسألة الهويّة من المسائل المركزية في كتابات فتحي المسكيني، وهو يقاربها مقاربات جديرة بالاهتمام، لذلك نلاحظ هذا التفكيك الذي فيه دعوة واضحة في كثير من الأحيان ومغلّفة في أحيان أخرى، للخروج من المعنى الهووي المغلق إلى معنى آخر سيحدثنا عنه هو.

د. فتحي المسكيني: علينا أن نذكر أن نيتشه يقف في آخر سلسلة طويلة، وربما هو كان يعرف أنها بدأت من قبل السقراطيين، والذي يشتغل بالفلسفة يعرف أن مبدأ الهويّة كان قد ترسّخ بشكل مبكّر في التّفكير اليوناني، باعتباره قانوناً للتّفكير. والمشكل أنّنا نربط بسهولة غير مبرّرة بين الهوية والسؤال ''من؟''، فعندما نقول لك: ''من أنت؟'' يتبادر إلى ذهنك أنّك تُسأل عن هويتك، وهذا فخّ نحويّ أو بلاغيّ، والحال أن الهوية قد ترعرعت، باعتبارها مفهوماً فلسفيّاً في نطاق السؤال ''ما هو؟'' وليس في نطاق ''السؤال من؟''، وعندما نقول: ''ما هو الكتاب؟'' مثلاً، فنحن نزعم أننا نستطيع أن نجيب بقولنا: ''إنّه هو''؛ وذلك يعني أننّا ندرك الخصائص التي تجعل منه كتاباً وليس شيئا آخر. والذين يظنون أن الهويّة شيء ينبغي أن ندافع عنه هم مخطئون، فلا تحتاج أية هوية أن ندافع عنها، لأنّها ما به تكون ما أنت، فلا تستطيع أن تثبته، بينما تستطيع فقط أن تكونه، ولذلك فنحن عندما نريد أن نجيب عن سؤال ''من نحن؟''، فنقول مثلاً: ''نحن مسلمون'' فهذا يعني أنّنا مسلمون فقط، ولا يعني شيئا آخر، وعندما نقول إنّنا أمازيغ أو عرب أو غير ذلك، فنحن ننسب أنفسنا إلى ماهية ما. ولو سمّينا ذلك ''هويّة'' فنحن نخدع أنفسنا، فلا يمكن أن يكون السؤال ''من؟'' سؤال الهوية. ههنا لعب نيتشه دوراً حاسماً، فهو الذي أخرجنا من سلطة السؤال ''ما هو؟'' إلى قدرة ''السؤال من؟''، لأنّ ''السؤال من؟'' يريد أن يقتدر؛ أي أن يستعمل كل إمكانية الحياة التي بحوزته.

د. نادر الحمامي: هل القدرة هي الحدود الأخلاقية؟ وهل تجرّنا إلى المسألة الأخلاقية؟

د. فتحي المسكيني: طبعاً، فقد اختار نيتشه قطاع الأخلاق للتحقّق من هذه الأسئلة، وكتب في نطاق افتراضٍ، وهو أن شعباً ما عندما ينصّب لوحة الخير والشر فعندها يبدأ تاريخه الأخلاقي ويبدأ تاريخه بعامة؛ ولذلك فالشعوب لا تصبح واعية بهويتها أو بذاتها أو بوجودها التّاريخي عندما تبني معرفة بالطّبيعة أو تبني علماً فيزيائيا أو فلسفة، بل إنّها تصبح قادرة على الوعي بنفسها عندما ترسم لوحة عامة للخير والشر ولجملة القيم الأخلاقية، فانطلاقا من هذا الرسم يبدأ التاريخ الرّوحي أو حتى التّاريخ السّياسي أو التّاريخ التّاريخي لتلك الشعوب. وقد وجدت منذ وقت مبكّر، عندما أخذت أبحث عن مهجتي الفلسفية، أننا لا نستطيع أن ندخل مباشرة في تنافس إبستيمولوجي مع زملائنا الغربيين، لأنّهم يصنّفون أنفسهم بعد ثورات علميّة وقانونية لم تقع لدينا... لكني وجدت أن نيتشه يساعدنا على أن ندخل في النّقاش دون شروط كبيرة مسبقة، فهو عندما يتحدث عن مفهوم ''الشعب''، فإنّنا نجد أنفسنا في ذلك، فنحن شعب أو أنّنا نزعم ذلك أو يمكننا أن ندّعي ذلك من دون حرج فلسفي كبير. لذلك، فعندما نأخذ ''السؤال من؟'' مأخذ الجد، فهذا يعني أنّنا سوف نتحرّر من استعمال سيّء ومغلق ودغمائي لمبدأ الهويّة، وسوف نترك للناس إمكانية أن يختاروا أنفسهم وليس أن يرثوها.

