الدولة والعنف*


فئة :  ترجمات

الدولة والعنف*

الدولة والعنف*

ملخص:

كيف يتعين فهم الدولة، بوصفها أساس الوجود السياسي للإنسان، كتركيب بين المشروعية والعنف؛ أي بين سلطة أخلاقية للإلزام وسلطة مادية للإكراه؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يتوخّى هذا النص مقاربته؛ وذلك عبر لحظتين: لحظة أولى يبرز من خلالها الفيلسوف التنافر القائم، من زاوية نظر مسيحية، بين إتيقا الحب وإتيقا القاضي، تنافر أو شرخ بين حب القريب الذي يرد الخير مقابلا للشر، وبين عقوبة تكافئ الشر بالشر. وهذا الشرخ يمكن تجاوزه والحفاظ على وحدة الإتيقا لو كانت الدولة قادرة بالفعل على إبقاء عنفها العقابي في حدود إتيقا الوسائل؛ أي فيما دون القتل أو الإعدام. ولحظة ثانية يكشف عبرها أن الدولة هي هذا الواقع، ليس المحافظ عليه فحسب، بل أيضا المؤسَّس بواسطة العنف، الذي يتجسد، في صورته القصوى، في الحرب. ومن خلال النداء الذي توجهه الدولة لمواطنيها للانخراط في هذه الأخيرة، فإنها تضعهم أمام ضربين من إتيقا الضياع: إتيقا ترضى باقتراف القتل ضمانا لبقاء الدولة واستمراريتها، وتهييئا لشروط وجود هيئة قضائية، وإتيقا تُوقِع في الخيانة. والخلاصة هي أن هذه الوضعية القصوى، إنما تؤكد أن الحب والإكراه سيظلان، إلى نهاية التاريخ، بيداغوجيتي النوع البشري اللتين تسمان وجود الدولة، ومن خلالها الوجود السياسي للإنسان***.

النص المترجم:

هدف هذه المحاضرة**** ليس البتة الإدلاء بشيء ما شبيه بقرار سياسي، وأيضا سأكون قليل التبصر والتهذيب محاولة القيام بذلك هنا، على أرض أجنبية.

والسؤال المسبق لكل سياسة خاصة، والذي أود بالأحرى توجيهه إليكم: ما دلالة الواقعة الجلية بالنسبة إلى كل من يمعن النظر في التاريخ والحياة اليومية، هذه الواقعة المتمثلة في أن الإنسان كائن سياسي؟ وهذا السؤال العريض، الذي يمس إشكالات الحق، والسوسيولوجيا، والتاريخ، أود تناوله من جانبه الأكثر تثبيطا: مع الدولة يظهر عنف معين، له خصائص المشروعية. فما الذي تعنيه، ليس بالنسبة إلى حياة الإنسان فحسب، بل أيضا بالنسبة إلى تفكيرنا الأخلاقي، وبالنسبة إلى تأملنا الفلسفي والديني، هذه الواقعة الغريبة: الوجود السياسي للإنسان مُحافَظ عليه ومُوجَّه بواسطة عنف، وهو عنف الدولة الذي يحمل سمات العنف المشروع؟

لِنَتَثَبَّتْ بدايةً من نقطة انطلاقنا: أيُّ حد أدنى من العنف تقوم الدولة بمأسسته؟ إن عنف الدولة، في صورته الأكثر أولية، وغير القابلة للاختزال في الوقت نفسه، هو العنف ذو الطابع العقابي أو الجنائي. فالدولة تعاقب، وفي نهاية التحليل، هي التي تحتكر الإكراه الفيزيائي أو المادي. لقد سَحبتْ من الأفراد حق الحصول على العدالة بأنفسهم، واستجمعت في ذاتها كل العنف المتشظي، الموروث عن العنف البدائي بين الإنسان والإنسان. فإزاء كل عنف يمكن للفرد اللجوء إلى الدولة، لكن الدولة هي الهيئة النهائية؛ أي الهيئة التي لا تحتمل أي نقض. ومن خلال مقاربة عنف الدولة في جانبه الجنائي، نكون قد توجهنا رأسا إلى الإشكال المركزي، لأن الوظائف المتعددة للدولة؛ أي قدرتها على التشريع، أو على اتخاذ القرار والإنفاذ، أو وظيفتها الإدارية، أو وظيفتها الاقتصادية، أو وظيفتها التربوية؛ كل هذه الوظائف إنما تُسْنَد في المقام الأخير بواسطة سلطة الإكراه. والقول إن الدولة سلطة***** pouvoir وإن لها سلطة الإكراه يعني الشيء الواحد نفسه.

أنا لا أتحدث إذن عن دولة مؤذية méchante؛ أي عن دولة شمولية totalitaire، بل عن الدولة، وعما يجعل من الدولةِ دولةً، عبر أنظمة وأشكال مختلفة، وحتى متعارضة. وكل ما تضيفه الدولة من عنف غير مشروع لا يقوم بغير الزيادة في حدة الإشكال. ويكفينا أن الدولة المشهود لها بأنها الأكثر عدلا، والأكثر ديمقراطية، والأكثر ليبرالية، تبدو كتركيب بين المشروعية والعنف؛ أي بين سلطة أخلاقية للإلزام وسلطة مادية للإكراه.