د. نادر الحمامي: وهنا تتحدّد ملامح ما يسمّى ''الهوية المتحرّكة''.

د. فتحي المسكيني: نعم، يمكن لنا أن نقول نعوتاً جديدة مخفّفة حول الهويّة، لقد أصبح ممكنا، منذ إدوارد سعيد ومفكرين غربيين جماعويّين، الحديث عن ''هوية هجينة'' (hybride)؛ أي هوية مختلطة ومركّبة.

د. نادر الحمامي: نعم، هي تعني هوية مختلطة ومركبة، وهذا نجده عند أمين معلوف أيضاً.

د. فتحي المسكيني: هي الهوية المركّبة أو المتعدّدة أو المتنوّعة... وأتصوّر أن استعمال الهويّة لدينا أصبح يعاني من فائض بلاغي خطير، حبّذا لو كنّا نستطيع أن نوقف اللّغة ونترك الألفاظ والمصطلحات تنسحب قليلا حتى نستطيع أن نتساوى أخلاقيّا في ما بيننا، فلو ادّعيتَ مثلاً أنّك من يمثّل الإسلام، فماذا سأمثّل أنا؟ لذلك سيكون الحوار بيني وبينك باطلاً وسيتعطّل، ومن السّهل جدّا أن يتعطّل الحوار بين أناس هوويّين، لأن ليس هناك حوار في الحقيقة بين الهويّات، وإنّما هناك فقط حوار بين الذّوات، لذلك ينبغي أن نميّز بين الهويّة والذّات، وهذا التّمييز يمكن أن يساعدنا أيّما مساعدة، لأنّ الذّات لا هويّة لها بالضّرورة، فهي إمكانية الإنسان المتاحة في ثقافة ما.

د. نادر الحمامي: يعني هذا، في المستوى الاصطلاحي والفكري، أن نستعيض عن الحوار بين الهويّات، أو لنقل الصّراع بين الهويّات، بالحوار بين الذّوات. ولكن أليس هذا الحوار بين الذّوات هو الذي يحيل على البعد الفردي أكثر من البعد الجمعي أو الجماعاتي؟

د. فتحي المسكيني: طبعاً، فهناك رأي واسع النّطاق ومشهور، مفاده أنّ الثّقافة العربيّة الإسلامية الكلاسيكيّة خالية من مقولة الفرد، ولا مصلحة لنا في أن نواصل ذلك الرّأي. ولكن علينا أن نقبل بالنّتائج التي تدّعي أنّها موضوعيّة حول تراثنا، أو أن نقتبس علاقة تخصّنا مع هذا التّراث، ومن خلالها يمكن أن نطوّر مقولة الفرد، تلك المقولة التي أصبحت متّهمة؛ فالنزعة الفردانية المتملّكة تُتّهم اليوم بأنّها تقف وراء كوارث أخلاقيّة في المجتمع الغربي. ولكن نحن ليس لدينا الحق في أن ننقد الفردانية باسم أنّنا مسلمون، مثلاً، فنحن لم نشارك في هذا التّراث الفرداني حتى نتّهمه أو ننقده، وإنّما علينا أن نُسائل ''من؟'' التي تخصّنا، وينبغي أن نمارسها، ولكن ليس بشكل هووي، بل بالاستفادة من كل ما أصبح ممكناً بالنسبة إلى العقل البشري الآن من علوم وغير ذلك.

د. نادر الحمامي: ولكن "من؟" هذه تخصّنا إذا وضعنا أنها تخصنا مقابل الأوروبي أو الغربي بصورة عامة، فالإشكال يكون داخليا أيضاً، لأن هناك من يعتبر أنه هو الأقرب لهذه الـ "من؟" دون غيره.

د. فتحي المسكيني: نعم، المشكل مزدوج وهو أننا عندما نقول ''من؟'' فذلك سؤال كوني وليس سؤالا تراثيا...

د. نادر الحمامي: هل تكون مسألة الذات لدى نيتشه مدخلاً لنقد فكرة الكونية من أجل تكريس فكرة الإنسانية عوضاً عنها؟

د. فتحي المسكيني: نعم، يمكن ذلك، لكن نيتشه أيضاً ليس إنسانوياً، فمقولة ما فوق الإنسان هي ذلك الطّور من إنسانيّتنا الذي ينبغي أن نتطلّع إلى بلوغه وأن نعبر إليه، لأنّ الإنسان الأخير الذي صرنا نجسّده لم يعد مناسبا لكي نجدّد من خلاله مغامرة الكيان الإنساني. فالكيان الإنساني هو مغامرة تمر بأطوار من الإنسانيّة؛ وعندما نقول هذا الكلام فهو يعني ألاّ أحدا منّا سوف يدّعي أنّه "الإنسان"، فلا يحق لأحد مثلاً أن يقول إنّه يمثّل الإنسانية الغربيّة أو الأوروبية، كما فعل هوسرل (Edmund Husserl) (1859-1938) الذي يتحدّث عن ''الإنسانية الأوروبية''، وهذا خطأ فادح لأنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن إنسانيّة بتوقيع قومي، فالإنسانية هي الحل لكي تتخلّص الشّعوب من ربقة الحدود القوميّة.

د. نادر الحمامي: لأنّ مقولة الإنسانيّة، بدورها، كأنّها أصبحت هويّة مغلقة مقابل هويّات أخرى مغلقة أيضاً؟

د. فتحي المسكيني: نعم، وهذا خطأ وقع فيه الفكر الغربي قبلنا، ليس فقط بتحوّله إلى استعمار للشعوب الأخرى، بل لأنّه أصبح لا يستطيع أن يرى الشّعوب الأخرى أصلاً، فقد أصبحت بالنسبة إليه غير مرئية، فجأة أصبح الجزء الأكبر من الإنسانية غير مرئي، ولا يراه الغرب لأنّه بنى مرآة هووية كبيرة جدّا؛ رورتي (Richard Rorty) (1931-2007) يتكلم عن ''إنسان مرآوي'' في كتابه (Philosophy and the Mirror of Nature) ''الفلسفة ومرآة الطبيعة''، وهو كذلك لأنه بنى تلك المرآة الكبيرة، أو تصوّره أو تمثّله، حول نفسه واعتبره مقياس الانتماء إلى الإنسانيّة. المشكل الآن مع الفكر التّراثي أو السّلفي هو أنّه انتقائي بطريقة سيئة، فيمكنك أن تقول إن القرآن مثلاً حدث روحي رائع يخصّنا، مثلما أن التّوراة حدث رائع يخصّ العبرانيّين، وهكذا، ولكن لفظ ''يخصّنا'' هنا هو بمعنى جمالي نبيل، وليس بمعنى إيديولوجي فرداني؛ أي أنّك تتفرّد به دون غيرك من أعضاء الإنسانية، ما يجعلك تستعمله كأداة حتى لجلد أعضاء الجماعة الرّوحية التي تنتمي إليها حين يخالفونك.

د. نادر الحمامي: هدف الإسلاميين اليوم، من خلال خطاباتهم، هو احتكار فهم معين للتراث، أو تملّك الموروث.

د. فتحي المسكيني: هم لا يستطيعون ذلك، وإلاّ فسوف ينتهون إلى قتل بعضهم البعض. فالإسلاميون هم أجيال أوّلا على مستوى التاريخ، ثمّ إنّهم عائلات روحيّة وهووية مختلفة، ولو طبقنا المنطق الهووي نفسه، سوف يؤدي ذلك إلى التقاتل في ما بينهم قبل أن يتفرّغوا إلى المعارك القومية ضد إسرائيل أو المعارك الحضارية ضد الغرب، فقبل ذلك سوف يقتلون بعضهم البعض، لأن كل تنصيب للسّلوك الهووي يحوّل النّاس إلى حيوانات سياسيّة مرعبة.