أولا

لماذا تطرح هذه الوحدة بين الحق والقوة في الدولة إشكالا؟ إن هذه الوحدة من شأنها ألا تثير إشكالا لو كانت الحياة في الدولة تستطيع التعبير كلية عن كل مقتضى الوعي الأخلاقي وتحقيقه جملة واستنفاده جذريا، وسنكون راضين إذا كان بوسع السياسة أن تكون في نظرنا اكتمالا للأخلاق. لكن، هل يمكن للحياة في الدولة إرواء كل التعطش للكمال؟ يمكن الاعتقاد بذلك، لو سِرْنا على هدى إشارات معينة في الفكر السياسي للإغريق، عندما جعلوا من "المدينة- الدولة" «cité» ومن كمالها واكتفائها هدفا لسلوك الأفراد. ويبدو، آنئذ، أن كل الأخلاق ستُختصر في تحقيق مجتمع تاريخي مزدهر وقوي وحر حريةً جماعيةً، لكن الفلاسفة أنفسهم الذين جعلوا من "المدينة- الدولة" قمة الحياة الأخلاقية، أعرضوا عن توحيد المثال "التأملي" للحكيم والمثال "العملي" لزعيم الدولة، أو الرجل السياسي، أو مدبر منزل، أو مدبر قطاع ما. فأخلاقهم تنكسر، على هذا النحو، إلى اثنين، وستظل صعوبة إقامة تمفصل بين نموذجي الكمال والسعادة، بين النموذج الفلسفي والنموذج السياسي، غير قابلة للحل؛ كما نلحظ ذلك لدى أفلاطون وأرسطو، ولدى الرواقيين.

وسيُعترض بأن مثال "التأمل" ليس مثالنا، وأن المسيحية هي أول من أنهى التمييز بين التأمل والفعل، من خلال اقتراح المثال "العملي" لحب القريب، ومن خلال توحيد كل الأخلاق تحت راية "العملي".

لكن المسيحية ستقع في التناقض نفسه، بل إنها زادت من حدة هذا التناقض، الذي لم يستطع الإغريقُ، الحيوانات السياسية بامتياز، تجاوزَه؛ لأن المسيحية جاءت بشرط أضفى طابعا جذريا على الأخلاق، وحوَّل الإشكال السياسي إلى لغز énigme. وهذا الشرط الجذري يعلمه الجميع، هو تأويل حب القريب من طرف المسيح في العظة على الجبل Sermon sur la montagne. فهذه العظة، على ما هي عليه، تقترح صورة تضحياتية sacrificielle كليةً من الحب: "لا تقاوموا الشرير"؛ "صَلّوا من أجل الذين يضطهدونكم"؛ إلخ.

إن أمرا كهذا، يُحدث قطيعة أكثر جذرية من التعارض بين النظر والفعل. فـ"العملي" نفسه جرى تقسيمُه؛ لأن الشأن السياسي، بما هو كذلك، لا يمكن أن يُفكَّر فيه في إطار إتيقا اللا-مقاومة والتضحية هذه.

ولدينا شهادة في الفصل الثالث عشر الشهير من "الرسالة إلى أهل روما" l’Épître aux Romains، حيث يتوجه القديس بول إلى مسيحيي العاصمة، الواقعين بلا شك تحت غواية نزعة فوضوية ذات باعث ديني، ناصحا إياهم بالخضوع للسلطات القائمة autorités بباعث من الضمير وليس فقط تحت الإكراه، بيد أن هذا النص من شأنه أن يكون أكثر أهمية كتحقق للوعي أكثر مما هو حل للتناقض، حتى وإن كان، من هذه الزاوية، دوغماطيقيا أكثر مما يقال عنه في العادة.

إن القديس بول كان تماما على وعي بأنه قام، من خلال استحضار صورة "القاضي" « magistrat » ومعها السلطة القائمة autorité والعقوبة والطاعة والخوف، قام بالكشف عن بُعْدٍ من الحياة ليس متضمنا في العلاقات المباشرة بين الإنسان والإنسان والقابلة لأن تُجسد بواسطة الحب الأخوي، الذي تحدث عنه في السابق. ومن المهم جدا، كما أشار إلى ذلك أوسكار كولمان Oscar Cullmann، أن النصائح السياسية للقديس بول تتجذر في سياق، حيث الأمر يتعلق بالأساس بـ "الحب" الواجب على كل الناس إزاء بعضهم البعض. فهذا الحب وُصف، على طريقة "العظة على الجبل"، كحب يغفر، ولا يقاوم الشرير، ويرُدُّ الخير مقابل الشر؛ وأخيرا يستعيد أو حتى يؤسس من جديد لتبادلية كاملة بين الأشخاص، "تَحابّوا بصورة متبادلة بعاطفة رقيقة وأخوية" على حد تعبير القديس.

وفجأة يقوم بول، قاطعا حبل هذا النداء للحب المتبادل، برسم صورة "القاضي"، لكن ما الذي يقوم به القاضي؟ إنه يعاقب. يعاقب القاضي ذلك الذي يرتكب الشر، هذا هو إذن العنف الذي أثرناه منذ البداية؛ فالقديس بول يختزل كل وظائف الدولة، بصورة بالغة الدقة، في الهيئة الجنائية أو العقابية. ومن الأكيد أن الأمر يتعلق بعنف محدود؛ أي عنف لا يضفي المشروعية على أي جريمة. وكما سنرى لاحقا، عنف لا يبرر ولا يؤسس، بأي وجه من الوجوه، حرب الدولة ضد الدولة، وعنف محسوب كلية بواسطة تأسيس الدولة ذاتها، وعنف قائم ومؤسَّس على العدالة، التي يطلق عليها القديس بول تسمية "الخير". كل هذا صحيح، ويجب التذكير به ضد أولئك الذين يرون في هذا النص الخنوعَ المذلَّ للمسيحي أمام كل سلطة قائمة. فهذه الأخيرة هي سلطة "القاضي"؛ أي سلطة العدالة. والنظام الذي تخلقه هذه السلطة وتحافظ عليه لا يمكن أبدا أن يكون منفصلا عن العدالة، وأقل من ذلك أن يكون متعارضا معها، لكن هذا العنف المُمَأسس، على وجه التحديد؛ أي عنف العدالة هذا هو الذي يطرح إشكالا.

إن "السلطة القائمة" لا يبدو أنها قادرة على الاتكال على "الحب". والعدالة، في صورتها الأكثر اعتدالا والأكثر مشروعية هي، مسبقا، كيفية لمجازاة الشر بالشر. فالعقوبة في ماهيتها تستنفد كل القطيعة الأولى في إتيقا الحب. إنها تتجاهل الصفح، وتقاوم الشرير، وتؤسس علاقة غير تبادلية. وبإيجاز، فالطريق المختصرة، و"الطابع المباشر" للحب، تقابله بالطريق الطويلة، التي تكمن في "تَوَسُّط" تربيةٍ إكراهية للنوع البشري؛ فالقاضي ليس "أخا" لي، وبهذا ذاته يعد "سلطة قائمة" بالفعل، وبهذا نفسه أيضا يحظى بـ "الخضوع"، وهو ما لا يعني أن المسيحي يتحمل أي شيء. لكن علاقة الدولة بالمواطن هي علاقة غير متكافئة وغير تبادلية؛ أي علاقة سلطة قائمة بخضوع، بما في ذلك الحالة حيث هذه السلطة منبثقة عن انتخابات حرة، وحينما تكون ديمقراطية كلية ومشروعة تماما؛ وهو ما من الممكن أنه لا يحدث أبدا. فالسلطة القائمة، بمجرد تأسيسها، فإنها تخصني كهيئة تحتكر العقاب. وهذا يكفي لئلا تكون علاقتي بالدولة علاقة أخوة وتقتضي مني الخضوع.

وسأقول إن تحقيق الوعي بالمفارقة أكثر أهمية من حلها لدى القديس بول. ويجب الإقرار بالفعل أن هذا الأخير أورثنا إشكالا من دون حل. إنه يكتفي بالقول إن السلطة القائمة "مؤسَّسة من الله"، والأمر على هذه الصورة "من أجل خيري الخاص". فهذا كاف من أجل أن يكون المسيحي خاضعا بباعث من الضمير، وليس فقط بباعث غريب عن الحياة المسيحية. لكن علاقة هذه "المؤسسة" باقتصاد الخلاص هي فقط مُعْلَن عنها، وتظل بالنسبة إلينا مصدرا لارتباك كبير؛ لأن هذه البيداغوجيا العنيفة، التي تحرك التاريخ عبر تعاقب الدول، تُدخِل نوتةً note متنافرة في بيداغوجيا الحب والشهادة والاستشهاد. وإذا كان القديس بول لم يحاول استنباط السلطة السياسية القائمة من إتيقا الحب، فإنه يجد هذه الدولة ضمن قائمة ما هو إنساني لديه، ويستند عليها في مطالبته بصفته كمواطن روماني، ويعرف أن طمأنينة النظام تمثل شرط الموعظة المسيحية. إنه يلمح إذن التباين بين بيداغوجيتي النوع البشري، بيداغوجيا الحب وبيداغوجيا العدالة، بيداغوجيا عدم المقاومة وبيداغوجيا العقاب، بيداغوجيا التبادلية وبيداغوجيا السلطة القائمة والخضوع. فالقديس بول يلمح تباينهما، لكنه لا يرى وحدتهما. فمن جهة، يدرك تضاربهما: وهذا ما يشير إليه في الإثبات المحض والبسيط بأن السلطة القائمة مؤسسة من طرف الله، لكنه لا يرى وحدتهما: ولهذا بالضبط يستخدم كلمةً معينة، أي كلمة المؤسسة، التي ليس لها جذر في موعظة الصليب وفي تقليد يسوع المسيح.

أُدْرِكُ أنه جرى البحث عن رابط نسقي بين الصليب و"المؤسسة"، بين الحب والسلطة القائمة، بل لقد تم إيجاد رابطين اثنين؛ فقد أُثيرَ، أول الأمر، "غضبُ الله"، الذي أدرجَ بالفعل في سياق الدولة (Romains 12). فهذه التيمة لا تبدو من دون صلة مع موضوع الدولة، مادام أن غضب الله هو الله من حيث كونه يُعاقِب. وأكثر من ذلك، فقد أُثيرَ غضب الله من أجل رفض أن يكون للأشخاص الخواص حق الانتقام بأنفسهم. كما تم التذكير بأن القصاص من اختصاص الله. ومن المعقول إذن تقريب مؤسسة العقاب من هذا الانتقام الذي يحتفظ به الله لنفسه. ومن الجلي أن هذا التقريب بين مؤسسة الدولة وغضب الله ليس تفسيرا بقدر ما هو تكريس للغز. فمن الذي لا يرى أن ثنائية الحب والإكراه إنما صارت أكثر جذرية، لأنها أُرْجِعَت إلى الله؟ وأكثر من ذلك، إذا كان الغضب يغْني عن الصليب، فإنه يتعين الإقرار بأن تاريخ الدولة ليس تاريخا مفتدًى من لدن الصليب، بل إنه تاريخ غير قابل للاختزال إلى تاريخ الخلاص؛ فهو تاريخ يحافظ على النوع البشري دون أن يضمن خلاصه، ويربيه دون أن يصلحه، ويقومه دون أن يطهره.

إن البيداغوجيا المزدوجة للنوع البشري تسنُدُها، بهذه الصورة، ثنائية الغضب والصليب في الله نفسه. وبالرغم من ذلك، فهذا النظر في غضب الله لم يكن بدون جدوى، بل إنه كان دالا جدا، لكن ذلك بقدر ما لا نبحث فيه عن تفسير "خيالي"، بل عن "وصف" غير مباشر للغز الدولة وبيداغوجيتها العنيفة. فتاريخ الدولة، الموسوم بعنف هيئاتها القضائية المتعاقبة، يبدو، آنئذ، بمثابة حركة الإنسانية ذاتها نحو حكم إدانة، لم ُيعتمد كلية ولم يُستَعَدْ في حكم التبرير الذي يكثفه صليب المسيح. ومن الممكن أن لغز الدولة يكمن بالفعل في الحد من الشر دون علاجه، وفي الحفاظ على النوع البشري دون تحقيق خلاصه؛ فتأسيس هذه الدولة لا يصير إلا أكثر إلغازا.