د. نادر الحمامي: نعم، حيوانات سياسيّة مرعبة وقاتلة بمفهوم القتل، وحتى بمفهوم العبث أيضاً.

د. فتحي المسكيني: وهنا يختلط الاقتدار والعنف والإرهاب، ولو نظرت إلى مظاهرة في الشّارع سترى عنفاً، لأن شخصاً سيكسر ممتلكات عموميّة مثلاً، ولكنك أيضا سترى فتنةً لأن شخصاً آخر سيقول ذاك شيعي ينبغي أن نقتله، ثم سترى إرهاباً لأنّ شخصاً ما سيفجّر نفسه ضد أبرياء لا يعرفهم، لأنّه يريد أن يحقق فكرة أن هؤلاء الناس يتعاملون مع الأجنبي أو هم عملاء لاهوتيّون للغرب، إلى آخر ذلك...

د. نادر الحمامي: فهو قتل من أجل القتل

د. فتحي المسكيني: ونحن حتى لم نصل إلى تلك الجمالية ''القتل من أجل القتل''، المشكل أن الإنسان الذي يقتل لدينا هو إنسان يحمل توقيعاً، إمّا "ما قبل حديث" (prémoderne) وإمّا توقيعاً خرج من أفق الإنسانيّة؛ فعندما تقول مثلاً "أنا أحارب لأنّني سنّي ضد شيعيّ، فأنت تستند إلى مقولات انتماء (obsolète) مات أهلها ولم يعد لها أيّ معنى. فلا يمكن أن يوجد الآن سنّي أو شيعيّ بالمعنى التّاريخي، وإنما يوجد مواطنون في دول حديثة، ثمّة من يجد مصلحة في أن يجعلهم يتسمّون بهذه الأسماء التي لم يعد لها وجود تاريخي، لكن نحن الآن لسنا مسلمين بالمعنى الذي كان في القرن العاشر الميلادي مثلاً، أي بالمعنى التّاريخي. فالمسلم التاريخي قد انتهى، وإنّما الذي يوجد الآن هو مواطن دولة حديثة، يؤمن بعقيدة الإسلام. لذلك، فالخلط بين المؤمن والمواطن هو من أكبر المصائب التي يواجهها النقاش العمومي حول الدّولة. والسّؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: كيف يمكن أن نعيد تحرير مساحة الاستعمال العمومي للدّولة أو للحقيقة أو للمعرفة، من هذا الخلط؟ علينا أن نعترف إبستمولوجيّاً، بأنّنا نتكلم أكثر من لغة، فنحن نتكلّم لغة تراثية ولغة حديثة ولغة محلّية دارجة... ونحن نتشارك في هذا كلّه، وينبغي ألاّ يستعمله أحدنا ضد الآخر، كأن يقول "أنا أمازيغي ولست عربيّا"، ويقول غيره: "أنا عربي ولست أمازيغيّا"، لأن ذلك يحمل إرادة إساءة من نوع آخر.

د. نادر الحمامي: تحدّثتَ عن الدّولة والمواطنين، ولكن لو بقينا في المجال الخاص، ألا ترى أنّ للدّولة الأمّة مسؤولية كبرى في ما نشهده اليوم من أحداث، لأنّها تركت فراغاً حول مسألة الهويّة استغلّته حركات الإسلام السّياسي؟

د. فتحي المسكيني: حين ندرس تاريخ المفهوم الحديث للهوية دراسة جدية، سنجد أن الدّولة الأمّة هي التي اخترعت مفهوم الهويّة، فما نسميه بالأوراق الثّبوتية، أو أوراق الهوية، هو اختراع حديث، فلا توجد هويّة في ما قبل الحداثة، وهو اختراع قانوني رسّخت به الدّولة الأمّة اسماً جديداً لهذا الحيوان البشري الذي ورثته عن الملّة، وحوّلته إلى مواطن، فوحده المواطن يحمل أوراق هويّة، ومن لا يحمل أوراق هوية ليس مواطناً. لقد وجدت الدّولة الأمّة هذا الاختراع مناسباً تماماً لتحويل النّاس إلى أرقام وإلى فئات وإلى طبقات وإلى أدوار... ومن ثمّ تحويل كل فرد إلى شخص قانوني يمكن محاسبته، ليس قانونيّا فقط، بل أخلاقيّاً أيضاً.