لقد استُعين أيضا، من أجل تفسير لغز الدولة، بعلم الشياطين البولونية démonologie paulinienne؛ فمن شأن كل دولة أن تكون، بالنسبة إلى القديس بول، تجليا لـ "قوة" تهيمن على تاريخ هذه الدولة. وهذه القوى قد تكون ما يخطر على بال القديس بول عندما يقول: "عليكم بالخضوع للسلطات القائمة"[1]. فالقوى والعروش وأشكال الهيمنة، قد تكون بمثابة جبروت فوق إنساني، تراجيديتُه اللامرئية تحرك بصورة خفية التراجيديا المرئية للسلطة القائمة. ولا يجب التخلص سريعا جدا من هذه القراءة القائمة على علم الشياطين؛ إذ من شأنها أن تكون كساء لحدس بالغ الأهمية: "القوى" التي يقبل القديس بول، ومعه اليهودية الشعبية، وجودها، لها، في علاقتها بالصليب، الوضع المبهم المتمثل في كونها هُزمت مسبقا وصُلبت، لكنها لم يُقْضَ عليها نهائيا بعد. لقد أدرك القديس بول، من خلال الأسطورة الشيطانية، الطابع الغامض للدولة: فهي تنتمي إلى اقتصاد الخلاص دون أن تشكل جزءا منه، خاضعة لكنها مستقلة؛ إنها مخترقة بما يسميه أوسكار كولمان بـ "التوتر الزمني" المعبر عنه بكلمات "مسبقا" لكن "ليس بعد": لقد هُزمت "مسبقا"، لكن لم يُقْضَ عليها نهائيا بعد. بيد أن القديس بول، من خلال الإعلان بكيفية أسطورية عن الطابع الواقعي والمؤقت للدولة في الوقت عينه، ومن خلال سنده بتراجيديا شيطانية تتجاوزنا، فإنه كشف مرة أخرى، عن طابعها الملغز، أكثر مما قام بتفسير هذا الطابع، بل إن هذا الإعراض للتأويل الشيطاني للقديس بول عن الإتيان بـ"تفسير"، من شأنه أن يتيح لنا أن نستخلص منه كل المغزى الذي هو غَنِيّ به.

يتعين أيضا الإقرار بأنه لا يتبقى لنا شيء من الديكور الشيطاني للسياسة البولونية (على فرض أن القديس بول كان مهتما حقا بوضع السياسة، وأن بضعة أسطر من رسائله من شأنها أن تكون بمثابة سياسة)، وليس كافيا اللجوء إلى استعادة تأويلية لمعتقدات القديس بول بشأن الشياطين ليتحقق الإخلاص لرسالته: لأن هذه الاستعادة الحرفية بمجرد القيام بها، تستدعي التساؤل عن معنى هذه المعتقدات. فالتكرار ليس كافيا، بل يتعين الفهم، لكن ما الذي نريد قوله عندما نضع قوى شيطانية "وراء" الدولة؟ وهل للتاريخ قاعدة مزدوجة غير إنسانية أو فوق إنسانية، إضافة إلى المطلق الذي هو الله؟ والحقيقة أن استحضار التجربة الشيطانية صار مستحيلا؛ لأن السياق الثقافي الذي يجعلها قابلة للفهم بالنسبة إلى المحدثين لم يعد سياقنا نحن. ولا يمكن استحضار صورة أسطورية دون استحضار المجموع الحامل لها. ولذلك، فهذا اللجوء إلى القوى غير المرئية هو، بالنسبة إلينا، الجزء غير المتعقل من تفسير صار ميتا في الوقت الراهن. لكن فيما يتعدى قيمته التفسيرية، نلفي قيمته المشفرة. فما يهم في هذا التصور المتعلق بـ "القوى السماوية"، يكمن في الكشف عن الطابع المبهم للدولة، وعن "توترها الزمني" كما قلنا ذلك أعلاه مع أوسكار كولمان. فعبر اللغة الشيطانية، يمر شيء ما، كان من الممكن ألا نلاحظه بدونها. فقد صارت "المؤسسة" مركزا لجدل داخلي: النظام ليس شيئا هادئا وكله سكون. فالنظام يهتز. إنه بمثابة "قوة"، والبعد الأسطوري للقوة يجعل البعد العقلي للنظام مدعاة للقلق[2]. والدولة تبدو، عبر التفسير المزعوم بواسطة الشياطين، كواقع يعوزه الاستقرار وخطير. فالأمر لا يتعلق بواقع قائم فحسب، بل بواقع مستبعد ومستعاد، متجاوز ومحتفظ به في الوقت نفسه. وهذا ما يكشف عنه علم الشياطين أسطوريا، مع الإيحاء بتفسيره. يتعين إذن، الاحتفاظ بروح الأسطورة؛ أي بقصدها الوصفي، مقابل التخلي عن نصها الحرفي، أي عن طابعها التفسيري.

ثانيا

لنقم بعملية تركيب لأفكارنا: لقد أظهرت المسيحية، بكيفية مغايرة للحكمة الإغريقية، بعدا للحياة الأخلاقية يفجر الإطار السياسي للحياة الإنسانية. وهذا البعد الجديد هو الحب l’agapé؛ أي الحب الأخوي الصرف، ورسالته في عدم المقاومة، والتضحية، والاستشهاد. والصدمة المقابلة لهذه الإتيقا الجديدة على الواقع السياسي، هي إظهار الدولة كهيئة عاجزة عن بلوغ مستوى هذه الإتيقا الجديدة. ومع ذلك، فهذه الهيئة ليست سيئة في ذاتها. لقد صُودق عليها، لكن في موضعها، كما مُسَّت بمؤشر من مؤشرات الهشاشة: الدولة لم تعد جوهر التاريخ العقلي، فبيداغوجيتها القائمة على الإكراه، تحافظ على النوع البشري، لكنها لا تضمن خلاصه. إن ثنائية الحب المسيحي والعنف العقابي للقاضي هذه، تعلن عن صراعات كبرى، يتعين علينا الآن النظر فيها. فقد نهضنا بالمهمة اليسيرة عبر البقاء في حدود إشكال القديس بول، الذي هو إشكال مواطن سلبي في دولة منظمة وعادلة نسبيا. فمواطنو روما، الذين كان الرسول يخاطبهم، كانوا أناسا بسطاء و"رعايا" القيصر. فوضعهم كمواطنين خاضعين هو الذي يمده ببارقة أمل، من خلال الكشف لهم عن قصد إلهي معين كمصدر للسلطة "المنصبة عليهم". وآنئذ يمكنهم الخضوع بباعث الضمير وليس خوفا فحسب. والعنف المحدود، الملازم جوهريا للدولة، يبدأ في إثارة إشكال، بمجرد أن يتعلق الأمر ليس فقط بالخضوع له، بل بممارسته (والحق أن الخضوع داخليا بباعث من الضمير، هو بمثابة تصديق مسبق على هذا العنف وممارسته رمزيا عبر التماهي مع الجهة التي تصدر الأمر وتمارس الإكراه). فآنئذ، الرجل نفسه المدعو للحب الأخوي هو الذي يرد الشر مقابلا للخير، والمنادى عليه للمشاركة في هيئة القضاء التي تعاقب الأشرار. فالمواطن النشيط، الذي يأخذ نصيبه من السيادة، هو نفسه قاض. فكيف سيعيش تحت نظامين روحيين، نظام الحب ونظام العنف المُمَأسَس، وتحت بيداغوجيتين: بيداغوجيا التضحية وبيداغوجيا الإكراه؟

والصعوبة تزداد حدة عندما يخرج العنف عن حدود المؤسسة العقابية؛ أي عندما يُنادى على المواطن لحمل السلاح من طرف وطنه المعرض للخطر، أو عندما تضعه وضعية ثورية في موضعِ تصادمٍ بين عنفين، عنف يدافع عن النظام القائم، وآخر يدفع في اتجاه ولوج طبقات اجتماعية جديدة، حاملة لرسالة للعدالة الاجتماعية، إلى السلطة، أو أخيرا حينما تمُدّ الحرب التحررية يدَ العونِ للحرب الأجنبية من أجل كسر دولة طغيان قائمة.

شيئا فشيئا، كل إشكال العنف في التاريخ ينكشف أمامنا: من خضوع المواطن السلبي، في دولة قائمة، إلى الانخراط في هيئة القضاء من لدن مواطن نشيط – من هذا العنف الشرعي إلى الدفاع المسلح عن الدولة- وأخيرا العنف الدفاعي وبصورة ما المحافظ على الدولة إلى العنف المؤسِّس instauratrice؛ هناك تدرج، لا تكف خلاله الهوة بين الحب والعنف عن الاتساع. وفي الحد الأقصى لهذا الطلاق، يبدو العنف محركا للتاريخ، فهو الذي يرفع على مسرح التاريخ قوى ودولا جديدة وحضارات مهيمنة وطبقات حاكمة. وتاريخ الإنسان يبدو آنئذ مطابقا لتاريخ السلطة العنيفة. وبصورة من الصور، ليست المؤسسة هي التي تضفي المشروعية على العنف، بل العنف هو الذي يولد المؤسسة، عبر إعادة توزيع القوة بين الدولة وبين الطبقات.

قد توجد وسيلة لوضع صمام أمان لهذا الانزلاق من العنف العقابي البسيط إلى العنف المؤسِّس: سيكون ذلك بمثابة وضع حد دقيق وجلي وغير قابل للنقاش ولا مشروط للعنف. وهذا الحد سرعان ما جرى العثور عليه. إنه النهي عن القتل: "لا تقتل". وهذه الوصية السلبية كلية، وهذا الأمر الذي يتخذ صورة نهي، هو بالفعل المبدأ الوحيد للفعل الذي يمكنه الإبقاء على ضَرْبَيْ الإتيقا معا، إتيقا الحب وإتيقا القاضي. فوحدها عقوبة تظل فيما دون القتل، فيما دون عقوبة الإعدام، لا تتناقض تماما مع الحب. ومن الأكيد أن هذه العقوبة لا تتمم الحب؛ لأن "الحب وحده يتمم القانون"، لكنها على الأقل لا تنفيه. وبهذا المعنى يمكن القول إنه إذا كانت الوظيفة العقابية للدولة تظل، بالنظر إلى أصلها وغايتها، غريبة عن مملكة الحب، إلا أنها تظل متوافقة معها، بقدر ما تظل في حدود الامتناع عن القتل. ففي غياب وحدة الأصل والغاية، يمكن أن يكون للبيداغوجيتين معا، بيداغوجيا التضحية وبيداغوجيا الإكراه، حد مشترك على مستوى نظام الوسائل، وهو ما يوطد العلاقة، بصورة نهائية بين السياسي وبين الإتيقا. فنظام الإحسان هو احترام الشخص في حياته وكرامته، وعنف القاضي محكوم، على هذا النحو، بواسطة إتيقا الوسائل.

تتجلى هاهنا قيمة الطابع السلبي والناهي والتحريمي للوصايا العشر Décalogue؛ فالوصية القائلة: "لا تقتل" ترسم الحد الذي لا يمكن لعنف الدولة تجاوزه، وإلا فإنها تجازف بالخروج، هي نفسها، من دائرة "الخير"، حيث يظل عنفها معقولا. وإذا كان هذا المنع لا يكشف، بلا شك، كيف تصدر إتيقا العقاب عن إتيقا الإحسان، إلا أنه يُظهِر، على الأقل، ضمن أية شروط يكونان متوافقين عمليا.