لقد ظهر النّقاش الإسلاموي لدينا حول الهويّة، ولم يخترعه الإسلاميون، وإنّما اخترعه الفلاسفة الجماعويون في أمريكا، انطلاقاً مما ورثوه عن وضعية إبستمولوجية كوّنتها العلوم الاجتماعية؛ أي تقريبا ما بين 1930 و1960. وقد تبلور، منذ ذلك الزمن، مفهوم الهوية بالمعنى السوسيولوجي، وتأسّس عليه مفهوم الشّخصية. وقد تأسّس مفهوم الهوية في الكتابات السوسيولوجية الأمريكية على مفهوم (le soie/ self)، وترجم بعد ذلك إلى اللغة الألمانية بعبارة (Identität)، لكن نجد أن هابرماس مثلاً قد اعترض على ذلك، واعتبر أن (self) ليست (Identität)، وهذا يعني أننا عندما نقول ''ذات'' في لغة ما و''هوية'' في لغة أخرى، فإننا نكون قد أسأنا القصد؛ ذلك أن الأشخاص، من وجهة علم الاجتماع، يبلورون أنواعا معينة من العلاقة بأنفسهم تخلق مساحة للشخصية، وعندئذ يصبح لهم أدوار معينة يمكن لهم أن يلعبوها في مجتمعهم. وقد انتبه الجماعويون إلى أن الفلسفة الليبرالية قد أنتجت أفراداً عاجزين عن الانتماء إلى أنفسهم، فهؤلاء الأفراد متملكون منذ ج. لوك (John Locke) (1632-1704) وهوبز، ولذلك وقع الخلط بين الفردية والملكية، واعتُبر الفرد اجتماعيا واقتصاديّا معاً. وترتّب عن ذلك ترجمة الفرد على المستوى الأخلاقي إلى ''شخص'' وترجمته على المستوى القانوني إلى ''مواطن''، ولكن لم تقع ترجمته إلى ''إنسان''، لذلك فعندما ظهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم يجد تسمية واضحة للفرد، لأن أدواره كلها تمّ ملأها بوجوه ذاتية جديدة لم يعرفها التصنيف القديم، فأصبح شخصا أخلاقيا واقتصاديا واجتماعيا إلى جانب كونه ذاتا فلسفية وميتافيزيقية وخلقية وجمالية... المهم هو أننا عندما نقول إن الدولة قد تركت مجال الهوية فارغا، فهذا ليس صحيحاً، لأنّ الدولة الأمة هي التي اخترعت مفهوم الهوية، وقد ظهر القول بفراغ الهويّة عندما ضعف مفهوم الدّولة الأمة بداية من تسعينات القرن الماضي، وذهب أصحابه إلى التشكيك في مبدأ السّيادة من أجل تبرير التّدخل الخارجي في المساحة الوطنيّة على أساس أنّها ليست وطنيّة، وإنّما هي إنسانية وتابعة للقانون الدّولي. وقد سبق ظهورُ خطاب حقوق الإنسان هذا الكلام المخاتل منذ فترة الثّمانينيات، ونتساءل ههنا لماذا لم يظهر خطاب حقوق الإنسان في الأربعينيات مثلاً؟ مع أنّه قد ظهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلاّ أنّه لم يكن ناجما عن نقاش، ولم يولد نقاشا طيلة ثلاثة عقود تلته؛ أي أنّه ظهر في وقت كانت فيه الوجودية هي فلسفة ذلك العصر، فلا علاقة بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخطاب حقوق الإنسان الذي تأخّر عنه، ولذلك ظهرت الحاجة إلى استدعاء فلاسفة قدماء لتأسيس ذلك الخطاب وتم الرّجوع إلى الكتب الدّينية وفلسفة ج. لوك وكانط (Emmanuel Kant) (1724-1804)، إلى جانب محاولات تنشيط مصادر لم تعد عاملة على مستوى تصوّر الإنسان المعاصر لنفسه. فالإنسان الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كان إنساناً محطماً، ولم يكن إنسانا قانونيّاً، بل كان كائناً وجوديّاً. لذلك فالسبب الذي يقف وراء استدعاء حقوق الإنسان من جديد في الثّمانينيات، إنّما هو ظهور السّياق المناسب لتسويق تلك المبادئ، من أجل أن تستقيد الخطابات المسيطرة...