لكن، هل تستطيع الدولة التقيد بحدود إتيقا الوسائل هذه؟ أريد القول: هل تستطيع أن تظل دولة، بدون أن تخرق الوصية الناهية عن القتل ولا الوصايا الأخرى المتعلقة بالحفاوة، واحترام الوعد، واحترام البر، واحترام ملك الغير وغيرها؟

فهاهنا تنكشف الدولة كجبروت باعث على القلق، لا يتقيد ولن يتقيد أبدا بحدود إتيقا الوسائل. فالدولة هي هذا الواقع الذي اتخذ القتل على الدوام وإلى حدود اليوم شرطا لوجوده واستمرايته، وقبل ذلك شرطا لإقامته. هذه هي الحقيقة الفظيعة التي استخلص ماكيافيل Machiavel في كتاب "الأمير" كل نتائجها، دون اعتبار لإتيقا الوسائل. لقد طرح السؤال: كيف يمكن لدولة جديدة أن تتأسس أو تنشأ؟ وانطلاقا من هذا السؤال، بسط، بلا هوادة، كل الشروط الفعلية لهذا التأسيس: قوة الأسد ومكر الثعلب. ويخلص: إذا أراد الأمير النجاح، فيجب عليه أن يكون قاتلا وكاذبا؛ وبلغة إنجيلية: يجب أن يكون شيطانيا. ومن اليسير نقض خلاصة ماكيافيل –"لابد من العنف والشر"- بدعوى أن القتل منهيٌّ عنه. لكن سؤال ماكيافيل يظل قائما: "كيف يمكن إقامة دولة تخرق النهي عن القتل، وتقطع بذلك الوشائج التي تصل إتيقا الإكراه بإتيقا الإحسان؟"

إن الحرب هي الدليل بامتياز؛ أي الوضعية القصوى التي تضع كل فرد أمام سؤال ماكيافيل. فلماذا تطرح الحرب إشكالا؟

سيقول الممتنع عن القتل لوازع عقدي l’objecteur de conscience: "لا وجود لإشكال، فالحرب هي الفعل الذي يتجاوز بواسطته عنف الدولة الحد، وينتهك وصية النهي عن القتل؛ فأنا إذن في حلٍّ من واجب الطاعة، ومن خلال عصياني، فأنا شاهد على وحدة الإتيقا. والدولة لا يمكن أن تكون لها إتيقا غير إتيقا الفرد، والقتل منهي عنه بالنسبة إليهما معا". ويتعين القول بوضوح وبحزم بالغين إن الممتنع عن القتل لوازع عقدي على صواب عندما يرفض تبريرات الحرب انطلاقا من عنف القاضي. فعنف القاضي شيء، والحرب شيء آخر. عنف القاضي عنف مؤسس ومحكوم بالقانون، وتمارسه محكمة مختلفة عن المدَّعِي والمدَّعَى عليه، وأخيرا يمكن الإبقاء عليه في حدود احترام حياة وكرامة المعاقب المذنب. وباختصار، العقوبة، في نظام القانون الجنائي المتحضر، من شأنها ألا تتعارض مع الحب، حتى وإن تكن تتممه حقا: يتعين إذن الإعراض عن الاستنباطات الماكرة التي قد يُزعم بها إضفاء المشروعية على الحرب انطلاقا من وظيفة القاضي. لقد كان لازما إضفاء المشروعية أولا على عقوبة الإعدام، وإذن وضع القاضي مسبقا على أرضية القتل. وكان يتعين، إضافة إلى ذلك، تخيل تفويض ما من طرف محكمة افتراضية من شأنها أن تضع على عاتق الدولة مهمة معاقبة أشرار الخارج وخوض الحرب كضرب من القانون الجنائي الخارجي. فالطابع الخيالي والماكر لهذا الاستنباط بديهيٌّ. والحرب كانت ويجب أن تظل، في نظرنا، هذه الفاجعة، وهذا الخروج للفوضى من عقالها، وهذه التقهقر، في العلاقات الخارجية، علاقات الدولة بالدولة، إلى مستوى الصراع من أجل البقاء. فهذا اللامعقول التاريخي يجب أن يظل غير مبرر وغير قابل للتبرير. والحدث الذي يكرس القطيعة التامة بين الإحسان والعنف، من خلال كسر الرابط الهش -النهي عن القتل- الذي يحافظ عليهما معا، لا يمكن أن يكون موضوع استنباط أخلاقي.

لماذا تطرح الحرب، بالرغم من ذلك، إشكالا؟ لأنها ليست فقط القتل الممأسس، وبدقة أكبر لأن قتل العدو يسير جنبا إلى جنب مع تضحية الفرد من أجل البقاء الفيزيائي للدولة التي ينتمي إليها. فإلى هذا الحد، تطرح الحرب ما سأطلق عليه إشكال "إتيقا الضياع" « éthique de détresse ». وإذا كانت الحرب لا تطرح بالنسبة إليّ إلا إشكالا واحدا: "هل سأقتل العدو أم أنني سأمتنع عن ذلك؟" فوحدهما الخوف وصنمية دولة أُضْفِيَ عليها طابع إلهي من شأنهما أن يفسرا خضوعي لدولة مؤذية méchante. وهذان الباعثان يديناني تماما. وواجبي الحق سيكون الامتناع عن القتل بوازع عقدي.

لكن الحرب تطرح عليّ سؤالا آخر: هل سأخاطر بحياتي من أجل بقاء الدولة التي أنتمي إليها؟ فالحرب، في هذه الوضعية القصوى، إنما هي هذه الوضعية العبثية التي تضع جريمة القتل على مقاس التضحية. فخوض الحرب، بالنسبة للفرد، هو في الوقت نفسه، قتل الإنسان الآخر؛ أي مواطن الدولة الأخرى، ووضع حياته على المحك من أجل ضمان استمرار الدولة التي ينتمي إليها في الوجود.

إن هذا الإشكال لا يتطابق مع إشكال مشروعية الحرب بالنسبة إلى الدولة. وكما سبق ورأينا، فالتبرير الأخلاقي للحرب كعملية عقابية تبرير كاذب. وإشكال البقاء المادي للدولة والمحافظة المادية عليها مقابل حياتي وحياة عدوي، هو اللغز البشع الذي يضعني وجود الدولة أمامه. ومن باب الأمر الواقع إلى اليوم – أقول إلى غاية الآن؛ لأن الحرب هي في طور تغيير طابعها جذريا إلى حد أن إشكال البقاء المادي للدولة على وشك أن يفقد كل معناه -، إلى غاية اليوم، ضَمِنَت الدول بقاءها واستمراريتها بواسطة الحرب. فقد أتاح هذا العنف غير القابل للتبرير – عبر المعاناة والخراب- استمرارية ليس قوة أو جبروت فقط، بل أيضا قيم الحضارة. لنذهب إلى أبعد من ذلك، كثيرا ما يُظهر التاريخ أن أشكال الاستبداد الأكثر فظاعة، والأنظمة السياسية الشمولية، لم تُكسَر شوكتُها إلا من الخارج، وبواسطة القوة. وباختصار، توجد حروب محافظة، وحروب تحررية، وحروب مؤسِّسة؛ وبالرغم من ذلك، فإن الحرب بما هي كذلك تظل غير مبررة وغير قابلة للتبرير.

وإذا كانت الحرب توجد، بالضبط، على خط تماس ضربين من الإتيقا، إتيقا الإحسان وإتيقا الإكراه، فإنها تحكم على الفرد بـ "إتيقا الضياع". والباعث الوحيد على طاعة الدولة في حمل السلاح وفي الحرب، هو استمراريتها في الوجود، وعلى هذا النحو، يتأتى للقاضي أن يوجد. فطاعتي تقوم على الأرضية غير الإتيقية للوجود المحض والبسيط للدولة التي أنتمي إليها، لكنها ليست من دون أساس، مادام أنها، حتى وإن لم تكن قرارا لهيئة قضائية، ودون أن تكون، بأي حال من الأحوال، تطبيقا لعدالة عقابية، بمثابة الشرط الوجودي لكل قرارات الهيئة القضائية؛ فوجود الدولة هو الباعث الحق والوحيد للمواطن المسلح والقاتل. ولهذا لا يمكنني الرضا بالطاعة؛ لأن طاعتي تكرس خطيئة الدولة التي أنتمي إليها، وبقاؤها أو استمراريتها المادية، التي أشارك فيها، يعني كونها مذنبة أو مدانة؛ إذ لا أسهم في وجودها المحض والبسيط إلا بالمصادقة على أَذِيَتِها méchanceté بواسطة القتل.

هل سأعلن العصيان؟ إذا كنت قادرا على تحمل تبعات ومعنى ذلك. التبعات تنطوي، بالطبع، على خطر آخر بالموت بالنسبة إلي. لكن هذا ينطبق على المعنى أيضا؛ لأن العصيان بدوره بمثابة إتيقا للضياع؛ إذ في الوقت نفسه الذي يشهد فيه عصياني على الوحدة الخفية بين أخلاق الأخ وأخلاق القاضي، فإنه، في الآن ذاته، يضع الدولة التي أنتمي إليها في خطر؛ لأنه لا يكفي القول إن الإعلان الجذري للعصيان، بالنظر لندرته، ليس من شأنه إضعاف الدولة بشدة، بل يجب أن أتصرف طبقا لفكرة أن قاعدةَ فِعْلِي يمكنها أن تصير قانونا كونيا؛ فمعنى فعل عصياني، وقد امتد إلى الجميع، هو إذن بمثابة تهديد بالنسبة إلى الدولة التي أنتمي إليها، التي قَلّصْتُ من حظوظها في البقاء. هذا هو المعنى الذي يجب عليّ قبوله وحتى المطالبة به، إذا أعلنتُ العصيان: ففي الوضعية القصوى للحرب، رَفْع الإقرار بالأمر الذي ينهى عن القتل إلى المطلق، يضع الدولة التي أنتمي إليها في خطر، ومن خلال ذلك مواطنيها. ولا حق لي في ذلك، إذا لم أقبل، إضافة إلى الخطر الناجم عنه، معناه، الذي يتمثل في التهديد المحدق بالدولة التي أنتمي إليها، والتضحية بها بصورة من الصور.

ومن الممكن، في حالات قصوى معينة، أن تصير التضحية بالدولة التي أنتمي إليها، واجبا سياسيا، وليس فقط عقيدة مطلقة. فأمام قرار كهذا وجد بعض المعارضين للنازية في ألمانيا أنفسهم؛ إذ يمكن في يوم ما أن أريدَ هزيمة الدولة التي أنتمي إليها، إذا لم تكن جديرة مطلقا بالبقاء والاستمرار؛ أي إذا لم يكن بوسعها البتة أن تكون دولة العدالة والحق؛ وباختصار، إذا لم تكن دولة قط. وهذا القرار هو قرار فظيع، وهو يحمل اسما: واجب الخيانة. لكن هذا القرار، مثله مثل غيره، لا يمكنه أن يظل في سجل اللاعنف، فعاجلا أو آجلا سيتجذر من جديد في نظام من العنف؛ لأنني لا يمكن أن أريدَ إرادةً إيجابية ومفكرا فيها، موتَ الدولة التي أنتمي إليها، دون أن أريد، في الوقت نفسه، عبر الجمع بين هاتين الفاجعتين الكبيرتين: الحرب والثورة، التأسيسَ العنيف لدولة جديدة ولمشروعية جديدة ولسلطة جديدة، ستقتضي مني، بدورها، الطاعة في حمل السلاح والقتل.