د. نادر الحمامي: ولكن خطابات حقوق الإنسان اليوم بدأت تُستأنف مرة أخرى، حتى وإن كان ذلك بشكل آخر.

د. فتحي المسكيني: نعم، فطالما أن ذلك الخطاب لا زال يدرّ "لبناً أيديولوجيّاً أو أخلاقيّاً أو معياريّاً" فسوف يتواصل الالتجاء إليه. فثمّة موضوعات تعود دائما، من ذلك مثلاً، عودة مفهوم الإنسان في مراحل مختلفة من تاريخ الإنسان، وعودة مفهوم الهوية أيضا في إطار الدّولة الوطنيّة. وأصبحت الهويّة تعني (la conscience nationale)، ويعبّر عنها من خلال الأوراق الثبوتية التي ليس سوى مجرد وثيقة. ومع النقاش الجماعوي حول الهويّة أصبح المشكل متعلّقا بالهوية الثّقافية فقط، وقد تمّ الانتقال بذلك إلى مستوى مختلف من النّقاش حول الهويّة، وفي هذا الإطار ظهر الإسلاميّون واستفادوا من السّياق الإبستمولوجي والنقاش حول الهويّة وكتابات مفكّرين مثل ساندل (Michael Sandel) (1953) في أمريكا، وتشارلز تايلور (Charles Taylor) (1931) وحتى بول ريكور (Paul Ricœur) (1913-2005) في كتابه الأخير حول ''الهويّة السّردية'' وصولاً إلى إدوارد سعيد وغيره، وقد تمّت الاستفادة من هؤلاء بشكل غير مباشر؛ أي أن ذلك تم بنوع من الانتهازية النّظرية، فنقاش الإسلاميين حول الهويّة كلّه انتهازية نظريّة لوضعيّة لا تؤمن بهم، هي الجماعويّة. ولذلك ثمة خلط لديهم بين الجماعوية الأمريكيّة واللّيبرالية من خلال النّقاش الذي دار بين ساندل وج. رولز (John Rawls) (1921-2002)، أي بين ليبرالي وجماعوي. لكنّنا لا نجد مقابلا مناسبا لذلك النقاش لدينا، وإنّما نجد نقاشاً بين علماني وإسلامي، حيث يظن العلماني نفسه ليبراليّاً وفي الحقيقة هو ينتمي إلى طور، فقط، من أطوار الفلسفة الليبرالية، وغالباً ما لا يعرفه. في حين أن الإسلاموي يظن أنّه جماعوي من حيث هو مؤمن قبل كلّ شيء، ولكن الجماعوي الأمريكي يقدّم نفسه، باعتبار أنّه مواطن قبل كل شيء، ولديه هويّة ثقافيّة، ولا يعني ذلك أنّه مُؤمن.

د. نادر الحمامي: لذلك فحتى النقاشات داخل دائرة الإيمان في العالم الغربي قد تتخلى أحيانا عمّا يعتبر إيماناً في مجال النقاش العام، فنجد نوعا من المناظرات التي يقودها رجل دين ولكنّه لا يستعمل مطلقاً في حجاجه لا المصطلحات ولا المصادر الدّينية.

د. فتحي المسكيني: هذا المشكل أشار إليه آخر فيلسوف كبير في الغرب، وهو هابرماس (Jürgen Habermas) (1929) في كتابه ''بين النزعة الطبيعية والدين''.

د. نادر الحمامي: وكان ذلك نتيجة حواره مع راتزينغر.