بيد أن الامتناع عن القتل لوازع عقدي شيء آخر؛ إذ إنه يرفض أن يتموضع في أفق انهزامية سياسية لا تكتسي كامل معناها إلا في إطار عنف آخر، تسلمه هذه الانهزامية مفاتيح المدينة. فالامتناع عن القتل لوازع عقدي، يريد أن يظل إيمانا خالصا. وهذا أمر حسن، لكن عجزه آنئذ عن تحمل مسؤولية نتائجه السياسية، وأيضا كل هذه الآثار على توزيع القوى في العالم، وقبل ذلك على المصير المادي الوجودي للدولة التي أنتمي إليها؛ فهذا العجز هو خطيئته. ولذلك، فهو أيضا بمثابة "إتيقا للضياع".

إننا نوجد، غالبا، في واحدة من ضروب "إتيقا الضياع" هذه. وبرتولت بريخت Bertolt Brecht لم يكف عن إثارة الانتباه إلى أضرار الطيبوبة، وإلى "الإغراء الفظيع للطيبوبة"، وإلى أخطار الطيبوبة في عالم مؤذٍ. وهكذا تنقسم الإتيقا، من دون توقف، بين "إيمان" أو "قناعة" بالطيبوبة، عاجزة عن التموضع سياسيا، وضارة على المدى البعيد أحيانا، وبين "فعالية" قاتلة بالنسبة للناس، وهدامة بالنسبة إلى الطيبوبة نفسها. وهذا الانقسام أو التفكك هو الثمرة المرة على الدوام للوجود السياسي وقد أصابه الخَبَل.

لنستجمع أفكارنا مرة أخرى: لقد فكرنا، في الجزء الأول، في التنافر الأصلي بين إتيقا الحب وإتيقا القاضي، واكتشفنا شرخا دقيقا بين الحب الذي يجابه الشر بالخير، وبين العقوبة التي تكافئ الشر بالشر من أجل خير الشرير. وهذا التنافر الأصلي لن يكون صورة من الشر الجذري، لو استطاعت الدولة أن تظل في حدود إتيقا الوسائل، التي، من خلال النهي عن القتل، من شأنها أن تضمن وفاق الإكراه مع الحب، أو على الأقل تمنعه من أن يكون الضد المطلق له. والدولة هي هذا الواقع المحافظ عليه والمؤسس بواسطة العنف المميت. ومن خلال هذه العلاقة مع ما ليس قابلا للتبرير، فإن الدولة تضع الإنسان أمام خيار يصعب تحمله بين ضربين من "إتيقا الضياع": أحدهما يقبل القتل من أجل ضمان البقاء المادي للدولة، ومن أجل أن يكون هناك قاض، والآخر يقع في الخيانة صونا للإيمان.

وهذه الوضعية القصوى، حيث تنقسم الإتيقا إلى ضربين من إتيقا الضياع، ليست، بلا شك، وضعية ثابتة، ولا حتى دائمة، ولا حتى متكررة، لكنها تلقي الضوء، مثل كل الأشياء القصوى، على الوضعيات المتوسطة والعادية. إنها تؤكد أن الحب والإكراه، سيسلكان، إلى غاية آخر يوم، جنبا إلى جنبا، بوصفهما بيداغوجيتي النوع البشري، المتقاطعة تارة، والمتباعدة تارة أخرى.

ونهاية هذه الثنائية، ستكون "المصالحة" التامة بين الإنسان والإنسان، لكنها ستكون أيضا نهاية الدولة؛ لأنها ستكون نهاية التاريخ.

* مصدر النص:

Ricoeur (Paul), Histoire et vérité, Éditions Seuil (collection Points Essais), Paris, 1955-2001, p.: 278-293

*** المترجم.

**** يضم كتاب "التاريخ والحقيقة" « Histoire et vérité »، الذي اقتطف منه النص المترجم، عددا من المقالات والمحاضرات التي قدمت في مناسبات متفرقة ومختلفة، لكنها تتميز بوحدة الإيقاع والموضوع. يقول ريكور في تصدير الكتاب: "كل الدراسات التي ضُمنت في هذا المصنف هي كتابات ظرفية، إذ إنها لم تصدر عن سير داخلي لتفكير متمكن من موضوعاته، وبالأخص من ترابط هذه الموضوعات؛ فجميعها يقف وراءها حدث ما: مناقشة في مجموعة عمل، أو منتدى أو مؤتمر، أو ذكرى محتفى بها بألم أو ببهجة. ومع ذلك، فهذه النصوص المتفرقة بدت لي قابلة لتنظيم معين، بفضل قرابة على مستوى الإيقاع والموضوع، وبالأخص بفضل انسجام غير مقصود، أحاول هنا إيجاد قاعدته، عبر القيام بنقد ذاتي". ينظر:

Ricoeur (Paul), Histoire et vérité, Éditions Seuil (collection Points Essais), Paris, 1955-2001, p.: 9.

***** الكلمات بخط أسود غامق وضعت بخط مائل في النص الفرنسي [المترجم].

[1] حتى وإن لم يكن للفصل Rom. 13: 1 خلفية في علم الشياطين ("ليظل كل شخص خاضعا للسلطات القائمة المنصبة فوقنا")؛ I Cor. 8: 2 ("لم يعرف أي أمير من أمراء هذا العالم الحكمة التي نعظ بها الرجال المهتدين") إلا أنه لا يمكن أن يفهم من دون هذا السياق.

[2] الفكر الأسطوري، بهذا المعنى، لم يستبعد من لدن التفكير العقلي. ومفهوم "النظام" ستتم استعادته في ثيوديسا أقل أسطورية، وأقل أخروية، هي ثيودبيسا الحق الطبيعي. لكن هذا التقدم من زاوية نظر أخرى بمثابة تقهقر؛ لأن القضايا القديمة لعلم الشياطين أكثر توافقا مع الطابع المميز لـ "قوة" الدولة.