د. فتحي المسكيني: هو نتيجة لأمور عدّة، فهناك نمو داخلي في أعمال هابرماس، منذ كتابه الذي فرغت من ترجمته، وهو ''نظرية الفعل التواصلي'' نجد نقاشا كبيرا مع مشكلة المقدّس ومع الصّور الدينية التي سماها "الصور الميتافيزيقية الدينية للعالم"، إذن فهذا نقاش مترسخ لديه، وقد كان يظن أن الدين خرج من النقاش نتيجة خلفيته اليسارية والماركسية، ولكن بعد 11 أيلول أتى هابرماس أخيرا إلى مواجهة المشكل، وانتبه إلى ضرورة إعادة النقاش الذي يحمل عنوانا عائدا في الفلسفة الغربية هو (foie et savoir) ''الإيمان والمعرفة''، وهذا ما نجده لدى كانط ولدى هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) (1770-1831)، ولدى شيلنغ (Friedrich Wilhelm Joseph von Schelling) (1775-1854)، ولدى فيخته (Johann Gottlieb Fichte) (1762-1814)، ونلاحظ أن العنوان نفسه يعود لدى هؤلاء جميعاً، ولكن بطرح آخر. أمّا هابرماس، فهو يعتبر أننا دخلنا في طور نقاش عمومي بين المواطن المؤمن والمواطن غير المؤمن وليس بين المؤمن والمواطن، كما هو لدينا في العالم العربي حيث يتناقش إسلاميون وعلمانيون، فيغدو النقاش بين مؤمنين وكفار بالنسبة إلى النّظرة العامّة، في حين أنّه يتم بين المواطن المؤمن والمواطن المحايد دينيّا أو غير المؤمن، إذا أراد أن يؤشّر على ذلك ولكنّه يبقى مواطناً. ولأنّ النقاش يكون بين مواطنيْن، فهابرماس يقترح أن نطبّق "براديغم التّرجمة" وهو يعني أنّ المواطن المؤمن لا يستطيع أن يتحاور مع المواطن غير المؤمن إلاّ إذا نجح تداوليّاً في أن يترجم المضامين الدّلالية لعبارات أو مواقف دينيّة إلى معنى مشترك، كأن يحوّل مثلا مقولة إيمانيّة إلى عبارة دستوريّة وقانونيّة وأخلاقيّة بالمعنى الحديث المحايد دينيّاً حتى يستطيع أن يقنع بها الطرف الآخر، الذي هو مطالب أيضاً بأن يترجم المضامين العلمانيّة الحديثة إلى معجم دينيّ، حتى يستطيع المواطن المؤمن أن يفهمها، وأن يتحاور معه في إطار المجتمع المدني، ومن ثمّ ينجح في إقامة تواصل أو علاقة تواصليّة، أي تلك العلاقة القائمة على نوع من الفعل الذي يسمّيه هابرماس ''الفعل الموجه نحو التّفاهم''؛ أي أنّ كل ما أفعله معك هنا هو موجه نحو إقامة تواصل، أي إنجاز فعل موجّه نحو التّفاهم، وإذا لم يكن هذا هو قصدي، فسأكون في نظر هابرماس، أقوم بفعل استراتيجي بناءً على أشياء أخرى؛ منها مثلاً النّجاعة في أن أسيطر على إمكانيّة الحقيقة دونك وأقصيك منها.

د. نادر الحمامي: كأنّنا نعود بهذا إلى نيتشه الذي انطلقنا منه، ورأينا كيف يفضي النقد الذي قدّمه إلى أفق أخلاقي جديد، ثم انتهينا إلى مسألة التّفاهم لدى هابرماس، وهو ما يحيل بشكل أو بآخر إلى مفهوم يحتاج إلى كثير من التّقليب، وقد كتبت فيه أنت في ''الهجرة إلى الإنسانية''، وهو مفهوم التّعايش الذي لم نحسن إدارته أو تفهّمه لأنّنا، كما تقول، ''بقينا في طور الشعوب، ولم نتحوّل إلى طور المجتمعات''، ما جعلنا نظلّ في إطار براديغمات قديمة شيئا ما، وفي أفق أخلاقي لم يسمح لنا بتحقيق مسألة التّفاهم التي دعا إليها هابرماس. هذه النّقاط، وغيرها، هي ما ستكون مدار حديثنا في الجزء الثالث من حوارنا معك أستاذ فتحي المسكيني، مشكوراً.